«الحرب الصليبيَّة الثانية: حرب الغرب المستعرة مجددا ضد الإسلام»

الحرب الصليبية الثانية.jpg

لجنون فيفر

مُنى أبو زيد *

يُحاول هذا الكتاب فَهْم مصادر المشاعر المعادية للإسلام، ويكشف أنَّ ثلاث حروب من الألفية الماضية -الحروب الصليبية، والحرب الباردة، والحرب على الإرهاب- ما زالت مستعرة، وما زالت تُهيمن على طريقة تفكير الغرب.. وأضْحَى الإسلام مُستهدفًا اليوم، يتراءى للغرب أنه مُنخرط في حرب لا هوادة فيها، حرب الدفاع عن مصير الحضارة الغربية ضد الاجتياح الإسلامي ديموغرافيًّا وثقافيًّا من الداخل، وضد إقامة الخلافة الإسلامية بالقوة من الخارج، حرب يرى أنها -في نهاية المطاف- تحدِّد ماهية وجوهر الحضارة الغربية في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

ومُؤلِّف الكتاب هو جون فيفر المدير المساعد لقسم السياسة الخارجية في معهد الدراسات السياسية وعضو مؤسسة المجتمع المفتوح منذ العام 2012، ألَّف عددًا من الكتب، وله مقالات كثيرة في "نيويورك تايمز" و"البوسطن جلوب" و"الواشنطن بوست"...وغيرها، وعمل ممثلاً للشؤون الدولية في شرق أوروبا وشرق آسيا للجنة خدمة الأصدقاء الأمريكيين.. ويتكون الكتاب من مقدمة وستة فصول.. يتحدث المؤلف في المقدمة عن "الإسلاموفوبيا"، ويصفه بأنَّه خوف مرضي ولا عقلاني من الإسلام. وهو مصطلح نحته المستشرق الفرنسي إتيان دينيه عام 1922، وأشاعت استخدامه مؤسسة "رونيميد ترست" اللندنية في تقرير أصدرته عام 1997. ويذكُر المؤلف أنَّ بعض الأصوليين المسلمين قد نفَّذوا هجمات إرهابية، ولا يزال بعض المتطرفين الذين استوحوا رؤاهم عن "الخلافة العالمية" مستمرين في تدبير هجمات جديدة ضد من يتخيلون أنهم أعداء لهم، غير أنَّ الذين يعانون رهاب الإسلام يخلطون بين هذه الجماعات الصغيرة وبين عامة المسلمين، ويرون "الجهاد الإرهابي" تحت كل وسادة إسلامية، وأنهم يتصببون عرقًا لمجرد رؤيتهم مئذنة أو إمام مسجد.

 

ويصفُ المؤلف مصطلح "الإسلاموفوبيا" بأنَّه مُصطلح غير دقيق، وأن ما نراه اليوم في وسائل الإعلام، وفي تظاهرات اليمين المتطرف خارج المساجد، وفي التشريعات الأوروبية الجديدة، يتخطَّى حدودَ الخوف من الإسلام، ويمتد إلى الغضب بل حتى الكراهية. ويروي هذا الكتاب قصة مختلفة عن العلاقة بين الإسلام وبقية العالم، ويركِّز على الولايات المتحدة وأوروبا؛ حيث تستعر الحرب الصليبية الثانية بضراوة. وهذا الكتاب ليس مجرد توصيف، بل دعوة إلى البحث عن طريقة جديدة لمشاركة نابضة بحياة تدبُّ فيها الروح في احترام أصيل بدلاً من التسامح الباهت.

ويتناول الفصل الأول "أساطير الحرب الصليبية الأولى".. وفي هذا الفصل يتحدَّث المؤلف عن خرافة العنف المتأصل عن الإسلام، وتصويره على أنه "دين السيف" إذ كانت هذه المقولة محورًا وعنصرًا رئيسيا من عناصر أدب العصور الوسطى وفنها.

