الديمقراطيَّة أشدُّ الصادرات الأمريكيَّة فتكا

غلاف كتاب الديمقراطية أشد الصادرات الأمريكية فتكا.jpg

مُنى أبو زيد

مؤلف هذا الكتاب هو ويليام بلوم، أحد أهم المتخصصين في السياسة الأمريكية الخارجية، ممن لا ينتمون إلى التيار السائد. ترك منصبه بوزارة الخارجية عام 1968؛ بسبب معارضته لحرب فيتنام، وأصبح بعد ذلك مؤسس جريدة "واشنطن فري برس" ورئيس تحريرها. وفي الوقت الحالي، يُصدر بلوم نشرة إخبارية شهرية على الإنترنت بعنوان "تقرير معادٍ للإمبراطورية" (Anti-Empire Report).

يشتملُ الكتاب على مُقدِّمة وعدة فصول. يذكر المؤلف في المقدمة أنَّ الولايات المتحدة تسعى للهيمنة على العالم، وأنها -في سبيل إدراك هذا الهدف- على استعداد لاستخدام أية وسيلة تراها ضرورية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، قامت الولايات المتحدة -منذ الحرب العالمية الثانية- بما يلي: تدخلت في الانتخابات الديمقراطية في ثلاثين بلدًا على الأقل، وحاولت اغتيال أكثر من 50 زعيمًا أجنبيًّا، وأمطرت شعوبَ أكثر من ثلاثين بلدًا بالقنابل، وحاولت قمع حركات شعبية أو قومية في 20 بلدًا. وفي المجمل، قامت الولايات المتحدة بتنفيذ واحدة أو أكثر من العمليات المذكورة في مناسبة أو أكثر من مناسبة في واحد وسبعين بلدًا (أي أكثر من ثلث بلدان العالم)؛ الأمر الذي نجم عنه إنهاء حياة عدة ملايين من البشر، والحكم على ملايين آخرين بالعيش بائسين معذبين، علاوة على مسؤوليتها عن تعذيب آلاف لا تحصى من البشر الآخرين. وقد جلبت السياسة الخارجية الأمريكية كراهية غالبية الناس في العالم ممن يستطيعون، بأسلوب أو بآخر، تتبع أنباء ما يقع من أحداث، وممن يُلمون ببعض أجزاء التاريخ الحديث.

وتحت عنوان "سياسة الولايات المتحدة مقابل العالم"، يُشير المؤلف إلى أنَّ كثيرًا من الأمريكيين يؤازرون بشاعات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، على الرغم مما يواجهون به من وقائع، ومن براهين على زيف تصريحات حكومتهم. ويرجع المؤلف هذا الأمر إلى قصور في التعليم الأمريكي الذي يسمح بمدركات فكرية خاطئة، ونشر أوهام تحول دون أن يتبيَّن الأمريكيون الخطأ وسط هذا الزيف التعليمي والإعلامي.

ويعرض المؤلف النقاط الرئيسية لهذا الزيف؛ وهي:

1- إن أكثر الدروس أهمية، ويجب العمل على أن تستوعبه عقول الأمريكيين، هو أنَّ نوايا السياسة الخارجية الأمريكية ليست طيبة.

2- إن الولايات المتحدة لا يهمها هذا الشيء المسمى "ديمقراطية"، أيًّا كان عدد المرات التي يستخدم فيها الرؤساء الأمريكيون ذلك اللفظ. فمنذ عام 1945، حاولت الولايات المتحدة الإطاحة بما يربو على خمسين حكومة، غالبيتها منتخبة ديمقراطيًّا، وتدخلت تدخلاً فجًّا سافرًا في انتخابات ثلاثين بلدًا على أقل تقدير.

3- إن دافع الإرهابيين المعادين لأمريكا ليس هو الكراهية، أو الحقد على الحرية أو الديمقراطية أو الثورة الأمريكية أو الحكم العلماني، أو الثقافة؛ بل إنَّ دافعهم هو ما ارتكبته السياسة الخارجية الأمريكية من بشاعات ضد أوطانهم على مدى عقود.

