كاملة العبريَّة
لا نُبالغ إنْ قلنا إنَّ بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت أشبه بالثورة الأخلاقية، ثورة على السائد من القيم لم تشهدها جزيرة العرب مسبقا. على أننا عندما نتحدث عن قيم أخلاقية أو إنسانية أتى بها الدين الحنيف، لا نعني أن مجتمع العرب قبل الإسلام "الجاهلية" كان خاليا من القيم الإنسانية؛ ففي ذلك المجتمع البسيط كانت تسود قيم الشجاعة والكرم، ولا ننسى حلف الفضول الذي عُقد لإغاثة المظلوم، والذي أثنى عليه النبي محمد، وقال عنه: "لو دُعيت به في الإسلام لأجبت". ومما يدل على أن القيم الإنسانية وجدت عند العرب سابقا هو الحديث المروي عن النبي محمد "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
في مقاله "القيم الإنسانية في مرتكزات الشريعة الإسلامية"، تحدث جاسم محمد زكريا عن أربع من المرتكزات الإسلامية؛ هي: فردانية التوحيد، وضرورة العدل، وكرامة الإنسان، ونهائية الإسلام والقيم الإنسانية فيها.
بدأ الحديث بفردانية التوحيد وافتتحه بعبارة "إنَّ توحيد الله -سبحانه وتعالى- هو المصدر الأول لتحرير الإنسان من ربقة القيود التي اصطنعها"، وهذا الربط بين التوحيد وتحرير الإنسان صادقٌ إلى حد بعيد؛ فالتوحيد حرَّر الإنسان من قيود الوهم والخرافة، ومن أفكار خاطئة حول الموت والبعث، فتعدد الآلهة مثلا ارتبط بأساطير وخرافات عديدة استحوذت على الناس؛ فكل آلهة كان لها طقوس وعبادات خاصة بها.
تحدَّث الكاتب بعدها عن كَوْن التوحيد حسم الصراع بين الدين والعقل وحرر الإنسان من الصراع بين الدين والعلم، دون أن يوضح لقارئ المقال الكيفية التي اتبعها الإسلام لحسم هذا الجدال بين العلم والدين والعقل، والذي لا يزال بالمناسبة مَوْضع جدل مستمر إلى يومنا هذا. كما كان أيضا من الأفضل لو دعم مقولته هذه بأمثلة يوضحها للقارئ.
ارتبطَ توحيد الله سبحانه وتعالى بطاعته وعدم عصيانه كما يوضح الكاتب، وأنَّ الإنسان حرٌّ في أن يطيع الله من عدمه، وهو بذلك يتحمل مسؤولية فعله؛ فالله لا يُجبر أحدا على طاعته ولا يجبره على معصيته. وحديث الكاتب حول هذا الموضوع يجرنا للحديث حول مسألة الجبر والاختيار في الفكر الإسلامي التي كانت مدار جدل بين المذاهب الإسلامية لقرون عديدة، والتي أتمنى أن الكاتب طرحها لما لها من أثر في موضوع التوحيد -لا يتسع المقال للحديث عن هذا الموضوع بشكل مفصل، ولكن سأستعرض الموضوع بشكل مبسط جدا.
بداية.. فإنَّ الجدل حول الجبر والاختيار ظهر بعد انفتاح المسلمين على علوم اليونان، وبعد دراسة علماء المسلمين للفلسفة اليونانية، والتي ناقش فيها فلاسفة اليونان هذه المسألة، فأرادوا أن يعرفوا ما رأي الإسلام في هذا الموضوع. تفاوتت آراء المدارس الإسلامية في هذا الموضوع؛ فهناك من قال إنَّ الإنسان خالق لأفعاله -منها أفعال الخير والشر- مثل: المعتزلة. وهناك من ذهب إلى أن الإنسان مُجبر في كل أموره لا حول له ولا قوة في أفعاله؛ مثل: الجبرية، والتي تبنى الأمويون رأيها وفعلوا ما فعلوه بحجة أنهم مجبرون في أفعالهم تلك؛ لكي لا يحاسبهم أحد عليها. وهناك من الفِرق من تبنت موقفا وسطا، ألا وهو أن الإنسان مكتسب للفعل ومختار له، لكنه ليس خالقه، وتندرج تحت هذا أغلب المذاهب الإسلامية.
