«تونس المعاصرة»

غلاف كتاب تونس المعاصرة.jpg

لستيفانو توريللي

أمين منار

يُمثل كتاب ستيفانو ماريا توريللي، الصادر بالإيطالية بعنوان "تونس المعاصرة"، قراءةً معمَّقة للأوضاع السياسية والاجتماعية بتونس في الوقت الراهن. ولعلَّ أهمية قراءة توريللي في تعبيرها عن وجهة نظر غربية متابعة للأحداث في هذا البلد، بعيدا عن الرؤى العربية المحاصرة بين مناصرة الثورات التي شهدتها جُملة من البلدان ومعاداتها؛ فالباحث من المتخصصين الإيطاليين في الشأن التونسي، علاوة على كونه يدرس تاريخ الشرق الأوسط السياسي في كلية اللغات والإعلام في مدينة ميلانو، وقد سبق له أن أصدر جملة من الأبحاث القيمة في الشأن نذكر منها "الربيع العربي: التداعيات والآثار" (2012م)، فضلا عن كونه من المساهمين بانتظام في صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية بتحليل القضايا العربية.

يُقسِّم الباحث توريللي كتاب "تونس المعاصرة" إلى قسمين رئيسيين؛ يأتي الأول بعنوان "تونس بين الاستقلالية والسلطوية"، والثاني بعنوان "تونس الجديدة". والكتاب هو عبارة عن قراءة شاملة للأوضاع في تونس قبل الثورة وبعدها، لترابط التاريخ السياسي في هذا البلد حديثه بمعاصره. ومن هذا الباب، يبدو جليًّا أنْ لَا سبيل لفهم ما شهدته تونس في السنوات الأربع الأخيرة من تحول قادَها إلى صياغة دستور جديد، وإلى إرساء نظام ديمقراطي لا يزال هشا، دون عودة إلى ماضي البلد السياسي، لا سيما منذ الفترة الاستعمارية، وإبان عهديْ بورقيبه وبن علي.

 

كانت تونس بين قلة من البلدان العربية التي تنبَّهت مبكرا إلى غور الهوة الحضارية الفاصلة بين بلدان العالم الإسلامي ونظيرتها الغربية. وهو ما دفع تونس إلى خوض إصلاحات عاجلة منذ مطلع القرن التاسع عشر، على أمل التسريع بتدشين تحول حضاري يضع البلاد على سكة اللحاق بالغرب، خصوصا وأنَّ الموقع الجغرافي لتونس يجعلها في تأثرٍ مباشر بما يجري شمال المتوسط؛ إذ يكفي النظر إلى الخارطة الجغرافية لإدراك عمق القلق الحضاري التونسي، بين شرق يعاني من الركود وغرب مُتحفِّز للهيمنة؛ فمدينة بنزرت التونسية تتقدَّم في الشمال بما يتجاوز مدينة سيراكوزا الإيطالية؛ مما يشي بوطأة التأثر بنظام جيوسياسي يملي عليها أن تتعامل معه بيقظة عالية.

وفي نطاق سعي تونس لاجتراح تحولٍ يسير باتجاه النهوض الحضاري، يرصد توريللي أنها كانت أول دولة إسلامية تلغي نظام الرق (1846م)، وأول دولة تسن دستورا (1861م)، وهو ما يُعرَف بدستور "عهد الأمان". غير أن البحث القلق عن سُبُل النهضة بما تمثلَ في تأسيس مدرسة باردو الحربية (1840م) وإنشاء المدرسة الصادقية (1875م) من قِبَل خير الدين التونسي، بقصد اللحاق بركب الأمم المتطورة، لم يُكلل بنجاح؛ جراء افتقار البلد إلى سياسة واضحة اقتصادية واجتماعية ترفد التحول الحضاري المنشود، وهو ما جر محمد الصادق باي مُكْرَهاً إلى توقيع معاهدة باردو في 12 مايو 1881، التي خول بمقتضاها لنظام الحماية الفرنسي -بعلَّة غرق البلاد في الديون الخارجية- إلى وَضْع يده على مقدرات البلاد. ومع أنَّ إيطاليا كانت عينها على تونس كغنيمة استعمارية في نطاق تقاسم تركة الرجل المريض بين القوى العظمى، لم يتيسر لها ذلك، بموجب أن بريطانيا ما كانت تنظر بعين الرضا لجمع طرفيْ بوابة المتوسط في قبضة إيطاليا؛ لذلك باركت حضور فرنسا في تونس.

