دور محمد عبده و محمد إقبال في تحديث التفكير الديني

محمد السالمي

أظهرت جهود الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني ومن ثم تلميذه محمد عبده أولى محاولات الإصلاح الديني والمدني والاجتماعي في العصر الحديث في مصر. فقد اتخذ محمد عبده طريقا مغايرا عن أستاذه الأفغاني، الذي يرى أن الإصلاح السياسي بوابة لكل عملية إصلاح، بينما عبده ينظر إلى أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ بالإصلاح التربوي والثقافي، وبذالك اعتبره بعض الدارسين "أحد مؤسسي الإسلام الحديث".

من هنا يأتي الكاتب عبدالجبار الرفاعي في مقالته:"محمد عبده ومحمد إقبال رؤيتان في تحديث التفكير الديني"،من أجل التعرف على المكاسب الحقيقية لجهود محمد عبده، ومكانتها المعرفية والثقافية في تحديث التفكير الديني، و مقارنتها بآثار محمد إقبال؛ كونهما عاشا في فترتين لعصر واحد، واهتم كلاهما بمشاغل إصلاحية متقاربة في منطلقاتها، وإن تنوعت مطامحها  وآثارها ومصيرها. إلا أنها تعد أحد أهم الوسائل لاكتشاف حجم مساهمات محمد عبده والقيمة المعرفية لآثاره، مضافا إلى أن محمد عبده ينتمي إلى مصر والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي، بينما ينتمي محمد إقبال إلى شبه القارة الهندية وفضائها الثقافي المختلف. كما أن الدارس لحركة الإصلاح الإسلامي في الهند لا يمكنه تجاهل أفكار ومواقف محمد إقبال.

ولعل أهم أثر يلخص الرؤية التحديثية لمحمد إقبال هو كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" ، وهو يعبر عن إسهامه الكبير في مهمة إيقاظ أبناء دينه في الهند، وإعادة النظر في الإسلام بمفاهيم معاصرة وحيّة مستمدة بالدرجة الأولى من حصيلة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. واستهلها إقبال بقوله:"أحاول بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة". وتتميز هذه المحاولة بكفاءتها النظرية، وغناها بحشد وفير من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، وبراعتها في توظيف تراث المتصوفة والعرفاء والفلاسفة والمتكلمين والأصوليين والفقهاء.

يأتي الكاتب عبدالجبار الرفاعي ليؤكد على التأثيرات العميقة لمقولات الإسلام السياسي في شبه القارة الهندية على الإسلام السياسي في مصر والبلاد العربية.

وربما كان جمال الدين الأفغاني أول حلقة وصل بين هذين الفضائين الثقافيين، باعتباره من أوائل الذين تعرفوا على الاتجاهات الجديدة في الهند، بعد أن أُخرج من مصر سنة  1879م.

 ولاريب في أن السياقات التاريخية والمحيط الثقافي والفضاء الديني في الهند لا يتطابق مع مصر، ذلك أن مكونات الفضاء الروحي والمعرفي الهندي زاخرة بالتركيب والتنوع، تبعا لتعدد الأديان واللغات والثقافات، بينما يفتقر المجتمع المصري لمثل هذا الفضاء الروحي والمعرفي. وإثر ذلك اتسم أغلب المسلمين في الهند بالتسامح مع أتباع الديانات الأخرى، وكانوا أكثر استعداداً لقبول الآخر والتعايش معه في ذلك العالم الذي يضج بالاختلاف والتنوع. من هنا لم يجد محمد إقبال ما يحول بينه وبين الإفادة من المعاير الإنسانية بغض النظر عن مصدرها، سواء كانت غربية أم شرقية، ولم يصدر في مواقفه الفكرية من معايير عقائدية أو إيديولوجيا اصطفائية تنفي الآخر. وهذه ميزة لاتنفرد فيها آثار محمد إقبال وانما طبعت الإنتاج الفكري للإسلام الهندي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

وتحت عنوان "رؤيتان في تحديث التفكير الديني"، يتسأل الكاتب عن ماهية تحديث التفكير الديني، ولماذا أخفقت كثير من محاولات التحديث؟

 

يؤكد عبدالجبار الرفاعي أنه ليس بوسعنا تقديم إجابات صارمة ونهائية على مثل تلك الاستفهامات، ولكننا نحسب أن إخفاق الكثير من محاولات التحديث يعود إلى عدم القدرة على إدراك الأولويات، والانخراط في مشاغل فكرية واجتماعية تبتعد عن مرمى التحديث، وذلك أن بعض رجال الدين يتقنون فن الإثارة، واستفزاز الجمهور، وعادة ما تقتصر محاولات هؤلاء على إذاعة مجموعة فتاوى فقهية بديلة، في قضايا حياتية حساسة يبتلي بها عامة الناس، وتخالف إجماع الفقهاء.

