«الجماعة التي تسمي نفسها دولة: فهم تطور تنظيم الدولة الإسلامية وتحدياته»

Screen Shot 2020-05-28 at 4.30.22 PM.png

ضحى الخطيب

قام باحثون من مركز مكافحة الإرهاب -التابع للأكاديمية العسكرية في ويست بوينت بولاية نيويورك، وهو مركز خبير في دراسة الجماعات المتمردة والإرهابية في العراق- بكتابة هذه الدراسة التي تبحث صعود الجماعة التي تطلق على نفسها اسم "الدولة الإسلامية" وأنشطتها ونقاط ضعفها، مستندين إلى بيانات استقيت من مواد التنظيم نفسه، خصوصاً الوثائق التي تم الاستحواذ عليها والمراسلات عبر شبكة الإنترنت.. فالكتاب دراسة عميقة تبحث الجذور التنظيمية والخلفيات التاريخية لـ"تنظيم الدولة الإسلامية"، وأسباب صعوده، ومجالات أنشطته، ونقاط قوته وضعفه، وأوجه إخفاقاته ونجاحاته. كما تتناول أيضاً -على المستوى الإستراتيجي- التحديات الماثلة والفرص المتاحة لمواجهة التنظيم ومكافحته.

ففي يونيو 2014، فُوْجِئ العالم قاطبة بحَدثٍ مدوٍّ تمثَّل بسقوط مدينة الموصل العراقية بيد التنظيم الذي كان يُعرف باسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)"، والذي غيَّر تالياً اسمه إلى "الدولة الإسلامية". وأصبح التنظيم مُنذئذٍ لا يفرض سيطرته العسكرية على مناطق واسعة في العراق وسوريا فحسب، بل إنه أخذ يحكم هذه المناطق ويُخضعها لإدارته وسلطته. وفي محاولة لـ"فهم تطور تنظيم الدولة الإسلامية وتحدياته"، يحدد أربعةُ أساتذة وباحثين في الكلية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت، الأوجه الرئيسية لقوة وقدرة تنظيم "داعش" على التعلم والتكيف، كما يُبرزون مكامن ضعفه وأوجه الفشل والقصور التي يقع فيها. وقبل ذلك، يتتبع الكتاب التطور التاريخي للتنظيم المسلح. موضحاً أنَّ التخطيط الجيد والقدرة على استغلال الأحداث قادا لنشوء تنظيم "داعش". كما يستكشف أوجه القوة والضعف لدى التنظيم، مع الإشارة إلى أنَّ نجاحاته تنبع من قدرته على توظيف عناصره كافة لتحقيق أقصى مكسب ممكن.

 

يُعالج الفصل الأول من الكتاب -الذي أعدته نيللي لحود- مسألة "التحول: من جماعة التوحيد إلى دولة الخلافة (2003-2014)"؛ حيث ترى لحود أنَّ أفضل طريقة لفهم تطور جماعة "الدولة الإسلامية" هي وصفها كمحصلة للتخطيط والصدفة؛ فالتنظيم محصلة للتخطيط؛ لأن المكاسب التي حققها من حيث الاستيلاء على الأراضي وإخضاعها لحكمه كانت جزءًا من رؤية مؤسسه أبومصعب الزرقاوي منذ العام 1999. لكنَّ "داعش" هو أيضاً محصلة للصدفة، أي للأحداث التي سمحت له باستغلال ساحة حرب الميليشيات في سوريا، وكذلك النزعة الطائفية التي أثرت سلباً في عرب العراق السُّنة.

ومن الأهمية بمكان توضيح الفروق بين "الدولة الإسلامية" و"القاعدة". لقد اعتبرت "القاعدة" نفسها -لفترة من الزمن- قوة عالمية من "مجاهدين من دون حدود" مضادة للمؤسسة، بينما تطوَّرت رؤية الزرقاوي لجماعته -السابقة على تنظيم الدولة الإسلامية- إلى بناء مؤسسة، وهي رؤية يسعى خلفاؤه لترجمتها إلى واقع. لقد تعلم "تنظيم الدولة الإسلامية" من بعض إخفاقات الماضي، بما في ذلك أخطاء مؤسسه الزرقاوي. لكنَّ التنظيم -في رأي الكاتبة- هو نتاج الأحداث التي سمحت له باستغلال وضع الميليشيات في سوريا، وكذلك السياسات الطائفية التي أثرت سلبا في عرب العراق السنة؛ فقد لعب الحظ لمصلحة "داعش" وساعدهم في تحقيق أهدافهم.