لم يَحُلْ خضوع البلاد لنظام استعماري بغيض دام 75 سنة، دون تواصل الحراك الاجتماعي والتطلع نحو التحرر السياسي والسعي لترسيخ الوعي المجتمعي. برز في ذلك المسار النضالي، إبان الحقبة الاستعمارية، "الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي" (1936) بقيادة بشيرة بن مراد، ناهيك عن "الاتحاد العام التونسي للشغل" بقيادة مؤسسه فرحات حشاد سنة 1946م، كعنصرين فاعلين في المشهد الاجتماعي التونسي. وبديهي أن النضالات من أجل استعادة حرية البلاد من نير الاستعمار كانت متنوعة ومتواترة عبر العديد من الأشكال السلمية والنضالية، ولكنَّ تبلور معالم الشخصية السياسية التونسية المعاصرة بدأ يلوح منذ نَيْل البلاد استقلالها. وبدا هذا المسعى جليًّا منذ إلغاء نظام البايات بعد أن ساد نظام ملكي على مدى 250 عاما، أي منذ 1705م، وانتهى بإعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957م برئاسة الحبيب بورقيبه.

وبموجب الدور النضالي الذي لعبه بورقيبه في عملية التحرر من الاستعمار، حاز ثقة واسعة بين عموم التونسيين عَقِب الاستقلال، بما خول له صياغة نظام اجتماعي وفق رؤاه وفلسفته. حيث جعلت كاريزمية الرجل، التي اكتسبها قبل الاستقلال وبعده، منه مخلصا وقائدا في الذهنية التونسية. سكنت في هذه الزعامة رؤية غربية ليبرالية كنهج سياسي واجتماعي، كانت توجه وعيه بالتاريخ والسياسة والنهضة. واعتمد النظام البورقيبي منذ مطلع الاستقلال على عنصرين أساسيين في تحقيق ما يصبو إليه: التعليم والعلمانية. وعلى ما يرصد توريللي فقد مثلت السياسة التعليمية الحداثية والغربية حجر الأساس في صياغة المجتمع الذي يرنو إليه بورقيبه. فمنذ سنة 1958م، وجهت الدولة 19 بالمئة من الميزانية العامة إلى التعليم؛ أي ما يعادل الخمس تقريبا، وهو ما أفرز نظاما تعليميا هو الأفضل في البلاد العربية، تسير فيه العربية جنب الفرنسية في التعليم الابتدائي لتغدو الفرنسية هي السائدة أو الوحيدة في المراحل اللاحقة (ص:47).

وبموجب ما يُمثِّله الدين من كابح ورادع للتوجهات البورقيبية المغالية، والمتطلعة إلى خلق مجتمع مُتغرب يرتبط بالغرب أكثر مما يرتبط بالشرق، صادرت الدولة منذ 1956م كافة المؤسسات الدينية لتحولَها إلى مِلْكية تابعة للدولة (إلغاء الأوقاف أو ما يعرف بالحِبِسْ في تونس)، وهو ما أضعف القطاع الديني، ودعم إمكانيات الدولة في خياراتها. وأُتبِع ذلك بإجراء آخر سنة 1956م تمثل في إلغاء المحاكم الشرعية، فضلا عن محاكم الطوائف اليهودية والمسيحية وإنشاء النظام القضائي الموحد. كان ضرب المؤسسة الدينية وتفكيكها، ومن ضمنها الزيتونة التي تحولت إلى كلية للشريعة وأصول الدين، خنقا للإسلام الشعبي وتوكيلا للدولة بشأنه، زيادة على دعوة الرئيس بورقيبه للسفور والإفطار في رمضان ومنع تعدد الزوجات وإباحة التبني...وغيرها من الإجراءات الصادمة؛ مما دفع بمحللين حينها للقول بدخول تونس مرحلة ما بعد الأسلمة. وكما يرصد توريللي أيضا، بخلاف النموذج التركي العلماني الذي انتهج فصلا صارما بين الدين والدولة ذهبت تونس في العهد البورقيبي إلى الاستحواذ على الإسلام وتسييسه. وقد جاء إعلان بورقيبه رئيسا مدى الحياة في 19 مارس 1975 استكمالا لمخطط اختزال الدولة في شخصه (ص:58).

