نموذج عالمي جديد

هند الحضرمية

كان السلام وما يزال الحلم الذي يبدو للمجتمعات البشرية بعيد المنال فما تزال التصدعات التي تستنزف أمن الشعوب في ازدياد ورغم أنّ العالم ظن أنّ السلام العالمي قد تحقق أخيرًا بانتهاء الحرب الباردة التي أسفرت عن انهيار الاتحاد السوفيتي إلا أنّ ذلك السلام لم يتحقق فعليا بعد.   وقد استعرض رضوان السيّد في مقاله المعنون بـ" الدين والمجتمع والدولة: في العلاقات والمرجعيّات والمصائر" مسألة (المرجعية الجديدة) التي ظهرت بعد سقوط الأنظمة الشيوعية.

وقد أثار رضوان تساؤلا مهما حول إمكانية إيجاد مرجعيّة عالميّة من خلال النظام العالمي الجديد ورغم أنّ العالم في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أسقط الأفكار الشيوعية الشمولية إلا أنّ القوى المنتصرة أوجدت أيديولوجيا شمولية جديدة وإن كانت مثلما أشار رضوان أكثر تعددية في الخيارات كإنتاج مرجعية شمولية للسوق، ومرجعية شمولية للعولمة إلا أنّ اكتمال هذه الأيديولوجيا الجديدة اقتضى تحقيق مستويين هما" العودة لفكرة النظام العالمي (الجديد)، وفكرة وجود العدو (المرتبطة بفكرة صراع الحضارات).

وإذا استعرضنا فكرة النظام العالمي كما تطرق إليه رضوان في مقاله سنجد أنّ هذا النظام الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية استند على ركيزتين هما (ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان) وبالنسبة لميثاق الأمم المتحده الذي برز "كإطار قانوني يرسخ نظام الأمن الجماعي ويقوم على أساسًا حفظ السلم والأمن الدوليين" وكحكومة عالميّة يمكن للدول أن تمتلك عضوية فيها، حكومة تتساوى فيها جميع دول الأعضاء لخضوعها جميعا لمبادىء هذا الميثاق ومبادئ الجمعيّة العامة ومجلس الأمن. أمّا بالنسبة لإعلان حقوق الإنسان فهو بمثابة مرجعية شمولية للقيم التي تحفظ كرامة الإنسان والتي يجب أن تعمل بها الدول الأعضاء وتنفذها في مجتمعاتها.

غير أنّ نشوء الحرب الباردة أصاب ميثاق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان بالشلل، فوجود قوتين أيديولوجيتين متعارضتين أوجد خللا في منظمة الأمم المتحدة، بسبب قيام هاتين القوتين باستغلال نفوذهما في إيقاف المشاريع التي لا تخدم مصلحتهما لذلك فإنّ هذه "الأزمات أصبحت خارج نطاق الأمم المتحدة التي لم تستطع إدارتها أو التأثير على مسارها. أمّا بالنسبة للأزمات التي دارت بعيدًا عن صراع القوتين فهي الوحيدة التي تمكنت المنظمة الأممية من أنّ تلعب فيها الدور الحقيقي رغم اختلاف درجة فاعليته " ثم تمّ تفعيل دورها مجددا بعد انتهاء الحرب الباردة الأمر الذي كان وقتها إشارة تدعو للتفاؤل في سبيل  تحقيق الأمن الدولي.

وأشار رضوان إلى بروز محاولة لخلق نظام جديد (ليس ذا مرجعية عالمية) خلال التسعينيات من القرن الماضي موضحًا المؤشرات التي دلت على ذلك والتي تمثلت في "تضاؤل الرجوع للمؤسسات الدولية إذ صرحت بعض القوى الكبرى بنيتها في عدم تنفيذ قررات هذه المؤسسات الأمر الذي أفرز الكثير من الفوضى والصراعات التي فُرضت لها حلول وتسويات من قبل الفريق المنتصر في الحرب الباردة، وتفاقم موضوع الخصوصيّة والنسبية في القضايا الأخلاقية الكبرى واشترك في هذا الأقوياء والمستضعفون، إذ أنّ وجود نموذج شمولي سيهدد خصوصية كلا الجانبين فالأقوياء يرون أنّ الشمولية ستعني المساواة بين الخير والشر والمستضعفين يرون أنّها ستهدد دياناتهم وثقافاتهم التي لايمكن أن تخضع لمرجعيات من خارجها والعولمة الشموليّة ستعني تدخل الأقوياء في دياناتهم، لذا فقد كان إصرار المستضعفين على هذا أعطى الأقوياء تبريرًا لكي لايلتزموا بميثاق الأمم ولا بإعلان حقوق الإنسان، بالإضافة إلى زيادة الترويج لفكرة صراع الحضارات".