تبدأ الباحثة ببحث أصول التنظيم في أواخر تسعينيات القرن العشرين في أفغانستان، ووفقاً للمنظِّر الجهادي محمد المقدسي الذي التقى الزرقاوي مرة واحدة، فإن الأنشطة السياسية للزرقاوي قبل توجهه إلى أفغانستان عام 1999 كانت تدور بشكل كبير في الأردن، وتتمحور حول نشر التعاليم الدينية التي يروجها المقدسي.

فقد التقى الزرقاوي والمقدسي في بيشاور عام 1991، وعند عودتهما إلى الأردن عمل الزرقاوي والأفراد المنتمون للفكر السلفي الجهادي نفسه على نشر كتابات المقدسي التي ترفض شرعية الأنظمة السياسية التي تحكم معظم الدول الإسلامية، بما فيها الأردن والمملكة العربية السعودية. وقادت أنشطتهما إلى القبض عليهما وإيداعهما السجن في الأردن.

ورَغْم أنَّ أسامة بن لادن وأيمن الظواهري كانا مُتردِّدين بشأن العلاقة مع الزرقاوي عام 1999، فإنَّ سيف العدل يروي أنه أقنعهما بأن علاقات الزرقاوي في الشام ربما تؤتي ثمارها في المستقبل. ويبدو أن العلاقة بأبي محمد العدناني كانت واحدة من هذه العلاقات؛ حيث تعهَّد مع 35 سورياً آخرين بالولاء للزرقاوي مطلع عام 2000 قبل أن يلتحقوا به في العراق عقب الغزو الأمريكي عام 2003.

وفي العام 1999، سهَّل سيف العدل إقامة معسكر تدريب في هيراة بأفغانستان ليقوم الزرقاوي بإدارته، بتمويل "أخ من الحجاز". وربما خشية من حماسة الزرقاوي لم يرد تنظيم القاعدة أن تكون له صلات رسمية به، بل مجرد التنسيق والتعاون لخدمة أهداف عامة، بحسب سيف العدل. ويدعى المقدسي أن الزرقاوي هو الذي رفض الانضمام إلى "القاعدة" لأن بن لادن رفض اعتماد كتب المقدسي في معسكرات تدريب "القاعدة"، وهو الادعاء الذي فنده الزرقاوي.

وفي غضون أسابيع، أدْرَك سيف العدل أنَّ الزرقاوي لا يسعى وراء التدريب العسكري فقط، بل إنه حريص على بناء هيكل اجتماعي كامل أو مجتمع متكامل، أي في بناء مؤسسته وفق رؤيته، بينما كان تنظيم القاعدة يفكر بشن هجمات ضد المؤسسة العالمية في صورة الدول.

إذن؛ بدأتْ نواة مجتمع الزرقاوي في التشكُّل في أفغانستان، ويروي سيف العدل أنَّ الزرقاوي كان ينظر دائماً إلى العراق باعتباره المكان الذي يريد أن ينمو فيه ويتوسَّع؛ حيث أقام علاقة مع جماعة "أنصار الإسلام" الكردية الموجودة في شمال العراق، وهي علاقة أثبتت لاحقاً أنها مُفيدة عندما اضطر الزرقاوي إلى الفرار من أفغانستان بعد احتلالها عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، فاتَّجه إلى العراق؛ حيث كان متأثراً بشخصية القائد العسكري نورالدين زنكي الذي أطلق حملته من الموصل لتحرير المسجد الأقصى من الصليبيين، والتي استكملها صلاح الدين الأيوبي.

لم يعش الزرقاوي طويلاً لإطلاق حملته على غرار زنكي، لكنَّ أبو بكر البغدادي أخذ على عاتقه استكمال المهمة؛ حيث ظهر في الرابع من يوليو 2014 لأول مرة في الجامع النوري الكبير -الذي بُني في القرن الثاني عشر على يد نورالدين زنكي- ليعلن خلافته، وقد يكون اختيار المكان إجلالاً ووفاءً للزرقاوي، بحسب الباحثة لحود.

