مُحمَّد السمَّاك
منذ اعتداءات سبتمبر 2001 -التي استهدفتْ مبنييْ التجارة العالمية في نيويورك، ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن- ورفوف المكتبات الغربية تضيقُ بالكتب الجديدة التي تتناول الإسلام والإرهاب. ولا تزال هذه الظاهرة متواصلة حتى اليوم.. ومن أواخر هذه الكتب: كتاب "ليس باسم الله: مواجهة العنف الديني"، أمَّا المؤلف فهو جوناثان ساخس الذي كان يشغل منصبَ كبير الحاخامات في بريطانيا وينعم بلقب لورد، وكان قد نال الدكتوراه من الكلية الملكية البريطانية، وشغل منصبَ أستاذ اللاهوت فيها، وله 25 كتاباً في مواضيع مختلفة. وسبق للمؤلف أنْ أثارَ حملة ضده في إسرائيل وفي الدوائر الصهيونية العالمية عندما أدلى ببيان في العام 2002، قال فيه: إنَّ تصرفات إسرائيل لا ترتفع إلى مستوى المُثل التي تقول بها.
أمَّا الكتاب الآخر، فقد صدر هذا العام (2015)، عن دار هودر وستاوتن البريطانية، وهو يقع في 305 صفحات.. والسؤال الكبير الذي يدور حوله الكتاب هو: لماذا ترتكب أعمال العنف باسم الله (في الأديان الإبراهيمية)، علماً بأن هذه الأديان تقول في تعاليمها بالرحمة الإنسانية؟
وفي محاولاته الإجابة عن هذا السؤال، يذهب المؤلف بعيداً في الحديث عن تاريخ الدين والعنف. ويبدأ بقصة قابيل وهابيل، ثم بقصة إسماعيل وإسحاق، وبعد ذلك بقصة عيسى وداود، ليقف مطولاً أمام قصة إبراهيم. ويستقرئ المؤلف التاريخ والنصوص الدينية في ضوء النظريات المعاصرةـ خاصة نظريات عالم النفس سيجموند فرويد، وعالم الاجتماع الفرنسي رينيه جيرار وهو عالم اختصاصي في دراسة مظاهر العنف في النصوص الدينية.
ويروي الكتاب كيف أنَّ إسماعيل وإسحاق ولديْ إبراهيم -عليهم السلام- عاشا متباعدين، وواجه كل منهما مصيراً مختلفاً، إلا أنَّهما التقيا أمام قبر والدهما لدى وفاته.. ويروي الكتاب كذلك كيف أنَّ يوسف -عليه السلام- تعرَّض للأذى الشديد على أيدي أخوته، ثم التقى بهم جميعاً أمام والدهم وهو على فراش الموت. غير أنَّ الكتاب ينتهي إلى خلاصة تتضمَّن نقداً شديداً للمجتمعات الغربية؛ فالمؤلف يقول إنَّ الغرب يخسر القيم التي كانت تستقطب الآخرين وتثير اهتمامهم؛ مثل: قيم احترام الكرامة الإنسانية، وتقديم الخدمات العامة التي تعبِّر تعبيراً عمليًّا عن الإيمان الديني.
ويقول إنَّ قيم السوق، والاستهلاك والنسبية، وقبول كل ما يناسبك، حلَّت محل تلك القيم السامية. ويعبِّر المؤلف في كتابه عن اعتقاده بأنَّ ذلك أدَّى لفراغ عملت قوى بدائية على ملئه. ومن هنا يدخل إلى الإسلام، ويقول إن قوى العنف الإسلامي تدرك ذلك. وقد وصف هذه القوى بأنها ليست من مُخلَّفات القرون الوسطى، ولكنها وليدة القرن الواحد والعشرين.
ولعلَّ الحكمة التي يخرج بها المؤلف في الفصل الأخير من كتابه، تتمثَّل في تأكيده الأمر التالي؛ وهو: أن البديل عن ثقافة العنف الإلغائية للآخر التي تتحكَّم في سلوك "الدولة الإسلامية" (الداعشية) يَكْمُن في النصوص الإبراهيمية التي يستلهم منها اليهود والمسيحيون والمسلمون عقائدهم وتشريعاتهم. ويستذكر النصوصَ القرآنية والتوراتية والإنجيلية التي تتمحور حول أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- ويقدِّم هذه النصوص أساساً وقاعدة لمدِّ جسور المودة والاحترام بين أهل الديانات الثلاث رغم ما بينها من تباينات. وهو يرى أنَّ بناء هذه الجسور يُعطِّل استخدامَ الدين في الصراعات السياسية وفي إثارة الأحقاد والضغائن، مما يُخفِّف من حِدَّة هذه الصراعات، ويقلِّل من مجالات توظيفها في غير ما تقول به الأديان.