4- لا تعادي الولايات المتحدة الإرهاب كإرهاب، بل تعادي فقط الإرهابيين غير المتحالفين مع الإمبراطورية؛ حيث يوجد تاريخ طويل شائن لدعم واشنطن للإرهابيين المعادين لكاسترو، حتى حينما ارتكبوا عملياتهم داخل الأراضي الأمريكية. كما توفِّر الولايات المتحدة أيضًا دعمًا خاصًّا للإرهابيين الذين قاتلوا في صفوف الجهاديين الإسلاميين في كوسوفو والبوسنة وإيران وليبيا وسوريا؛ بمن فيهم هؤلاء الذين لهم روابط معروفة بتنظيم القاعدة؛ وذلك من أجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية.

5- لم تمثل العراق أي نوع من التهديد للولايات المتحدة. وهي واحدة من بين الأكاذيب التي لا تنتهي -وفق تعبير المؤلف- بل هي أكثر تلك الأكاذيب خُبثًا وشرًّا؛ حيث إنها الأساس الضروري لجميع الأكاذيب الأخرى.

6- ليس ثمة شيء يُسمَّى المؤامرة الشيوعية الدولية، بل الموجود على أرض الواقع هو أناس يعيشون في بؤس وتعاسة، ينتفضون احتجاجًا على أحوالهم وضد الحكومات القامعة، التي عادةً ما تساندها الولايات المتحدة.

وتحت عنوان "الإرهاب"، يذكر المؤلف مقولة المؤيدين للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، تقول هذه المقولة: إن هذه السياسة منذ 11 سبتمبر 2001 قد أتت ثمارها، ويبرهنون على ذلك بعدم حدوث أية هجمات إرهابية ناجحة بالداخل الأمريكي طوال تلك السنوات.

ويعقِّب المؤلف على هذا أن الأهم هو أن الولايات المتحدة قد ظلت لسنوات منذ 11 سبتمبر، هدفًا للهجمات الإرهابية في عشرات المناسبات، حيث وقعت هجمات على أهداف عسكرية ودبلوماسية ومدنية ومسيحية...وغيرها. أهداف مرتبطة بالولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا ومنطقة المحيط الهادي، كما وقعت هجمات مروِّعة في مدريد ولندن، وهما من حلفاء الولايات المتحدة، اعتراضًا على الحرب.

وتحت عنوان "العراق"، يرى المؤلف أنَّ بداية التدخل في العراق كانت بأكاذيب كبيرة، وانتهى الأمر بأكاذيب أكبر. فقد بدأ غزو العراق بادعاء وجود أسلحة كيميائية، وانتهت الحرب -التي ظنَّ الأمريكان أنهم أسعدوا بها شعب العراق- إلى تدمير نظام تعليمي بلغ 84% من مؤسسات التعليم العالي وهدمها ونهبها. ثم تم تنضيب المخزون الفكري بدرجة أكبر؛ حيث اضطر آلاف الأكاديميين والمهنيين للفرار خارج البلاد، أو تم خطفهم أو اغتيالهم. إضافة إلى فقدان نظام رعاية صحية فاعل، وضياع صحة الجماهير، واجتاحت الأوبئة المعدية السكان في أنحاء البلاد.

وذكر تقريرُ الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أنَّ أربعمائة ألف طفل عراقي يعانون من نقص خطير في البروتين. ومثلت الوفيات الناجمة عن سوء التغذية وعن أمراض يمكن الوقاية منها نسبة كبيرة، خاصةً بين الأطفال. كما فَقَدَ آلاف من العراقيين سيقانهم أو أذرعهم بسبب القنابل الأمريكية العنقودية التي لم تنفجر، والتي أصبحت بمثابة ألغام أرضية.

وتم تدمير آثار العراق ومقتنيات متاحفها التي هي من أعظم سجلات العالم لماضي البشرية، دون أن تحميها الولايات المتحدة التي كانت مشغولة بحماية المنشآت النفطية، وفَقَدَ اليهود والمسيحيون وغير المسلمين كثيرًا من الأمن الذي كانوا يتمتعون به في مجتمع "صدام" العلماني، والآن هاجر عدد كبير منهم. وطرد أكراد شمال العراق السكان العرب من بيوتهم، وطرد العرب الأكراد من مناطق أخرى في البلاد.

