ناصر الحارثي
قدم الباحث عبد السلام الطويل في مقاله بعنوان "البابوية الجديدة وسؤال الحداثة" قراءة حول شخصية البابا الخامس والستين بعد المائتين وأهم آرائه في القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية، وكذلك فيما يتصل بالكنيسة الكاثوليكية والديانة المسيحية والديانات الأخرى، حيث يسعى الباحث إلى دارسة دور الدين في المشهد الثقافي الأوروبي وإمكانية عودته للساحة بطريقة أقوى خصوصا مع الزخم الكبير الذي واكب أحداث انتخاب البابا الجديد.
يعد تعيين الكردينال الألماني جوزيف راتزنجر حدثا بالغ الأهمية وشهد استقطابا إعلاميا وسياسيا كبيرا على مستوى العالم، حيث إنّ انتخاب البابا بونوا السادس عشر (Benoît XVI.) كما تنطقه الترجمات من اللغة الفرنسية أو بندكت السادس عشر كما هي الترجمة الألمانية ( (Benedikt XVIالبابا بندكتوس السادس عشر (Benedictus PP. XVI) كما هي الترجمة من اللغة اللاتينية جاء خلفا للبابا يوحنا بولس الثاني، لذا التساؤل الذي كان مطروحا أثناء فترة تعيينه هل ستعود الأديان بقوة إلى أوروبا وذلك بسبب الزخم الكبير الذي رافق تعيين البابا بونوا؟، الجدير بالذكر أنّ البابا بونوا كان أحد الأشخاص المنظمين لعضوية الشبيبة النازية الألمانية في السن الخامس عشر من عمره ليعتبر أحد الأشخاص الذين عملوا في خدمة النازية الألمانية ولكن المصادر تشير إلى أنّه كان مجبرا على ذلك وأنّه نشأ في أسرة معادية للنازية ولقد تأثر في طفولته بوفاة أمه وأحد إخوته وهو ما أثر واقعيا في شخصيته ودفعه للاتجاه نحو دراسة اللاهوت ومن ثم العمل على تقديم محاضرات في اللاهوت في الجامعات الألمانية حتى حصل على منصب رئيس مجمع العقيدة والإيمان ليتفرغ لهذا المنصب الجديد في روما عام 1981.
وعند تأمل التوجهات الفكرية للبابا الجديد نجد أن التوافق الكبير مع سلفه يوحنا بولس الثاني جعل فترة البابا بونوا تتسم بالهدوء لأنّه أحد الفاعلين في عهد يوحنا بولس الثاني ولم تكن هناك تباينات بينهما في أغلب القضايا العامة، أضف إلى ذلك العمر الكبير للبابا بونوا والذي لم يسمح له بأن يمارس أنشطة كبيرة في الفاتيكان حيث إنّه كان يطمح للتقاعد قبل توليه لمنصب البابوية، وقال إنّه كان يدعو ربه في فترة انتخابه ألا يتم اختياره لهذا المنصب لأنه يراه تحديا كبيرا، وربما هذا ما دفعه إلى التقاعد بعد بضع سنوات والذي يعتبر مشهدًا تاريخيا أن يتقاعد البابا ولم يحدث هذا المشهد منذ عقود طويلة ليتفرغ للتأمل والعبادة، وبما أنّ البابا عمل محاضرًا في الجامعات الألمانية وصاحب رؤى فكرية ودينية بالإضافة لإجادته عدة لغات فإنّ مواقفه تجاه الحداثة تتسم بأنها متوافقة مع أغلب أطر اعتقادات الكنيسة الكاثوليكية وهذا ما جعل فترته تتسم بالهدوء والتركيز على إصلاح الداخل ونزع مركزية القرارات الكنسية ويتمثل ذلك في الرؤى والقرارات والخطب التي اتخذها طوال مسيرته في المنصب البابوي.