ويُقِيْم الكاتب اليوم في نيويورك؛ حيث يقول إنَّه على تواصل مع رئيس أساقفة المدينة من أجل ترجمة ما ورد في كتابه من خلال الدعوة إلى مؤتمر ديني عالمي يجمع بين مراجع إسلامية ومسيحية ويهودية، وينطلق من المبادئ التي أعلنها المجمع الفاتيكاني الثاني (1965م)، ولكن على قاعدة التعددية الدينية التي تتمحور حول "الإبراهيمية". ومن المعروف أنَّ هذا المجمع الذي دعا إليه البابا يوحنا الثالث والعشرون، صالَح الكنيسة الكاثوليكية مع الكنائس الأخرى، كما فتح صفحة جديدة مع كلٍّ من الإسلام واليهودية؛ من خلال إصدار وثيقة تعرف بالاسم اللاتيني "نوسترا ايتاتي"، ومعناها "عصرنا الحاضر". وهي وثيقة لاهوتية مسيحية تجدِّد نظرة الكنيسة إلى ذاتها، وإلى الأديان الأخرى. فهل يُمكن العمل على صدور وثيقة فقهية-لاهوتية ثلاثية، كما يدعو إلى ذلك المؤلف؟
... إنَّ الرسالة التي يحملها كتاب "ليس باسم الله: مواجهة العنف الديني"، تقول إنَّ الأديان ليست هي المشكلة. بل إنها الحل. ولذلك يرسم المؤلف خطوطاً فاصلة بين ما تقول به الأديان وما تدعو إليه، وبين سوء توظيف الدين واستغلاله حتى من بعض أبنائه المنتمين إليه. ويبيِّن أيضاً أنَّ المستغلين للدين مبادرون. أما المؤمنون الحقيقيون فمنكفئون؛ لذلك يدعو إلى الخروج من الانكفاء إلى المبادرة، وإلى أن تكون المبادرة مشتركة. وقد أفرد صفحات عديدة ليؤكد على أنَّ مثل هذه المبادرة المشتركة ليست ضرورية فقط، ولكنها ممكنة جدًّا من خلال إحياء فلسفة القربى: إسماعيل وإسحاق، ويهودية عيسى عليهم السلام.
أمَّا الكتاب الثاني -الذي صدر هذا العام أيضاً، والذي يعالج علاقة الدين بالإرهاب- فهو للمؤلف جيسون بيرك وعنوانه: "الخطر الجديد من العسكريتاريا الإسلامية"، والكتاب -الذي يقع في 304 صفحات- صدر عن دار بودلي هيد الإنجليزية للنشر، ويتمحور حول "داعش" والدولة التي أعلنتها باسم الإسلام. ويناقش المخاوف وردات الفعل الغربية على هذه الحركة، في ضوء اعتبار وزارة الداخلية البريطانية أنها تشكل تهديداً إرهابيًّا أكبر من أي تهديد آخر منذ هجمات 11 سبتمبر 2001.
وكان هذا الكتاب المهم قد صدر قبل الحادث الإرهابي الذي وقع في باريس نوفمبر الماضي، والذي ذهب ضحيته 139 شخصاً، إضافة إلى أكثر من مائتي جريح. وهو الحادث الذي فرض أولوية مطلقة على قمة العشرين (الدول الكبرى) في أنطاليا بتركيا، وحملها على الاتفاق على اعتماد إستراتيجية موحدة لمحاربة الإرهاب المتمثل تحديداً في تنظيم داعش. حتى إنَّ الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند استخدم عبارة "إعلان الحرب" ضد "داعش".
