لحميد دباشي
إميل أمين *
عن منشورات المتوسط بميلانو بإيطاليا، صدر كتاب "ما بعد الاستشراق.. المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب"، ذاك الكتاب كبير القيمة في نحو ثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، والذي يُعد سجلاً متيناً لتأملات حميد دباشي على مدى سنوات عديدة في مسألة السلطة والقوة المؤهلة للتمثيل. ويطرح تساؤلات جوهرية عَنْ مَنْ في مقدوره أن يمثل مَنْ؟ وبأيِّ سلطة؟
ولكن، من هو المؤلف البروفيسور "دباشي" بداية؟ إنَّه أستاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية ذائعة الصيت في مدينة نيويورك، وهو أحد مؤسسي معهد الاجتماع والأدب المقارن ومركز الدراسات الفلسطينية بجامعة كولومبيا. صدر له أكثر من عشرين كتاباً منها: "الربيع العربي-نهاية حقبة ما بعد الاستعمار"، و"لاهوت التحرير الإسلامي.. مقاومة الإمبراطورية"، وكتب عن السينما حيث صدر كتابه عن السينما الإيرانية "لقطة مقربة" بالعربية في دمشق. وكان "دباشي" طوال عقد من الزمن ينشر بانتظام مقالاته في صحيفة الأهرام ويكلي الأسبوعية -الصادرة في القاهرة باللغة الإنجليزية- كما ينشر مقالاته ودراساته في موقع محطة الـ"سي.إن.إن" الأمريكية، وهو مؤسس مشروع الفيلم الفلسطيني "أحلام وطن"، والذي كان عنواناً لكتاب مشترك بينه وبين إدوارد سعيد حول السينما الفلسطينية. كما أنَّ المؤلف يهدي كتابه هذا إلى ذكرى إدوارد سعيد (1935-2003) ويصفه بالزميل العزيز، والصديق الغائب، والرفيق الدائم.
في مقدمة الكتاب، والتي تعدُّ مفتاحاً لفهم صفحاته وسطوره العميقة المعنى والمبنى، يخبرنا دباشي بأنه حين تروج أعمال ذات صبغة عنصرية من أحاديث إعلامية ومشاهد سينمائية، وقراءات صحفية عن الآخر في الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة صاحبة القوة العسكرية الأولى في العالم والمشاركة بفاعليه في عمليات التدخل العسكري في أفغانستان والعراق (وفي فلسطين ولبنان عبر إسرائيل) فإنها تقول الكثير عن زعم متأصل راسخ الجذور بجدارة التمثيل الأخلاقي والمعياري؛ الأمر الذي ينبغي حقاً تحليله ومراجعته.
ويبدو واضحاً أنَّ الملازمة الفكرية من قبل صاحب الكتاب لأستاذ الاستشراق المعاصر الراحل إدوارد سعيد، قد تركت في نفسه أثراً عميقاً، وبشكل أو بآخر هو يريد أن يكمل ما قد انقطع برحيل الفلسطيني الأشهر أكاديميا في "جامعة كولومبيا".
والشاهد أنَّ إدوارد سعيد وفي كتابه الرائد الاستشراق كان يقتفي الأصل البعيد لسلطة التمثيل والتمثيل المعياري الذي تتبعه المرحلة الكولونيالية المتجبرة التي حملت معها شراذم التجار المحاربين والضباط العسكريين والمبشرين وعدداً من المستشرقين الأوروبيين في اجتماع الدنيا، ومكنتهم من الكتابة والتمثيل -بالنتيجة- عن الشعوب التي سعوا لحلمها.
والثابت أنَّ البروفيسور سعيد قد مضى وعيه في الاستشراق بعيداً نحو شرح شروط السيطرة والتمثيل بالنيابة، بدءاً من الحقبة الكولونيالية الكلاسيكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى الوقت الذي كتب فيه دراسته المفصلية في أواسط السبعينيات.
ولا تزال بعض تصوراته رغم ذلك شرعية ومؤثرة، ويتحتم اليوم تحديث ملاحظات إدوارد سعيد وتفصيل مضامينها بالنظر إلى رمزية الأحداث المفصلية التي أدت إلى متلازمة: "ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001".