وقد قاد ذلك المسار -برغم تحقيقه في العقود الأولى إنجازات على مستوى اجتماعي- إلى ترهُّل الدولة جراء تراجع قبضة الرئيس بفعل تقدمه في السن، وافتقار البلاد إلى مؤسسات ديمقراطية مستقلة؛ الأمر الذي يسَّر لزين العابدين بن علي الإقدام على "انقلابه الطبي" والاستحواذ على الإرث البورقيبي، وتولي مقاليد الحكم في تونس. ولم يخرج بن علي في سنواته الأولى عن الطابع العام للسياسة البورقيبه، ممنيا الشعب بكبح الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، وسارع حينها إلى اتخاذ العديد من الإجراءات صوَّرتْه في أعين الناس بمثابة المنقذ للبلاد -منها بعض القرارات السياسية والدينية- إضافة إلى تسريح المساجين السياسيين واتخاذ بعض الإجراءات لصالح الفئات الضعيفة. لكن زين العابدين بن علي سرعان ما اصطدم بمطالب ملحة داخل المجتمع؛ تمثَّلت في المطالبة بالحريات والديمقراطية والتي شكلت "حركة الاتجاه الإسلامي" -"النهضة" لاحقا- إحدى محركيها الأساسيين. نشب صراع عنيف بين نظام زين العابدين و"حركة النهضة" ما بين عامي 1991 و1993 تم على إثره إيقاف أكثر من 8000 شخص بتهمة الانتماء إلى تلك الحركة، ووضْع عشرات الآلاف تحت المراقبة الأمنية، وهو ما دفع البلاد نحو أوضاع بوليسية خانقة. حيث بلغت أعداد أعوان الشرطة في عهد بن علي 130.000 عون، وهي من أعلى النسب في العالم في بلد صغير نسبيًّا؛ حيث كان على كل 80 مواطنا عون أمن، في حين في إيطاليا -التي يبلغ سكانها ست مرات عدد سكان تونس- فقد كان هناك 100.000، وفي المعدل العام في العالم نجد على كل 240 مواطنا عون أمن. الأمر الذي ولَّد رقابة لصيقة شملت العديد من القطاعات في الشغل والسفر والإعلام. ففي العام 2010، كانت تونس تُرتَّب الخامسة عالميا من حيث الرقابة على الإنترنت. وفي حملة القمع التي خاضها بن علي حصلَ على دعمٍ خارجي من فرنسا خصوصا؛ مما خوَّل له إسكات كافة أصوات المعارضة.

وبتقدمِ السنوات، سقط نظام بن علي رهن عائلات شبه مافياوية احتكرت الثروة، حتى بات عشرون بالمئة من ثروة البلاد بيد عائلة بن علي وزوجه؛ الأمر الذي ولَّد سخطا وتذمرا بين شرائح اجتماعية واسعة من المحسوبية والرشوة والفساد والوصولية، خلَّفتْ جُملة من الاحتجاجات والاضطرابات، وَوُجِهَت من قِبَل السلطة بحدة وشراسة. كان حرق البوعزيزي نفسه في أواخر 2010 ورحيله في 4 يناير 2011، إعلانا صريحا لما آلت إليه البلاد من توتر، وهو ما دفع إلى احتجاجات مطالبة بالعدالة الاجتماعية والحد من الفساد انطلقت من سيدي بوزيد وبدأت تزحف نحو العاصمة. وما إن بلغت الاحتجاجات صفاقس -ثاني مدن البلاد- في مظاهرة حاشدة شارك فيها 30.000 متظاهر، حتى تحوَّلت إلى مطالبة بإسقاط النظام، وهو ما مثل منعرَجا حاسما في الثورة التونسية.

لكن توريللي يُوْرِد العديد من العوامل التي ساهمت في حدوث هذا التحول، فقد ساهمت جملة من العناصر في النجاح النسبي لتونس مقارنة بغيرها من البلدان مثل مصر وليبيا، منها تقاليد دستورية عريقة؛ والطبقة الوسطى، وبالخصوص مجتمع مدني عزَمَ على المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية؛ وذلك نمط من الإسلام السياسي المعتدل سعى للعمل المؤسساتي والالتزام بالضوابط الدستورية؛ ونسبة متعلمة عالية من السكان وحائزة على نضج سياسي؛ واحترام للتعددية في كافة المجالات. كما يُبيِّن توريللي أنَّه بقدر ما شكلت الأحزاب الدينية في البلدان العربية عنصرا من عناصر التوتر، أبدى "حزب النهضة" -الإسلامي التوجه- نضجا ودرجة عالية من التكيف مع الواقع على نقيض الأحزاب الإسلامية في العالم العربي. وقد مثل انتخاب "حزب النهضة" في المجلس الوطني التأسيسي، في أول انتخابات حرة بعد الثورة، بقصد صياغة الدستور وتولي مهام الحكومة المؤقتة في 23 أكتوبر 2011 قطعاً مع نظام بن علي أكثر منه قناعة بـ"النهضة" كحزب سياسي.

