أم كلثوم الفارسي
يناقش الدبلوماسي - هانس هيرمان جنوتكة- خلال مقاله المعنون بـ " العلاقات الأوروبية العربية فيما يتجاوز التبادل التجاري والأرضية المشتركة" الحوار البناء والانفتاح على الآخر والتواصل المثمر بين الثقافات والحضارات من أجل التأسيس لثقافة إنسانوية كونية ، فهو يحاول أن يوضح للعالم الإسلامي أنّهم لا ينظرون إليه نظرة تقليدية ولا يحكمون عليه بأحكام مسبقة سلبية، ولكنهم بصدد حوار جاد معه ووقفة احترام أمام هذه الحضارة الكبرى لاسيما وقد أصبح الحوار مع العالم الإسلامي موضوعاً بارزاً بين الاهتمامات الأوروبية والعربية، والكل مشترك فيه ومن ضمن ذلك: المؤسسات غير الحكومية ومؤسسات الأمم المتحدة والجامعات والمؤسسات الدينية مثل الكنائس والأحزاب السياسية، وجميعهم يعتبرون المشاركة في هذا الحوار أمراً أساسياً، ومن الملاحظ أنّ الحكومات تعين سفراء أو ممثلين بشكل كبير للمبادرة في هذه الحوارات أما المتشائمون فإنّهم يدعون أن هذه الحوارات قد أصبحت صناعة أو تجارة حيث يجتمع أصناف مختلفون من البشر في شتى مناطق العالم لتبادل مواقع الاجتماع المشترك ويدعون إلى تكرار الفعاليات نفسها مرة بعد مرة.
ولكن الجديد في طرح "جنوتكة" هذه المرة هو ما أسماه بـ"القوة الناعمة "عند ممارسة سياسة الحوار مع العالم الإسلامي وهي نفسها الفكرة التي تبناها الأستاذ السابق في جامعة هارفرد ومساعد وزير الدفاع السابق جوزيف ناي. إن القوة الناعمة وفقًا لما يراه هذا المفكر الأمريكي هي أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره ومن الجدير بالذكر أنّه إذا ما استخدمت هذه القوة المرنة بشكل حكيم فقد تصبح أكثر فاعلية من القوة الصلبة والعقوبات الاقتصادية أو استخدام التهديدات العسكرية، فالتطور في العلاقات الدولية، وتعقيد موازين القوى ووسائل التأثير أحدث تطوراً ملحوظاً على مصادر وأنواع القوة، و إن الاستمرار في استخدام القوة الصلبة كوسيلة أساسية في إدارة العلاقات الدولية يعبر عن ضيق الأفق لصناع القرار. لذلك يتوجب عليهم التفكير في وسائل أخرى أكثر فعالية من حيث التأثير والنتائج. وعليه تكون مناطات القوة الناعمة هي :
1 الحضارة المادية في كافة أشكالها من كوكاكولا إلى مكدونالدز إلى إنتاج الأفلام ومن المسرحيات إلى الآداب والفنون.
2 القيم التي لا تتغير مثل العدل والديمقراطية وحماية الحياة وحق الحرية.
3 السياسة الخارجية المتلائمة مع تلك القيم التي تراعي مشاعر الآخرين والموجهة على المدى البعيد المنشَّقة في الشكل والجوهر.
إلى هنا قد يبدو الموضوع عادياً جداً فكل ما طرح هو أسلوب لفهم الآخر والتعايش معه ما دمنا أبناء أم واحدة هي هذه الأرض ولكن لا أدري لماذا تنقلني هذه الأفكار البراقة والكلمات اللماعة إلى ما كان قبل عقود خلت. أليست هذه الدعوات هي صورة جديدة للاستشراق والغزو الفكري والعولمة؟ وما دام الهدف استيعاب الآخر واختلافه لماذا الإصرار على لفظ قوة؟ فهذا التعبير – في حد ذاته- وإن لحقته كلمات ناعمة ولطيفة تشير إلى وجود طرفين أحدهما أضعف من الآخر ويستحق الولاية والوصاية، لأنّ الطرف الأضعف عاجز عن إدارة حياته ومقدراته البشرية والاقتصادية كما ينبغي وهذا ما يعني أنها حرب وليست حوارا وإن اختلف الشكل والقالب فالهدف هو محو الآخر الأضعف وفقًا للداروينية السياسية البقاء للأصلح. فالدبلوماسي جنوتكة ما زال يدور في فلك توماس هوبز ونظرته للعلاقات السياسية بين الشرق والغرب ولكن بدلاً عن استخدام سكود يستخدم كوكاكولا!!!
وهنا نقف وقفة مطولة لنفند هذه الدعوات الساعية لخلق برادايم جديد في العلاقات الدولية دماؤه العقائد والثقافات والأخلاق والقيم وضحاياه لا يموتون موتة الانتقال ولكنهم يموتون موتة المفارقة لأمتهم لتستلمهم أمة أخرى قوية بقوة ناعمة!!!
القوة الناعمة هذه تحتاج لقوة ناعمة مثلها تقابلها حتى لا نتلاشى وهويتنا العربية الإسلامية في الآخر الأقوى سواء بقوة ناعمة أم خشنة ولن يتأتى لأن ذلك ما دام دعاتنا غارقين في المحلية ويعتقدون بأنّ محليتهم هي العالم أجمع بينما شبابنا متيمون بكل ما هو غربي؛ فالقوة الناعمة فاعلة وعميقة أكثر مما نتصور فهي تستعملنا أكثر مما نستعملها وتطوعنا أكثر مما نطوعها. كل ذلك من خلال الوسائط الثقافية المتاحة المخترقة للتحصينات المعنوية بإسقاط الأصول والأركان الأساسية للهوية والمعتقد.
فقط كل ما نحتاجه في هذا الموقف أن تكون لدينا درجة عالية من التيقظ والوعي الذاتي حتى لا نفتح لمثل هذه القوى مجالاً للسطو علينا ومحونا من على وجه خارطة الحضارة الإنسانية.