إن تشكيل معرفة دينية موائمة للعصر يتوقف على إعادة بناء لاهوت جديد أوفلسفة دينية تحدد لنا مكانة الإنسان في العالم، ونمط العلاقة بينه وبين الله، وحقيقة الدين، وحدوده، ومجالات التدين، وطبيعة الظاهرة الدينية. وهذا النوع من الأبحاث يتطلب التحرر من الابستمولوجيا الكلاسيكية. ولعل أهم مايلفت نظر دارسي تراث محمد عبده والمهتمين بتقويم جهوده الإصلاحية هو مجموعة فتاوى جريئة أصدرها في مسائل اجتماعية، أباحت إيداع الأموال في صناديق التوفير وأخذ الفائدة عليها، وحلية ذبائح أهل الكتاب، وجواز ارتداء ملابسهم وغيرها من الفتاوى.

كما يجد الدارس مساهمة محمد عبده في اللاهوت متمثلة في كتابه المعروف"رسالة التوحيد" التي استأثرت باهتمام واسع من دارسي فكره، واعتبرها بعضهم مسعى في سبك علم التوحيد في قالب أكثر تمشيا مع طرائق التفكير الحديث. ويبدو أن تحديث محمد عبده توقف عند المسائل الفقهية والتفسيرية، من دون المساس بالقضايا الإيمانية النظرية الداخلة في نظام علم العقائد أو علم الكلام ،أما محمد إقبال فسعى لزحزحة علم الكلام القديم، وتمحورت جهوده على بناء فلسفة بديلة للدين، ليست مكتفية بذاتها وإنما اغتنت بما استوعبته وتمثلته من معارف الآخر.

ويبدأ إقبال بحثه في بيان إمكانية استخدام المنهج العقلي الفلسفي في مباحث الدين، وتحليل جوهر الدين، والجذور العميقة للإيمان وما ينطوي عليه. وهذا يقوده إلى الاستعانة بآراء جماعة من الفلاسفة والمفكرين الغربيين في تفسير الدين كظاهرة وجدانية وإيمانية واجتماعية، وبموازاة ذلك يحرص على استنباط الموروث الإسلامي، خاصة آراء المتصوفة والعرفاء والفلاسفة.

ومن ثم يأتي الكاتب تحت عنوان "تديين الدنيوي"، ليتطرق إلى قضية أدلجة الدين والتشديد على دنيويته مما يفضي إلى تفريغه من مضمونه الروحي، وبدلا من أن يعمل الدين على تطهير الباطن، وترسيخ النزعة الإنسانية والمعنوية، ومنح العواطف رقة وشفافية، يتحول إلى وسيلة للكراهية، وأداة للصراع.

حيث يؤكد محمد إقبال أن الدين ليس علم الطبيعة أوعلم الكيمياء الذي يبحث عن الطبيعة في قوانين السببية، ولكن غايته الحقيقية هي تفسير ميدان من ميادين التجارب الإنسانية، هو ميدان الرياضة الدينية الذي يختلف عن ميادين العلوم السابقة كل الاختلاف، والذي لا يمكن رد أسسه إلى أسس أي علم آخر. كما يرى الكاتب بأننا أمام محاولة علمية رائدة لاسترداد المدلول الروحي للدين، وإعادة المضمون التطهري الباطني للتدين، وتحريره من المسخ والتشويه الذي تعرض له منذ القرن التاسع عشر.

وفي ختام المقالة يأتي الكاتب ليتساءل عن مصير رؤية كل من محمد إقبال ومحمد عبده في تحديث التفكير الديني.

كان الدكتور عبد الكريم سروش من أبرز المفكرين الإيرانيين الذين وظفوا آراء محمد إقبال، وساهموا بتطويرها في دراسات متعددة، تعالج "القبض والبسط في الشريعة" والتمييز بين الدين والمعرفة الدينية. بيد أن تأثيرات التيار السلفي الوافد إلى الهند في مرحلة لاحقة جنحت بالتفكير الإسلامي هناك لاتخاذ مواقف أحادية إقصائية مغلقة، مما أدى إلى اضمحلال الخط الفكري لمحمد إقبال.

إن المودودي وإن لم  لم يكن باحثاً معمقاً كمحمد إقبال، ولكنه برز بشكل كبير كداعية للإسلام السياسي في الهند وباكستان، وأفكاره تمثل في حقل واسع منها النفي الكامل لرؤية إقبال في تحديث التفكير الديني، فقد لعب خطابه التعبوي دوراً حاسماً في مسار الحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية ومصيرها . وعلى الرغم من خطاب المودودي التعبوي للجماهير، وتجنيدها في اللحظات الحرجة، لم تكن لديه رؤية متطلعة للدور الذي ينبغي على الإسلام أن يلعبه في العالم، باعتباره كان صحافياً أكثر منه مفكراً جاداً. أما محمد عبده فامتد من خلال تلميذه رشيد رضا الذي عمل على إحياء النزعةالسلفية وبعثها من التراث، وحرص على تكريسها عبر مجلته "المنار" وكتاباته المتنوعة.

أخبار ذات صلة