ويبيِّن توريللي أنَّ ثمة عاملا مهمًّا ميَّز تونس؛ وهو وجود طبقة وسطى واسعة دفعت لخلق جمعيات ومنظمات نشيطة؛ مما يُبرز أهمية المجتمع المدني في التحولات الكبرى، وما يجعلنا نقرِّر بأنَّ المجتمع المدني هو عامل من عوامل التحول وليس نتيجة له، ومن هذا المنظور كانت الثورة التونسية هي ثورة المجتمع المدني (ص:112). فبيْن العامين 2011 و2012، بلغ عدد الجمعيات 5.000 جمعية جديدة، ناهيك عن بروز 150 تشكيلا حزبيا ونقابيا.

ويتساءل توريللي: هل ستنجح تونس في ترسيخ الديمقراطية، أم قدرها أن تبقى ماكثة عند ما يُطلق عليه بالجمهورية المرتابة؟ فتونس التي صاغتْ دستورا جديدا، وانتخبت برلمانا ورئيسا للدولة، ما زالت رهينة الركود الاقتصادي والتحدي الأمني، لا سيما وأنَّ الظاهرة السلفية التي ترافقت مع اندلاع الثورة باتت خطرا محدقا بكافة الأطراف على حد سواء، العلمانية والإسلامية المعتدلة. حيث يورد توريللي تحت عنوان "السلفية في تونس: فينومينولوجيا التشدد" (ص:155)، أنَّ جذور السلفية التونسية تعود إلى فترة نظام بن علي، وهي ظاهرة معقدة؛ حيث لا يوجد تعريف مُوحَّد بشأنها يُجمع عليه الدارسون. فقد بدأت السلفية التونسية -أو ما يُعرَف بـ"أنصار الشريعة بتونس"- كمجموعة جهادية منذ تفجر العنف السياسي بعد مقتل السياسييْن شكري بلعيد ومحمد براهمي سنة 2013، والقيام بعمليات إرهابية ضد قوات الأمن؛ ذلك أنَّ تورط "أنصار الشريعة بتونس" لم يكن ثابتا، ولكن البيِّن هو تورط جماعات صغرى علاقتها بتنظيم "أنصار الشريعة بتونس" مشبوهة؛ الأمر الذي دفع السلطات التونسية إلى تصنيف هذا التكتل تنظيما إرهابيا في 27 أغسطس 2013. في هذه الأجواء بدتْ "حركة النهضة" براجماتية في المناورة السياسية؛ حيث استغلَّت الأوضاع للتخلص من خصمٍ سياسي وديني؛ وذلك منذ أن رفض وزير الداخلية النهضوي علي لعريض السماح لـ"أنصار الشريعة بتونس" بعقدِ تجمع حاشد للحركة في مدينة القيروان، وهو ما خلَّف مشادات مع قوات الأمن حينها.

... دفعت الأوضاع المتوترة تونسَ لتبني مسار الوفاق السياسي، وإلى تنازلات من كافة الأطراف، بقصد حماية المسار الديمقراطي. وقد تمثل الوفاق في دسترة الحياة السياسية وإقرار نظام شبه رئاسي يقود الحكومةَ فيه الحزبُ الحائز على الأغلبية البرلمانية؛ حيث يتولى الوزير الأول سياسة البلاد، في حين كُلف رئيس الدولة بالسياسة الخارجية وأمن البلاد، أملاً في إرساء نوع من التعايش بين تكتليْن.

صحيح أنَّ تونس قطعتْ شوطا -كما يرى توريللي- نحو بناء المجتمع الديمقراطي، إلا أنها تبقى مرتابة جراء تواجد مسار ديمقراطي هش من ناحية، وتواصل تهديدات تدفع نحو العودة للسلطوية من ناحية أخرى؛ وهي كذلك مرتابة بين رغبة في التحول الجذري والقطع مع الماضي بنظرة متجهة نحو المستقبل، وخشية جراء الاضطرابات الأمنية التي تشل الاقتصاد المعتمِد بشكل كبير على قطاع السياحة، وهي كذلك مرتابة بين وعود بالتحول نحو التنمية وإكراهات اقتصادية وتنموية قاهرة. ولتلخيص الأمر فالبلد غني بالتناقضات؛ لذلك يبقى التحدي الأكبر لتونس -كما يرى توريللي- في تجنُّب السقوط بعلة مقاومة ظاهرة الإرهاب، التي تهدد التحول السياسي برمته، في السلطوية مجددا.

-----------------------------

- الكتاب: "تونس المعاصرة".

- المؤلف: ستيفانو ماريا توريللي.

- الناشر: إيل مولينو (مدينة بولونيا-إيطاليا)، باللغة الإيطالية.

- سنة النشر: 2015.

- عدد الصفحات: 216 صفحة.

أخبار ذات صلة