بدأتْ مجموعة الزرقاوي تعمل في العراق تحت اسم "جماعة التوحيد والجهاد" عام 2003، وأعْلَنت نفسها في أبريل 2004، ومن بين العمليات التي أعلنت مسؤوليتها عنها: العملية التي أسفرت عن مصرع سيرجيو فيرو دي ميلو الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، في 19 أغسطس 2003. وعندما أعلن الزرقاوي ولاءه لبن لادن في أكتوبر 2004 -سعياً للانضمام إلى "القاعدة"- كان قد وضع بصمته فعلاً في الساحة المسلحة في العراق. وفي الوقت نفسه، تلقَّت "القاعدة" ضربات خطيرة عام 2003. وهكذا إذا كان التنظيم في عام 1999 قد وضع شروطاً للتعاون مع الزرقاوي من مسافة بعيدة وبطريقته الخاصة، فإن بن لادن كان مستعداً عام 2004 للتنازل عن بعض معايير تنظيم القاعدة وقبول الزرقاوي في التنظيم. وبذلك تم تغيير اسم "جماعة التوحيد والجهاد" إلى "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين".

وترى الباحثة -استناداً إلى خطابات تم تسريبها من قادة "القاعدة"، خاصة الظواهري وعطية الله الليبي- أنَّ إدراج مجموعة الزرقاوي تحت مظلة التنظيم كانت خطوة استدعت الندم؛ فقد ذكره الليبي أنه قائد عسكري، وأنه يجب أن يتشاور مع قيادة التنظيم قبل اتخاذ قرارات من جانب واحد، ليس أقلها تلك التي تتعلق بإعلان حرب ضد الشيعة، وتوسيع نطاق الحرب إلى الدول المجاورة. وشكَّك الظواهري -بلطف- في الهجمات ضد الشيعة في العراق، مُذكِّراً إياه بأنَّ إيران اعتقلت أكثر من مائة من أفراد "القاعدة"، ومن المرجح أن ترد بتدابير انتقامية.

لكنَّ قادة "القاعدة" قد قصروا انتقاداتهم للزرقاوي ومجموعته وتصرفاته على الخطابات الداخلية، وفضلوا عدم إخراجها إلى الجمهور. ومن غير الواضح سبب تغيير الزرقاوي لاسم مجموعته إلى "مجلس شورى المجاهدين في العراق". ربما لأنه لم يستطع تجاهل العدد الكبير من الجماعات المسلحة السنية التي ظهرتْ بعد حلِّ حزب البعث في العراق، أو ربما كان تحت ضغط من تنظيم "القاعدة" لبذل جهد لتحقيق الوحدة بين الجهاديين، أو مزيج من الأمرين.

وقد ضمَّ الاسمُ الجديد في البداية ست مجموعات مسلحة، وانضمت لاحقاً مجموعات أخرى. وبينما كان يترأس مجلس الشورى شخصٌ يُدْعى عبدالله بن راشد البغدادي، فلا توجد تقارير تفيد بأنَّ الزرقاوي كان يدين له بالولاء. بل هناك بيانات تشير إلى استقلالية الزرقاوي، ومن غير المرجح أنه انحاز إلى "مجلس الشورى" للانفصال عن تنظيم القاعدة.

 

نحو إنشاء "تنظيم الدولة الإسلامية"

لم يُؤدِّ مقتل الزرقاوي عام 2006 إلى تخلِّي خلفائه عن خطته لبناء مجتمع، بل طوَّروا خططاً أكثر طموحاً؛ فقد حلَّ أبو حمزة المهاجر محل الزرقاوي، وتشير بياناته إلى أن جماعته موالية لتنظيم "القاعدة"، مطمئناً بن لادن بقوله: "نحن رهن إشارتك وتحت أمرك".

ولكن في غضون 4 أشهر، تعهَّد أبو حمزة بالولاء للجماعة المشكلة حديثاً تحت اسم "دولة العراق الإسلامية" بقيادة أبو عمر البغدادي، ومن ثمَّ أخضع جيش "القاعدة" لسلطة "دولة العراق الإسلامية".

وهناك تقارير تفيد بأنَّ كلًّا من أبو حمزة وأبو عمر قد تدرَّبا في أفغانستان والتحقا بمجموعة الزرقاوي في العراق، وأنَّ أبو عمر البغدادي كان بمنزلة المحرك الفكري لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق". وإذا كان صحيحاً أنه كان رئيس "المجلس الاستشاري" الذي انضم إليه الزرقاوي، فإن تأثيره في المجموعة -التي تتَّخذ من العراق مقرًّا لها- يسبق توليه قيادتها في العام 2006.