لقد كان شائعًا في العصور الوسطى -كما هو شائع في الوقت الراهن- تعريف القرآن بوصفه إلهامًا للميول العنيفة، وفي "آية السيف" يدعو القرآن المؤمنين إلى قتل المشركين. وهذه الآية -كما يذكر المؤلف- يُقصد بها "عبدة الأوثان"، وهم العدو الرئيس للإسلام وأتباعه في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع، لا "أهل الكتاب"، وهي التسمية التي كانت تُطلق على المسيحيين واليهود.

و"آية السيف" تحضُّ على العنف، إلا أن آيات أخرى توازنها وتعرِّف الإسلام بوضوح على أنه دين السلام الذي يحرِّم قتل الأبرياء. وليس القرآن شديد الاختلاف عن غيره من النصوص الدينية؛ فالكتاب اليهودي المقدس يحتوي -كما القرآن- على مقاطع لا تقتصر على العنف، بل تدعو صراحةً إلى الإبادة الجماعية.

ورسالة يسوع المسيح في الإنجيل هي رسالة سلام. إلا أنَّ الحروب الصليبية أنتجت أعمالاً وحشية فظيعة ومروعة. ولم تكن الأعمال الوحشية المسيحية مقتصرة على الخصوم المسلمين؛ فلقد ارتكب الصليبيون مذابح كبرى ضد اليهود في أوروبا.

ويعلِّق المؤلف على هذه الأحداث قائلاً: "في وسع المرء أن يستخلص من قسوة الصليبيين الوحشية أن المسيحية دين عنيف، وغير متسامح على نحو استثنائي، دين ارتكب -على الرغم من التعاليم الصريحة للسيد المسيح- مجموعة من الفظائع المتواصلة بحق أعدائهم في الداخل والخارج.

لم يكن التشهير بالمسلمين في أدب العصور الوسطى عملاً من أعمال التضليل الإعلامي فقط، بل تحيُّز خدم حاجة عميقة. لم يكن في وسع أي مسيحي أن يبرر ممارسته الإجرامية ما لم تكن مبررة على نحو ما بخطايا الآخر المختلف.

والفصل الثاني عنوانه "الإسلام: الشيوعية الجديدة".. يذكر فيه المؤلف أنَّ بعض المحللين قد ربط ربطًا جليًّا بين الشيوعية والإسلام. ففي أربعينيات القرن العشرين ربط عالم الاجتماع الفرنسي جول مونرو بين الإسلام والشيوعية؛ فكلاهما كان دينًا، وكل منهما شمولي في طبيعته، بمعنى أنهما يتطلعان إلى إخضاع الفرد إلى السيطرة الاستبدادية الكاملة. وفي خمسينيات القرن العشرين قدم برنارد لويس تقويمًا مشابهًا. حتى الأيديولوجية الماركسية بنسختها الغربية تحشر الشيوعية مع المسلمين في خانة واحدة.

ويأتي الفصل الثالث ليتحدث عن "إطلاق الحرب الصليبية الثانية"، التي يُحدِّدها المؤلف بأنها جاءت عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة؛ حيث بدا الأمر كما لو كانت الحروب الصليبية تنطلق من جديد، عندما قال الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن "هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب سوف تستغرق بعض الوقت". وفي الوقت ذاته، كانت المشاعر المعادية للإسلام تتصاعد على نحو خطير.

ويَرَى المؤلف فسادَ هذا التوجه؛ إذ كان في وسع إدارة بوش أن تتعامل مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر بوصفها جريمة ارتُكبت من قِبَل عصابة مافيوية، إلا أنها ذهبت بدلاً من ذلك إلى الحرب. تلك الحرب دارت رحاها في بلاد مسلمة، محاولة إحداث تغيير جذري، وإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وإحداث موجة من الديمقراطية في المنطقة، وفي تعزيز موقع إسرائيل فيما يتعلق بالعلاقة مع جيرانها.