وعلى الرغم من أنّ أهم التحديات التي تواجهها الكنيسة هو غياب العدو الذي تواجهه وهو ما أدى إلى تهميش دورها خصوصا بعد سقوط الماركسية والاتحاد السوفيتي فإن البابا يرى بأن النازية ناتجة عن الطبيعة البربرية المفتقرة للعمق الأخلاقي والأمر نفسه ينطبق على الايديولوجيا والعنف التوتاليتاري وأن استعادة العمق الأخلاقي لا يتحقق إلا بالإيمان بالله. وعلى الرغم من رؤيته إلى أهمية الإيمان فإنّه يدفع إلى حرية الأديان وأنّ الإيمان نزوع كامن في الإنسان وأنّ النسبية الأخلاقية تتحقق باختلاف طرق تطبيق المعايير الأخلاقية، ويرى جوزيف راتزنجر أهمية توثيق علاقة الإيمان بالأخلاق وأنّ النسبية المطلقة تؤدي إلى الفوضى، وأمّا حول قضيّة العقل والإيمان فإنّه يرى بأنّهما يتوافقان ويكملان بعضهما ولكنّه يرى أنّه في حالة اختلاف العقل مع النص فإنّ التفوق للنص كما أن الإسراف في العقلانية يفضي إلى المادية القاتلة، ولقد أكد البابا وجهة نظر الفاتيكان حول قضايا مهمة وحيوية في المشهد الحداثي الغربي والمتمثل في قضايا الاستنساخ والإجهاض وأطفال الأنابيب ووسائل منع الحمل واستخدام الواقي الذكري والموت الرحيم والمثلية الجنسيّة، حيث إنّه يعتبرها من ضمن التجاوزات الأخلاقيّة للمجتمع وللبحث الطبي والعلمي وأنّها تهين كرامة الإنسان بشكل غير مقبول، وأنّ الحداثة تسقط قيمة الجنين والأعضاء كالرحم وتعتبرها مجرد أشياء لتغرق في نسبية وذاتية مطلقتين، وأمّا في العلمانية فإنّه يقدم نظرة متصالحة نسبيا مؤكدا بأنّ المسيحية تقر مبدأ العلمانية وهو أنّ ما لله لله وما لقيصر لقيصر ولكنه ينكر الصورة الصارمة للعلمانية والتي تسعى إلى إلغاء الدين ومحاربته ويعتبرها بأنّها مغذية للتطرّف وهي الصورة المقابلة للتطرف الديني. لذا هو يدعو إلى عدم انفصال الكنيسة عن واقع الحياة كما أنّه يرفض مشاركتها في القرارات السياسية، وفي الوقت ذاته فإنّ البابا بونوا أشار إلى أهميّة التركيز على مسيحية أوروبا وأنّ عدم الإشارة إلى ذلك في الدستور الأوروبي خطأ كبير، فأوروبا قارة ثقافية وليست جغرافية مستندًا إلى أنّ إنهاء الحروب العالمية تم على يد قادة يؤمنون بالمسيح في حين أنّ من أشعل الحرب هم قادة أصحاب توجهات إلحاديّة.
ويرى راتزنجر أنّ الحرية لا تحقق إلا إذا ارتبطت برسالتها الأخلاقية، كما أنّ الديموقراطية لا تتحقق برأي الجماعة إلا بوجود معنى إنساني عميق ينظمها، وحول التعامل مع الأديان الأخرى فإنّه لا يرى بفكرة أرض الميعاد عند اليهود، وأمّا بخصوص المسلمين فإنّ له موقفًا إيجابيًا يتمثل في زيارته لمسجد في تركيا وتراجعه عن موقفه المتمثل في عدم انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وزيارته أيضًا لمسجد في الأردن، وله موقف آخر سلبي حول محاضرة ألقاها يتحدث فيها حول أهميّة السلام في الديانات، وأشار في حديثه لآيات القتال في القرآن وهو ما أحدث ضجيجًا في العالم الإسلامي ولكن بعد الحادثة، قام باستضافة عدد من السفراء المسلمين مما أدى إلى الهدوء وعبر البابا بونوا عن أسفه لسوء الفهم وتداعيات الموقف.
يمثل استقراء عبد السلام الطويل لمستقبل للبابا بونوا السادس عشر تحليلا مهما جدا لفهم دور الكنيسة الكاثوليكية في المشهد الأوروبي ولأننا في موضع الحكم على قراءته من منطلق أنّ البابا تقاعد وانتهت فترته الزمنية فنحن نستطيع الحكم لأننا اطلعنا على المشهد في حين أن كاتب المقال يسعى للتنبؤ بالمشهد هذا من زاوية؛ ومن زاوية أخرى علينا أن نضع أنفسنا في زمن الكاتب لنكون أكثر دقة في نقد مقاله، أمّا من الزاوية الأولى فإنّ الكاتب لم يكن دقيقا في التصور الذي ستلعبه الكنيسة حيث إنّ الزخم الإعلامي يعكس الدور الطقوسي الذي تلعبه الكنيسة في الفترة الحالية وليس الدور الثقافي فآراء الكنيسة لا تعدو أن تكون نوعًا من العمل التنظيمي المعرفي، في حين أنّ الكاتب كان دقيقًا في تحليلاته لمعظم وجهات نظر وآراء البابا بونوا في عدد من قضايا اللاهوت والقضايا الاجتماعية أثناء فترة توليه منصب البابا في الفاتيكان.
