فاطمة بنت ناصر
إنّ الآتي ذكره ما هو إلا قراءة تحليلة في مقال: "التصوف وأثره في شخصية سعيد النورسي وكتاباته"، للكاتب: محمد توفيق رمضان.
وحيث إنّ الكاتب يستعرض في مقاله شخصية معروفة له ولغيره من المفكرين الكبار، هذا ما التمسته وأنا أقرأ مقاله. فوجدت العنوان يسمي الشخصية سعيد النورسي، بينما متن المقال تناوله بلقبه (بديع الزمان) دون الإشارة إلى أنّه لقب هذه الشخصية، وما دوري هنا، سوى تقريب المقال للقارئ العادي، وتشويقه للمعرفة والبحث. لهذا وجدتني ملزمة أنّ أقدم نبذة عن هذه الشخصية أولا، قبل البدء في ذكر سيرته الصوفية وتأثيرها عليه.
من هو بديع الزمان سعيد النورسي؟
هو عالم مسلم كردي، عاش بين (1877 – 1960). شخصية سعت للإصلاح، وطرقت أبوابًا كثيرة له. وبهذا نعني، أنّ هذه الشخصية لم تولد متصوفة وهادئة بطبعها، بل مرّت بالكثير من المتغيرات أبرزها: انضمامه للجهاد عند اندلاع الحرب العالمية الأولى. إلا أن بذرة طلب العلم والهجرة إليه منذ الصغر، وذلك العشق المتوقد للقلم ومداده، جعله مواظباً على الكتابة طيلة عمره. فقد سبقت مؤلفاته الصوفية، مؤلفات أخرى، تلتقي معها في فكرة الإصلاح، وإن اختلفت في كيفية تطبيقها، مثل كتيب: الخطوات الست، وهو رسالة، كتبت في مواجهة حرب الشائعات التي هدفت إلى إضعاف مركز الخلافة أثناء الحرب العالمية، وفيها يشير إلى معسكر الحلفاء وخاصة الإنجليز بـ"الشياطين والكفرة". ويرى أنّ الحرب موجهة ضد الإسلام فقط، حيث يقول بحزم وتأكيد: " إن العقول بلاهة عقل يرى إمكان التوفيق والتواؤم بين أطماع (الإنكليز) ومنافعهم وبين عزة الإسلام ومنفعته ". والقارئ لهذه الرسالة يجد بها لغة حانقة غاضبة، لا تشابه لغة التصوّف التي سوف تلحقها. ولربما لولا هذه المرحلة القاسية، ما تسللت الصوفية الهادئة إلى قلب بديع الزمان النورسي.
التصوف:
من الضروري الإشارة إلى أن الكاتب الأستاذ محمد توفيق رمضان قد ابتدأ مقاله بتبرئة الصوفية، وهو أمر واجب في ظل ما انتشر وساد من أفكار مغلوطة عنها، وأخرى وصلت للشطح، فكفرتها وكفرت ممارسيها. وقد عمت هذه الأفكار، فلم تعد تميز بين الصوفية الصافية، وتلك التي شطحت كما شطحت بعض المذاهب الإسلامية كذلك. فليس التطرف سمة الصوفية فقط، ولكنه داء قد أصاب معظم الفرق ومختلف الأفكار. ومن هنا قام الكاتب بعرض أربعة أسس محل اتفاق جميع الفرق الإسلامية، وهي:
- كتاب الله وسنة نبيه مرجع الجميع، من خالفهما قد حاد عن الدرب.
- تزكية النفس مذكورة في القرآن، وصون النفس كصون باقي الجوارح من ارتكاب المعاصي أمر واجب. وما قوله تعالى (قد أفلح من زكّاها وقد وقد خاب من دسّاها) إلا مثالا على أهمية تهذيب النفس وصونها. وقد سمى البعض ترويض النفس هذا بالتصوف، ومهما تختلف المسميات فصون النفس أمر مهم ولا غنى عنه في علاقة الإنسان بربه.