وفي أبريل 2007، أعلنتْ جماعة "الدولة" تعيين 10 وزراء، وتصوَّرت نفسها تتولى مهام الحكم.

لم يحظَ إعلان الدولة في العام 2006 بمباركة تنظيم القاعدة؛ فقد وجه الأخير انتقادات شديدة لأبو حمزة وأبو عمر، استناداً إلى البيانات الداخلية. ووفقاً لبيان صادر عن الظواهري في مايو 2014؛ فقد تمَّ إعلان "دولة العراق الإسلامية" من دون أي تشاور مع قيادة "القاعدة" ولا حتى مع أسامة بن لادن. وقد انتقد الظواهري الأخطاء السياسية لأبو عمر، ووصفه وأبو حمزة بأنهما "متطرفان، ومثيران للاشمئزاز، ويفتقران إلى الحكمة".

قتلت القوات الأمريكية أبو عمر وأبو حمزة في أبريل 2010، وتولى أبو بكر البغدادي قيادة "دولة العراق الإسلامية"، بَيْد أنَّ التحدي الذي طرحه إعلان التنظيم عن تنظيم القاعدة لم ينتهِ بموتهما. فقد كانت هناك تداعيات خطيرة لبيعة أبو حمزة لأبو عمر؛ يتعلق أولها بفكرة إعلان "دولة إسلامية"، وهو ما عارضه بن لادن وقادة "القاعدة"؛ استناداً لعدم توافر شروط الدولة من توفير الأمن للسكان وخضوع الجهاديين للمساءلة أمام الحكم الرشيد. فقد تبرَّأ بيان "القاعدة" من "دولة العراق الإسلامية"، ورفض اعتبارها دولة، وسمَّاها "جماعة" تسمي نفسها "دولة".

والأثر الخطير الثاني هو تعهُّد أبو حمزة لأبو عمر بوضع جيش "القاعدة" -المؤلف من 12 ألف مقاتل- تحت إمرته المباشرة؛ فهل كان التنظيم في العام 2006 لا يخضع لقيادة "القاعدة"؟ وهل يعني التعهُّد أنَّ موالاة أو بيعة أبو حمزة لبن لادن في مرتبة أقل من بيعته للبغدادي؟

بالطبع لم يتعهَّد بن لادن قط بالولاء لأبو عمر، ووفقاً لخطاب الظواهري -في مايو 2014- فقد كتب أبو حمزة إلى قيادة "القاعدة" يُطمئنهم بأنَّ الجماعة تواصل اعتبار نفسها جزءًا من "القاعدة". ومع ذلك، أصبحت "دولة العراق الإسلامية" دولة أمر واقع تتصرَّف من دون التشاور مع تنظيم القاعدة وحتى ضد توجهاتها. وفي رسالة داخلية -تعود إلى مطلع العام 2011- نصح الجهادي الأمريكي آدم جادان "بضرورة أن تعلن قيادة "القاعدة" قطع علاقاتها التنظيمية بدولة العراق الإسلامية، وأن العلاقة بين القيادتين لم توجد منذ سنوات عدة، وأن قرار إعلان الدولة قد اتُّخذ دون التشاور مع القيادة، وأنَّ هذا القرار الاجتهادي قاد إلى انقسامات بين الجهاديين وداعميهم داخل العراق وخارجه".

 

الانفصال عن "القاعدة"

لماذا استغرقَ الأمرُ وقتاً طويلاً حتى يُعلن تنظيم القاعدة التبرُّؤ من "دولة العراق الإسلامية" إذا كانت المشكلات بينهما قد بدأت في العام 2005 وتفاقمت في العام 2006؟

في أبريل 2013، أعلن أبو بكر البغدادي -من جانب واحد- تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)"؛ من خلال إعلان اندماج بين جماعته وجبهة النصرة في سوريا، والأخيرة هي أول جماعة جهادية ظهرت في سوريا في يناير 2012. لم تكن جبهة النصرة جزءاً أصيلاً من الثورة السورية، ولكنَّ أعضاءها قاتلوا إلى جانب "دولة العراق الإسلامية" وتحرَّكوا إلى سوريا بدعم منها. وقد رفض قائد الجبهة -أبو محمد الجولاني- علانية الاندماج، وأعلن بيعته للظواهري. وفي يونيو 2013، تدخَّل الظواهري، وألغى الاندماج وجوهر فكرة "داعش"، وعيَّن أبو خالد السوري -عضو حركة أحرار الشام الموالية للقاعدة- ليكون حكماً بين الجماعتين.