والفصل الرابع عنوانه "الحرب الصليبية تستمر"، ويتناول فترة رئاسة أوباما الذي وضع حدًّا للسياسات التي تنتهجها إدارة بوش حيال العالم الإسلامي في عدد من القضايا؛ إذ مضى قُدمًا في خطته الرامية إلى سحب القوات الأمريكية المقاتلة من العراق (مع الإبقاء على بعض الاستثناءات المهمة)، وعكف على استئصال التعبير الشهير "الحرب العالمية على الإرهاب" من مفردات الحكومة، واعتماد تعابير أخرى بدلاً منه؛ مثل: "الحرب ضد شبكة الكراهية والعنف واسعة النطاق". وقال أوباما في خطابه الشهير بالقاهرة "إن الحضارة مدينة للإسلام". إلا أنَّ خطابه البلاغي الذي جنح إلى الدبلوماسية، وتحرَّر من الارتباك خلافًا لما كانت عليه خطابات سلفه، لم يمنع الحملة الصليبية الجديدة التي استمرت في عهده.

ويؤكِّد المؤلف أنَّ الحملة الصليبية الجديدة ليست حربًا مقدسة، بل هي حربٌ عسكرية، وأن الحملات العسكرية بتزامنها مع موجة كراهية الإسلام في الولايات المتحدة وأوروبا، تُضفي على سياسات الولايات المتحدة وحلفائها مظاهر نضال حضاري. واستعاضة إدارة أوباما عن اسم "الحرب العالمية على الإرهاب" باسم مختلف، لم تُلطِّف من حدة الأهداف الرئيسية للحملة الصليبية الجديدة. وعلى الرغم من أن فريق الإدارة الجديد في واشنطن كان أدق إعدادًا وأكثر حذرًا في تعريفه للإسلام بأنه دين سلام، وفي عمله على خطب ود العالم الإسلامي، فإن المسلمين ببساطة لا يشعرون بمصداقية هذا السلوك.

ويختم المؤلف هذا الفصل قائلاً: إنَّ كراهية الإسلام في الولايات المتحدة خطيرة جدًّا؛ فقد حرفت الجدال السياسي وشوهته وتسبَّبتْ في قدر كبير من معاناة المسلمين الأمريكيين. ويبقى الوضع في أوروبا أشد خطورة؛ إذ إنَّ الجدال المحتدم هناك لا يقتصر على مسجد بذاته أو مسألة تشريعية، بل يتمحور حول طبيعة الهوية الأوروبية ذاتها.

ويتناول المؤلف في الفصل الخامس "التحول الأوروبي"؛ إذ ظهرت مؤخرًا مجموعة من المقالات والمؤلفات تعتبر أنَّ معاداة الإسلام عنصر مقبول من عناصر الحياة الأوروبية العامة؛ منها: كتاب الكاتبة الإيطالية أوريانا فالاسي، تحت عنوان "الغضب والكبرياء"؛ استهدفتْ فيه العرب والمسلمين وجميع المهاجرين، ولاقى هذا الكتاب رواجًا كبيرًا في أوروبا؛ حيث بِيْع منه أكثر من مليون نسخة في إيطاليا، وكان الكتاب الأكثر مبيعًا في فرنسا.

كانت تلك هي البداية فقط؛ إذ أُلِّفت كتبٌ من قِبَل كلٍّ من: بروس بيور، وكريستوفر كالدويل، وبات بور. وكانت جميعها منوعات عن الموضوع ذاته: عن المسلمين الذين يستولون على أوروبا، مع تغييرات طفيفة في كلٍّ منها.

وفي أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، باتت أوروبا فجأة غارقة في هذه المشاعر المعادية للإسلام، وقد تجلَّى هذا في الكتب ورسوم الكاريكاتير والبرامج والمنابر السياسية وتظاهرات الشوارع. ووُجِّه شيء من هذه المشاعر المعادية للإسلام إلى داخل التجمعات السكنية للمهاجرين.