- وجود المرشد القدوة، أمر مفيد وله أثر كبير في النفوس، والأخلاق الحميدة تؤسس بالتربية الحكيمة. فنرى أنّ هذه القدوة ملازمة للجميع: منهم يسميها شيخا، وآخرون مرشدا، ومنهم من يسميهم أولياء، وغيرها من الأسماء.
- البدع وما خالف نصوص الشريعة، أمر مرفوض من كل الفرق التي تتبع قول نبيها الكريم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
كما أشار الكاتب إلى أنّ الصوفية التي يعنيها في مقاله، سماتها الآتي:
- تعميق الإيمان والتوحيد، ليتجاوز القناعة العقلية الراسخة، حتى تتجذر في القلب والوجدان، فينعكس ذلك على سلوكنا قولاً وفعلا.
- تزكية النفس، مما يشوبها ويراودها من حسد، أو حقد، أو غيرة، أو رياء وغيرها من أوهان وشوائب النفس البشرية.
أما شخصية المقال بديع الزمان سعيد النورسي، فيقول الكاتب إن شخصيته المعروفة قد ساهمت في تكوينها عوامل مهمة أبرزها:
العامل الأول: غزارة العلم والورع وتوقد الذكاء، وتلك الصلة الروحية المبكرة، ويستشهد الكاتب بأن بديع الزمان قد حلم ذات يوم بالشيخ عبد القادر الجيلاني وأورد النص كما أتى في مقاله: حيث رآه – أي الشيخ الجيلاني- في الرؤيا وأمره الشيخ أن يتوجه إلى أحد الكبراء ليأمره بالصلاة، وكان من نتيجة ذلك أن انصاع الرجل لنصح الشيخ، ومن ذلك تورعه في مطعمه ومشربه، وغضه لبصره...). وأثناء بحثي عن أصل هذه الحادثة، وجدتها وقد وردت في سيرة ذاتية لبديع الزمان النورسي، ذكر فيها: (في إحدى الليالي رأى الاستاذ النورسي في المنام الشيخ عبد القادر الجيلاني (قدس سره) وهو يخاطبه:
- "ملا سعيد! اذهب إلى رئيس عشيرة ميران مصطفى باشا وادعه إلى الهداية والرشاد والإقلاع عن الظلم، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف.. واقتله إن لم يستجب".
وأكتفي بكلمات بديع الزمان وهي الفصل والحكم. وحادثة الرؤيا، وتطبيق بديع الزمان لها - كما أراها – لا تدل على التصوف، وإن دلت عليه، فتدل على شطط وشطح في مسلكه الصوفي. فالصوفية روحانية في طبعها، نابذة للعنف في سلوكها.
أمّا العامل الثاني في تكوين شخصية بديع الزمان حسب الكاتب هو عودته من الأسر وشعوره بدنو الأجل وتقدم العمر. وبهذه المرحلة قد دخل الشيخ مرحلة جديدة وعمراً جديداً. وأخذت هذه المرحلة بعدها الصوفي الذي يشير إليه الكاتب، ويقول إنّه تأثر تأثراً كبيرا بالشيخ الجيلاني. حيث يراه في المنام ويأمره بأفعال معينة، كما أشرنا سابقاً. فنلحظ أثر الجيلاني يتجلى في كتابه (فتوح الغيب).
أمّا العامل الثالث، من وجهة نظر كاتب المقال طبعا، فهو عائد إلى كثرة ملازمة بديع الزمان لتلاوة شتى أنواع الذكر والأوراد.
القارئ للمقال يستشف محبة الكاتب لهذه الشخصية، واستطاع بلغة المحبة هذه نقل الحماس والشغف إلى نفسي، لأبحث عنها بنفسي، لأقرأ كتبها، لا ما كتب على لسان الآخرين عنها. وأدعوكم بالمثل: اقرأوا لهما أولا، وعنهما ثانيا، وحللوا مضامين الاثنين بأنفسكم؛ لتكن لكم وجهة نظر أيضًا، ربما تكتبون عنها يومًا ما.