وتحت عنوان "إيران"، يقول المؤلف إنَّ الإدارة الأمريكية ظلت تردِّد المزاعم القائلة بأن أحمدي نجاد قد أعلن أنه سيمحو إسرائيل من على الخريطة، وأنه قد عقد مؤتمرًا في إيران لمن ينكرون حدوث الهولوكوست. ويُكذِّب المؤلف هذه المزاعم، وأن حقيقة الأمر تخالف تلك المزاعم؛ إذ إنَّ الزعيم الإيراني لم يقل أي شيء عن محو إسرائيل من على الخريطة، وفقًا لمن يعرفون اللغة الفارسية.

أمَّا بخصوص الهولوكوست، فقد قال الرئيس الإيراني إنها تمَّت في أوروبا، ونجم عنها قيام دولة لليهود في الشرق الأوسط، بدلاً من قيامها في أوروبا.. وتساءل: لِمَ يدفع الفلسطينيون ثمن جريمة ارتكبها الألمان؟!

وتحت عنوان "المؤامرات"، يذكر المؤلف أنَّ تاريخ أمريكا وتاريخ العالم مليء بالمؤامرات، وهو نفسه يؤمن بوجود مؤامرات. فمنذ 11 سبتمبر -حيث قُتل فيها أمريكيون- لجأت الولايات المتحدة إلى قتل أكثر من مليون عراقي وأفغاني. وفي حرب الخليج الأولى عام 1991، دمر "تشيني" وغيره من القادة الأمريكيين محطَّات توليد الكهرباء، وأنظمة ضخ المياه والصرف الصحي في العراق، وفرضوا عقوبات على البلد بدرجة جعلت إصلاح بنيتها الأساسية أمرًا بالغَ الصعوبة، ثم عقب اثني عشر عامًا -وبعد جهد بطولي من جانب الشعب العراقي لإصلاح تلك الأنظمة المدمرة- قامت قاصفات الولايات المتحدة بتدميرها كليةً مرة أخرى. كل هذه الجرائم البشعة وغيرها ترتكبها الولايات المتحدة باسم الديمقراطية.

ويؤكد المؤلف أنَّ الولايات المتحدة لم تكن بحاجة لتدمير كل تلك المباني، وقتل البشر بأعداد رهيبة.. لقد كان انهيار مبنى مركز التجارة العالمي كفيلاً بالحصول على موافقة الأمريكيين بالحرب على الإرهاب، وعلى قانون "الوطنية" وإجراءات الأمن الداخلي، والدولة البوليسية الأمريكية.

وقد تشكَّك المؤلف -ومعه عدد آخر- في الرواية الرسمية لانهيار البرجين، ورواية الطائرة التي اصطدمت بالبنتاجون؛ حيث إنَّ الأفلام التي عُرضت توحي بشكل قوي أن التدمير كان متحكمًا فيه عن بُعد.

وتحت عنوان "ليبيا"، يُشير المؤلف إلى قصف الولايات المتحدة لكل من "ليبيا" و"صربيا"، وفي الحالتين أسمتْ الولايات المتحدة القصف "تدخلاً إنسانيًّا". ويصف المؤلف هذا بأنه أسلوب تسويق إمبريالي تروج به الولايات المتحدة لأفعالها، خاصة بين الأمريكيين الذين يريدون تجديد ثقتهم في حُسن نوايا بلدهم، وهناك أناس آخرون يدعمون القصف، ومعظمهم من الليبيين المؤيدين للولايات المتحدة والناتو، ويدعمون أي شيء يخلِّصهم من القذافي حتى لو تم ذلك بالقصف المطول المتواصل لليبيا وتدميرها.

وتحت عنوان "الإعلام"، يصف المؤلف الإعلام الأمريكي بالداعر؛ حيث يشجب النشطاء والكُتاب التقدميون تجاهلَ الإعلام لأخبارهم وآرائهم، ومن ثمَّ لا يطلع عليها جماهير الشعب الأمريكي. كما أنَّ الإعلام الأمريكي يقوم بحذف وإغفال وتشويه الأخبار، مما يُكثر من أخطائه في سرد الوقائع أو نشر أكاذيب فجة؛ مثل ما يُذاع في الإعلام الأمريكي عن تخلُّف المسلمين وعنفهم في الدنمارك، هؤلاء الذين كانوا يحتجون على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لرسولهم.