ومنذ دعوة النبي إبراهيم عليه السلام إلى التوحيد وحتى ظهور الأديان الإبراهيمية، كان التوحيد ما بين أفول وظهور غير راسخ بقوة بين الناس، لكن ما يميز الإسلام أنه اعتبر التوحيد الركيزة الأساسية التي تندرج تحتها باقي الركائز والتي شدد عليها، وفي المقال ذكر الكاتب بعضا من اقتباسات المستشرقين حول التوحيد في الإسلام.
ضرورة العدل
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).. أمر الإسلام بالعدل حتى مع المخالفين؛ فالعدل مطلوب من الحاكم للرعية ومن الأب لأبنائه، ومن المدرس لتلاميذه، وبين الناس بعضهم لبعض.
والعدل في الإسلام لا يعرف جاها ولا نسبا ولا عرقا ولا لونا؛ فهو عام شامل لجميع الناس. وذكر الكاتب في المقال اقتباسا يقول: "لذلك؛ فإن تحديد ما هو العدل وما هو الظلم والجور، إنما هو من شأن خالق الإنسان، ولا حق لمن سواه أن يضع للناس مقياسا للعدل والظلم؛ إذ ليس من الممكن أن يضع الإنسان لنفسه نظاما يتجرد فيه عن نقائصه البشرية ويحقق العدل". ولا أرى أن هذه المقولة صحيحة كلها؛ فالإنسان يعلم المواقف التي يجب أن يكون فيها عادلا بما تجبله عليه فطرته وبما تعود عليه الاجتماع البشري وتعارف عليه، ولا أقصد هنا أنه ليس بحاجة لما وضحه الله -عز وجل- في القرآن من نظام يحقق العدالة.
كرامة الإنسان
ذكر الكاتب هنا عدة أدلة للدلالة على عناية الإسلام بكرامة الإنسان؛ منها: تمييزه بالعقل عن سائر المخلوقات واستخلافه في الأرض، وسن التشريعات له منذ ولادته وحتى مماته، كما عظم الإسلام من فعل قتل النفس من جعلها قضية فردية إلى قضية تخص الإنسانية كلها.
ومن مظاهر حفاظ الإسلام على كرامة الإنسان أنه حافظ على كرامة الأسرى من المشركين، ولم يأمر بقتلهم بحجة أنهم أعداء، إنما كان القانون الإلهي واضحا في هذا الشأن (فإما منًّا بعد وإما فداء).
نهائية الإسلام
نهائية الإسلام هي آخر ركيزة إسلامية ناقشها الكاتب، وتتجلى نهائية الإسلام -كما ذكر الكاتب- في إقرار الإسلام بالرسالات والنبوات السابقة، شمولية العقيدة الإسلامية لكل القضايا الكبرى التي شغلت الفكر الإنساني مثل الألوهية، والمصير، والنبوة، والكون. وخصوصية المصطلحات الإسلامية لكل الظواهر الإنسانية والكونية.. لكن الكاتب لم يذكر هنا ما القيمة الإنسانية في نهائية الإسلام؟
وختاما.. أورد الكاتب هنا قيما عظيمة تميز بها الإسلام، وركز عليها في تعاليمه لما لها من أثر في الفرد والمجتمع، لكن يغلب على المقال الأسلوب المستهلك في وصف مرتكزات الشريعة، كما أنَّه لم يوفق في الربط بين مرتكزات الشريعة وبين قيمتها الإنسانية ولم يبينها بيانا حسنا للقارئ.