ويعلِّق المؤلف على أنَّ الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة أمرٌ قبيحٌ ومزعجٌ اجتماعيًّا، وتهمة موجَّهة سياسيًّا، لكنَّ المشاعر المعادية للإسلام في أوروبا -التي ما انفكت تختمر منذ عهد بعيد- يُمكن أن تكون أشد خطورة؛ لأنها تستعيد إلى الذاكرة عهودًا مغرقة في القدم وشديدة الخطورة من التعصب الأوروبي، وتهدد بتقويض مشروع التكامل الأوروبي السلمي برمته.

وتحت عنوان "إنهاء الحرب الصليبية الثانية" يأتي الفصل السادس والأخير من هذا الكتاب ليتحدَّث عن طرق إنهاء هذه الحرب، ويرى المؤلف أنَّ هذا الأمر ممكن، كما كان مُتاحًا في الحروب الصليبية الأولى، عندما عثر المسلمون والمسيحيون على سبل جعلتهم يُفلحون في تدبير أمورهم المشتركة؛ حيث أنشأ المسيحيون مستوطنات، وتبنَّى القادمون الجدد عادات السكان المحليين وألَّفوها، وتعلَّموا لغاتهم ودرسوا تراثهم، وشيَّدوا أبنيتهم تبعًا للتقاليد المحلية، وتزاوج الأوروبيون والسكان المحليون، وانخرطَ المهاجرون مع السكان المحليين. وفي أندلس القرون الوسطى، عاش اليهود مع المسيحيين في سلام نسبي في ظلِّ الحكم الإسلامي، وانبثقت ثقافة هجينة احتضنت الفكر النهضوي، وطورته، وعجلت بانبثاق حركة التنوير.

هذه الأزمنة تُوحي بأنَّ الصراعات بين الدول والأديان -وحتى الحضارات- ليست أقدارًا محتومة. وهي تذكرنا بأنَّ الحروب والتعصُّب في عصرنا الراهن يمكن التغلب عليها، ووضع نهاية لها أيضًا، تمامًا كما انتهت الحروب الدامية التي كانت دائرة فيما مضى بين الفرس والعرب، وبين البروتستانت والكاثوليك، وبين الألمان والفرنسيين، وقد أمست اليوم حبيسة صفحات كتب التاريخ.

ويختم المؤلف كتابه قائلاً: إنَّ مشاعر الكراهية والإسلاموفوبيا لا تتعلَّق في واقع الحال بالمسلمين، بل الأمر يتعلق بنا نحن، نحن الغرب، الغرب غير المسلم. فما زال علينا أن نتقبَّل الحقائق، وأن نتعامل معها.. وتتمثل هذه الحقائق في أن الحروب الصليبية لا تزال قابعة في أعماق قلوبنا، وفي أنَّ مقولات الحرب الباردة ما برحت تؤطر تفكيرنا، ورغباتنا في التدخل في أحداث العالم الإسلامي والتحكم فيها.

لقد دأب الإسلاميون على الاحتجاج على السياسات الغربية التي تروِّج لها حكومات ومؤسسات دولية، تلك السياسات التي أدامتْ ضُروبَ الظلم والجور. ويجب علينا وَضْع حدودٍ لحروب الاحتلال، وتوسيع آفاق أفكارنا المتعلقة بالثقافة اليهو-مسيحية النزَّاعة إلى التعالي على مَنْ تَحسبهم دونها منزلة. وفي النتيجة سوف تتلاشى مناهضة الإسلام و"العداء للغرب" على حدٍّ سواء. وسوف تتوقف الحملة الصليبية الثانية، ولسوف تكون الأخيرة من نوعها.

-----------------------------

- الكتاب: "الحرب الصليبية الثانية: حرب الغرب المستعرة مجددًا ضد الإسلام".

- تأليف: جون فيفر.

- ترجمة: محمد هيثم نشواتي.

- الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية-قطر، الطبعة الأولى.

- سنة النشر: 2015م.

- عدد الصفحات: 256 صفحة.

 

* أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب، جامعة حلوان، مصر

 

أخبار ذات صلة