لا يُعرف سبب قيام البغدادي بدمج الفصيلين: هل كان يعتقد أن الوقت قد حان لتوسيع دولته إلى سوريا، أم كان يغار من نجاح "جبهة النصرة"، أم كان قلقاً من تعاونها مع جماعات مسلحة ذات أجندات وطنية وليست جهادية؟! إن توسيع الدولة لا يتسبب في انفصال التنظيم عن "القاعدة" علانية فقط، بل يخدم أسلوب العمليات الذي كان يتصوره الزرقاوي وخلفاؤه، بمعنى إنشاء مؤسسة وتحقيق ما بدأه الزرقاوي.

ومن جهة الظواهري، فقد شَعَر أنَّ عملية الدمج هي انقلاب فرضه البغدادي ضد "القاعدة"؛ فقام بالتدخل لإلغاء "داعش"، ثم تطوَّر النزاع العلني إلى صدام مسلح ودموي ابتداء من ديسمبر 2013 بعد قيام "داعش" بخطف زعيم جبهة النصرة في الرقة أبو سعد الحضرمي وقتله.

 

الفارق بين "الدولة الإسلامية" في 2006 و2014

ووفقاً للبغدادي، فقد حدثتْ المتغيرات في اسم الجماعة لتعكس "المستوى العالي من التطور ونبل التطلعات". وباتباع هذا المنطق، نجد أنَّ الاسم يحمل دلالات جغرافية كثيرة، وربما يُمكننا توقُّع عدم حدوث تغييرات على اسم "الدولة الإسلامية". وهي أعلنت الخلافة الإسلامية كدولة إسلامية عالمية وهي عازمة على مواصلة الاستيلاء على أراضٍ إضافية خارج العراق وسوريا. وقد قال البغدادي -في خطاب بمناسبة حلول شهر رمضان- إنه إذا ظل "جنود الدولة الإسلامية" موحَّدين، وأخلصوا لفكرة أنهم "حماة الدين"، فسوف "يفتحون روما، ويملكون الأرض".

والسؤال الأكثر أهمية: ما الذي يُمكن أن تحققه "الدولة الإسلامية"؟.. تشير إحدى الرسائل الداخلية التي تهدف إلى تقديم نقد داخلي للجماعة -التي اتخذت من العراق مقراً لها بين 2006 و2007- إلى أنَّ إعلان الدولة قد استخدم من قبل العديد من قادة المجموعة "للتستر على ضعفهم في المجالات العسكرية والأمنية، وأنه يهدف لإقناع أنفسهم والآخرين بأنهم يجب أن يركزوا على بناء دولة ومؤسساتها، دون إيلاء الاهتمام بالأمور العسكرية والأمنية".

فإذا كان أفراد الجيل الأول من مقاتلي "دولة العراق الإسلامية" قد وجدوا أنفسهم في عامي 2007 و2008 تائهين في الصحراء، ومحاصرين في "دائرة مغلقة"، بعد أن رفضوا من قبل السنة العرب، فكيف ينجحون اليوم في السيطرة على أراضٍ تقطنها أغلبية سنية في العراق وسوريا؟

يَبْدُو أنَّ جماعة الزرقاوي كانت تواجه العقبات بسبب عدم تعاون العرب السنة، وهناك وثائق داخلية توضح أن التوتر كان يتوسع باطراد ليشمل جماعات متشددة من السنة العراقيين -الذين كانوا في السابق إلى جانب الجهاديين- لأنهم كانوا يعتقدون أنَّهم يقاتلون لطرد الاحتلال الأمريكي من العراق. وهناك وثيقة أخرى في 13 مايو 2007 تشير إلى تبرير تنظيم "دولة العراق الإسلامية" قتل 12 شخصاً من زعماء تنظيمات الجيش الإسلامي، وأنصار السنة، وجيش المجاهدين، بذريعة "سلوك هذه الزمرة الباغية"، وأن هذه الجماعات كانت تجتذب أعضاء سابقين من "الدولة المارقة" أي نظام صدام حسين.