وبالحديث عن صراع الحضارات يذكر رضوان الواقع العربي الذي ما يزال إلى اليوم يرى أنّه واقع تحت هذا الصراع وأن الغرب يتآمر عليه لمعادة الإسلام، وإذا كان بعض دعاة صراع الحضارات مثل فوكوياما وهنجتون وغيرهم قد صرحوا بأنّ الحضارة الإسلاميّة ما تزال حضارة ذات أنياب وتخوم دموية، فإنّ بعض الإسلاميين مثل علي عبد الواحد وسيد قطب ومحمد الغزالي قد رأوا فعلا أن مناداة الغرب بحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة ما هي إلا دعوة علمانية تعادي الأديان، خاصة أنّ المسلمين العرب اعتبروا موقف الأمم المتحدة من الصراع العربي الإسرائيلي وقراراتها المنحازة للجانب الأخير موقفا لا يتوافق مع ما تنادي به من قيم؛ لذلك رأى الكثير من الإسلاميين أنّ الإسلام لابد أن يكون خارج الأنظمة الأخرى ليكون كنظام ثالث مستقل وهنا ظهرت الأدبيات التي راحت تخطط لوجود نظام إسلامي مكتمل من كل الوجوه، ويرى رضوان أنّ هذه الأدبيات تحولت في أواسط التسعينيات من كونها مجرد تنظيرات لتصبح سياسات واضحة.

وتطرق رضوان إلى رؤية العالم التي وضحها القرآن والتي تقوم على أربعة أسس مهمة تمثلت في: إدراك العالم الإنساني الذي يقوم على أساس وجود اختلاف بين البشر هذا الاختلاف الذي يعني وجود اختلاف - طبيعي- في التنظيم الاجتماعي بين مختلف الجماعات والمجتمعات وهذا الاختلاف كما يوضح القرآن يمكن أن يتم التعامل معه ايجابيًا من خلال توضيح الهدف من هذا الاختلاف وهو "تحقيق التعارف بين جميع الجماعات والمجتمعات" هذا التعارف سيقتضي معرفة مصالح الآخر وحقوقه، لذا فإنّ الجهل بالآخر هو الذي سيجعل من هذا الاختلاف سببًا لوقوع الشر.

الأسس الأخرى التي تستند إليها هذه الرؤية تتمثل في طبيعة الرسالة التي يدعو لها القرآن وهي رسالة شاملة لأنّها جاءت من مصدر واحد ولأنّ أصل الإنسانية واحد كما أنّها رسالة تتصف بأنّها رحمة وهذه الرحمة شاملة أيضًا لكل الأجناس البشرية ولكل المجتمعات. أمّا الأساس الثالث فيتعلق بمضمون الرسالة التي يدعو لها التي تقوم على "وحدانية الله والتعامل بين البشر على قدم المساواة في القيمة الإنسانية" أمّا عن الأساس الرابع فيتمثل في المقصد من هذه الدعوة كما يتضح في قوله تعالى "ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات" وهو إنجاز الخيّرات فالاختلاف الإنساني سيظل قائمًا لكنّه من خلال المنهج الإيجابي المتمثل في تحقيق معنى التعارف يمكن أن يكون سببا في تحقيق الخير لبني الإنسان.

وقد أدّت الدعوة لصراع الحضارات إلى بروز شعار جديد نادت به الكنائس الكاثوليكيّة ولاقى اهتمامًا وقبولا من قبل المسلمين وهو "حوار الحضارات" الذي دعى إلى إيجاد تحاور بين المسحيين والمسلمين فكانت دعوة للتعايش بين الأديان والحضارات ورفض هيمنة الخصوصيات لكي تتعايش المجتمعات رغم وجود الانفصال القيمي والاختلاف الحضاري.

وكما يقول هانز كينغ " لا يمكن أن يتحقق سلام بين الأمم إن لم يكن هنالك سلام بين الأديان ولا يمكن أن يكون هنالك سلام بين الأديان إنّ لم يكن هنالك حوار بين الأديان ولا يمكن أن يكون هنالك حوار بين الأديان إنّ لم يكن هنالك معايير أخلاقيّة ولن يكتب البقاء لهذا الكون في غياب أخلاق عالمية" وبالإضافة لهذه المنظومة الأخلاقية العالمية التي دعى إليها هانز يضيف رضوان أهميّة وجود منظومة العقل والعدل والأخلاق التي دعى إليها المفكرون المسلمون والتي استنبطت من الرؤية القرآنية للعالم.

 

أخبار ذات صلة