ولكن خلافاً لهذا المنطق الذي يعبِّر عن خطر ما ترتكبه هذه المنظمة من أعمال، فإنَّ الكتاب يقلل من أهميتها ومن خطرها؛ مستنداً في ذلك إلى الأمور التالية التي أفرد لها فصولاً واسعة.. الأمر الأول: أن الخطر يتمثل أساساً في تنظيمي القاعدة وداعش. ولكن تنظيم القاعدة -كما يؤكد المؤلف- قد تم احتواؤه والقضاء عليه من خلال ضربات الطيران (من دون طيار: درون) ومن خلال اغتيال قياداته، وكذلك من خلال المعلومات الاستخباراتية الغنية التي تم تجميعها عنهم. ويقول المؤلف جيسون بيرك: "إنَّ هجمات 11 سبتمبر تمثل الذروة في عمل تنظيم القاعدة وليس منطلق أعمالها الإرهابية".
والأمر الثاني: أنَّ ما ينطبق على "القاعدة" ينطبق أيضاً على "داعش" الذي انبثق منها. ويبرر الكاتب هذا الاستنتاج بقوله: "إنَّ "داعش" تؤمن بأنَّ الهجوم على العدو البعيد -الخارجي- أي الغرب، بدلاً من محاولة القضاء على العدو الداخلي -القريب- أي الأنظمة (التي تحكم بدلاً من الامبراطورية العثمانية التي تقسمت) لم يؤد إلى النتائج المرتجاة". ويقول المؤلف: إنَّ "داعش" التي لم تشكل أبداً أي خطر على أمن الغرب، تشكل اليوم تهديداً لحكومات دول عديدة في الشرق الأوسط وإفريقيا.
والأمر الثالث: أنَّ الخطر الكبير الذي يراه المؤلف في كتابه ليس مصدره لا "القاعدة" ولا "داعش"، ولكن مصدره الذي يؤكد عليه هو المجموعات المسلحة المتفلتة وغير المترابطة والتي يعمل كل منها لحسابه. ويخصِّص المؤلف صفحات عديدة لإلقاء الضوء على هذه الحركات وعلى أخطارها الراهنة والمحتملة.. أما انتساب هذه الحركات الإرهابية المسلحة إلى "القاعدة" أو إلى "داعش"ـ فإنَّه مجرد استخدام لاسم معروف ومشهور للترويج لذاتها؛ علماً بأنَّه ليس من الضرورة أن تكون هذه الحركات تابعة لأي منهما. ويطلق المؤلف على هذه الجماعات: "جهاديون من دون قادة"، أو "إرهابيون من إنتاج محلي". ويعتبر أن عملية الأخوين اللذين ارتكبا مجزرة المجلة الفرنسية الساخرة "تشارلي إيبدو"، تشكل نموذجاً لهذه الحركات الإرهابية.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يُلقي المؤلف الضوء على أمرين مهمين؛ الأول: دور الإعلام الاجتماعي في نشر وتعميم السم الذي تبثه هذه الحركات الإرهابية. أما الأمر الثاني والأهم؛ فهو: تزايد التعاون بين الدول الغربية ومواطنيها المسلمين من جهة، وبين هذه الدول والدول الإسلامية من جهة ثانية، لمواجهة الإرهاب والتصدي له.
ملاحظة أخيرة.. عندما انطلقت موجة الكتب الأوروبية والأمريكية حول الإسلام، وحول الإرهاب -انطلاقاً من 11 سبتمبر 2001 وما بعدها- اتسمت الغالبية من هذه الكتب بالطابع الاتهامي للإسلام، ليس فقط بارتكاب جرائم إرهابية، وإنما أيضاً بالدعوة إليها وبالتربية عليها. أما الآن، ورغم الموجة الإرهابية الحادة التي تضرب الشرق الأوسط، فإنَّ المؤلفات الجديدة تميل أكثر نحو الموضوعية في مقاربة هذا الموضوع الدقيق والخطير، وتطرح الإسلام ذاته كوسيلة ونهج لمحاربة الإرهاب. ومن بَيْن هذه المؤلفات: كتاب "ليس باسم الله"، وكتاب "الخطر الجديد من العسكريتاريا الإسلامية".
-------------------------------------
- الكتاب: "ليس باسم الله: مواجهة العنف الديني".
- المؤلف: جوناثان ساخس.
- الناشر: دار هودر وستاوتن.
- سنة النشر: 2015.
- عدد الصفحات: 305 صفحات.