وعلى الرَّغم من هذا التاريخ الحافل بالعنف والاضطراب الذي شهده التنظيم مع العرب السنة، فإنَّ نجاحه في منتصف 2014 في الاستيلاء على أراضٍ في العراق لا يتناقض مع الفترة السابقة لهذا النجاح؛ فهناك عاملان رئيسيان أتاحا لتنظيم "داعش" استغلال الأحداث التي تؤثر في العرب السنة لمصلحته. فاستطاع استغلال الصراع الداخلي الموازي المرتبط بالمشهد السياسي الطائفي الذي همش السنة العرب الذين أوقفوا محادثات التسوية مع نوري المالكي، وتحولوا إلى القتال ضد الحكومة العراقية، وأوجدوا بذلك بيئة أمنية هشة تم استغلالها من قبل "داعش" نتيجة الطائفية السياسية والتهجير القسري للعراقيين على أساس طائفي.

وفي الجانب السوري، تعرَّض "داعش" -في أواخر ديسمبر 2013- لهزيمة وخسر معاقله في مناطق غرب سوريا على أيدي جماعات مسلحة أخرى. هذا التطور أجبر مقاتلي التنظيم على تجميع أنفسهم في أراضٍ في شرق سوريا قرب الحدود العراقية. لكنَّ تركيز النظام السوري على أولوية محاربة الجماعات المتمردة الأخرى أسهم في إضعاف الطرف المعادي لـ"داعش" وتقوية الأخير من دون قصد.

 

إستراتيجية "داعش"

تطوَّر "داعش" من خلال التخطيط المسبق والمصادفة، اللذين قادا إلى نشوء منظمة قادرة على شن عدد كبير من الهجمات، وعلى دعم أنشطتها بحافظة مالية متنوعة -تشمل: النفط، والتبرعات، وغنائم الحرب- وهو تنوع يُحصِّنها ضد فقدان أي مكون مفرد من هذه المصادر. ومن المجالات الأخرى التي يرى الكتاب أن "داعش" يحقق فيها بعض النجاح: حملاته الدعائية، لاسيما مقاطع الفيديو التي ينشرها ويظهر فيها منتسبوه كأعضاء عاديين يجد فيهم المجندون المحتملون أوجه شبه وتقارب معهم. فاقتران هذه الميزة مع تقنيات الإنتاج البارعة والنجاحات العسكرية على الأرض "يروق للجيل الجديد من المجندين المحتملين" في "داعش".

لكنَّها "نجاحات" -كما يوضح الكتاب- تخفي جوانبَ الضعف لدى "داعش"؛ فتعدد مصادره المالية لا يعني استحالة اختراقه ماليًّا، بل يشير لضرورة إيجاد إستراتيجية شاملة لتقليص قدرته على الاستمرار في المدى الطويل. أما حكمه المناطق الخاضعة لسيطرته، فينطوي على عيوب ونقائص، وما لم يستطع التكيف مع المستجدات، وما لم تتراجع الضغوط الممارسة عليه من أطراف أخرى، فإنَّ إخفاقاته ستزداد وتتعمَّق مع مرور الوقت.

وأخيراً.. فيما يتعلق بالحلول التي يقترحها الكتاب لمواجهة تنظيم "داعش"، فهو يرى أنه كما أن أصل هذا التنظيم ليس مجرد "مشكلة العراق" أو "مشكلة سوريا" فحسب، فإنَّ الحل أيضاً لا يُمكن أن يركز فقط على دولة دون أخرى، بل يتطلب معالجة القضايا في كلتا الدولتين وفي المنطقة بشكل أوسع؛ لذلك فإنَّ تطوير إستراتيجية فعالة لمكافحة "داعش" يتطلَّب إدراكاً للدوافع المتباينة لدى الشركاء في الحرب ضده؛ فأولوية المعتدلين في سوريا هي الإطاحة بنظام بشار الأسد، بينما أولوية السُّنة العرب في العراق لمعالجة مظالمهم قبل كل شيء. لذا؛ فمن الضروري فهم هذه الدوافع وتضمينها في إستراتيجية شاملة لمواجهة "داعش".

 --------------------------------

- الكتاب: "الجماعة التي تسمي نفسها دولة: فهم تطور تنظيم الدولة الإسلامية وتحدياته".

- المؤلفون: محمد العبيدي، بريان برايس، دانييل ميلتون، نيللي لحود.

- الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبوظبي.

- سنة النشر: 2015.

أخبار ذات صلة