وتحت عنوان "باراك أوباما"، يذكر المؤلف أن "ليبيا" هي الدولة السادسة التي شنَّ باراك أوباما حربًا ضدها في غضون الأشهر الستة والعشرين منذ توليه الرئاسة. وهو لا يتميز عن سلفه "جورج دبليو بوش"، سوى بلونه الأسود، ولغته الصحيحة المنمَّقة.

وقد تلقَّى أوباما مديحًا من قِبَل الكُتّاب اليساريين في أمريكا، وفي الخارج بسبب خطابه إلى العالم الإسلامي بالقاهرة. في حين أن بإمكان من له معرفة مبدئية بالسياسة أن يتبين بسهولة النفاق في حديث أوباما.. ويبيِّن المؤلف مَوَاطن الضعف في خطاب أوباما، إضافة إلى القصور الأخلاقي والسياسي؛ حيث إنه حذَّر بأسلوب صريح لا لبس فيه استخدام الولايات المتحدة للتعذيب.

وتحت عنوان "المعارضة والمقاومة في أمريكا"، يسأل المؤلف: هل السياسة على وشك التسبب في القلق للعقول والقلوب الأمريكية؟ لقد قامت مدارسهم ومنافذهم الإعلامية المفضلة بمهمة خطيرة لاستدامة جهلهم بما فعله بلدهم لبقية العالم. أما الذي فعلته الولايات المتحدة بالأمس القريب، وما زالت تفعله على أرض الواقع في الشرق الأوسط فيذكر المؤلف نماذج منها:

- إسقاط طائرتين ليبيتين عام 1981.

- قصف لبنان عامي 1983 و1984.

- قصف ليبيا عام 1986.

- قصف سفينة إيرانية وإغراقها عام 1987.

- قصف طائرة ركاب إيرانية وإسقاطها عام 1988.

- قصف طائرتين ليبيتين أخريين وإسقاطهما عام 1989.

- القصف الهائل للشعب العراقي عام 1991.

- استمرار قصف العراق بأسلوب متواصل وفرض العقوبات الجائرة عليها بين عامي 1991 و2003.

- قصف أفغانستان والسودان عام 1998.

- دعمها المعتاد لإسرائيل على الرغم مما تلحقه بالشعب الفلسطيني من دمار وترويع وتعذيب مع إدانتها المعتادة للمقاومة الفلسطينية.

أمَّا الكذبة الكبرى التي رافقتْ الحرب على الإرهاب، فهي القول بأنَّ المجموعات التي تصيبها الهجمات الأمريكية هي جماعات تُبغض الولايات المتحدة وأسلوب حياتها. في حين أن تقريرًا صدر عام 2004 عن "مجلس علوم الدفاع" -وهي لجنة فيدرالية استشارية أُنشئت لإمداد وزير الدفاع بالنصائح المستقلة- جاء فيه: "لا يكره المسلمون حرياتنا، بل الأحرى أنهم يكرهون سياستنا؛ حيث تعبِّر غالبيتهم العظمى عن اعتراضهم على ما يرونه من دعم أحادي الجانب لإسرائيل ضد الحقوق الفلسطينية، وحينما تتحدَّث الدبلوماسية الأمريكية العامة عن الإتيان بالديمقراطية للمجتمعات الإسلامية يُنظر إلى هذا على أنه نِفَاق هدفه خدمة المصالح الأمريكية".

ويؤكِّد المؤلف أنَّ ما يُحفِّز طموح الولايات المتحدة للهيمنة على العالم ليس هو نشر الديمقراطية أو الحرية، أو وجود عالم أكثر عدلاً، أو القضاء على الفقر أو العنف، أو تحسين الحياة على كوكب الأرض، بل يحفزه الاقتصاد والأيديولوجيا.

-----------------------

- الكتاب: "الديمقراطية أشد الصادرات الأمريكية فتكًا".

- تأليف: وليام بـلوم.

- ترجمة: د. فاطمة نصر.

- الناشر: سطور الجديدة، القاهرة، 2015م.

أخبار ذات صلة