ويُدرك القارئ الفاحص بعين العناية الشديدة لمحتوى الكتاب أنه وضع -على الأقل في جزء منه- استجابة لهذه الحاجة، ولخوض غمار التفكير عبر رؤى إدوارد سعيد وانعكاساتها على أحوالنا المعاصرة وليس الهدف هنا العمل فقط على تشخيص: كيف وعبر أية آليات يستمر "الشرق" في كونه ممثلاً بالنيابة، ويجري البحث في طرق إخضاعه للسيطرة، بل بهدف الوصول إلى ما هو أبعد: كيف (وبأية مصطلحات خاصة) بالإمكان مقاومة تلك الرغبة بالسيطرة. وكانت هذه الأخيرة -الرغبة في مقاومة القوة- نقطة التحول الرئيسية في دراسة إدوارد سعيد المهمة الأخرى "الثقافة والإمبريالية 1991" على الرغم من أنها في معظمها جرد أرشيفى لأنماط المقاومة الثورية ضد السيطرة الأوروبية.
هل من غاية أبعد من مجرد إكمال مسيرة البروفيسور "سعيد" الاستشراقية، على أهميتها؟ تتضح من الإجابة البصمة الخاصة للمؤلف؛ فهو عبر هذا الكتاب يحاول جاهداً وناصحاً توضيح المقدمة النظرية لما يسميه قوة التمثيل الذاتي Agency المتمرد في التابع Subaltern المستعمر والخاضع السيطرة، ويتساءل هل بمقدور التابع أن يتكلم؟
ويتمنَّى الكاتب المشاركة في الإجابة عن هذا السؤال (البلاغي ربما) سعياً نحو هذا الهدف، ويتخذ طريقه عبر عمل إدوارد سعيد للكشف في السؤال الحرج المتعلق بالتمثيل الذاتي المستقل وإرادة مقاومة القوة، وفي كيفية إتاحة المجال أمام التابع للتعبير عن ذاته وجودياً، وراء الأزمة المفترضة للمستلب. إنه السؤال الذي استقر في التفكير الفلسفي الأوروبي منذ "ميشيل فوكو" ولاحقاً له، وبقي أساساً من دون حسم لدى إدوارد سعيد.
وراء الأزمة المفترضة للمستلب، يضع البرفيسور "دباشي" فكرته تحت مجهر البحث مستهدياً بتلك اللحظات الخلاقة والدقيقة للتابع حين يقوم هو/هي باستفزاز التمثيل الذاتي والسلطة معاً للحديث علناً عن الصدمات التاريخية التي هدفت في الحقيقة إلى خنق صوته/ها.
من أية نقطة ارتكاز، ينطلق المؤلف في كتابه هذا، والذي لابد أن نقرر أنه ليس كتابا للعوام بالمطلق، ولا للمثقف العادي، إذ يرقى إلى عقلية المثقف العضوي الذي يحدثنا عنه المفكر الإيطالي الأشهر جرامشي؟
إنه يبدأ من "المثقف في المنفى" وصورته التي يفهم من خلالها معنى أن يكون المرء مفكراً في وطن لا ينتمي إليه، وهي صورة تحتل أهمية كبرى في المسعى الهادف لغرس التمثيل الذاتي المستقل بشقيه المعياري والأخلاقي وبما يمس وجودنا المادي. وعند المؤلف أنه ستبقى صورة المثقف تلك طاغية الحضور في الكتاب، ترافق خطواته الماضية نحو ابتكار صيغة لإنتاج المعرفة المضادة في زمن الإرهاب والحرب المعممة، وحيث تقتضي إرادة مقاومة القوة، رفع طاقتها لتوازي الرغبة في السيطرة والتمثيل وإظهار البشر كصراصير تنتظر الإبادة.
يدفعنا مصطلح "صراصير تنتظر الإبادة" هذا الذي يستخدمه المؤلف إلى البحث فيما ورائه نظراً لخطورته، حيث إنه اعتبر إسقاط ذات مرة على أمة بأكملها، الأمه والشعب الإيراني.. ماذا عن هذا الإشكالية؟
في الرابع من سبتمبر 2007، نشرت صحيفة "كولمبوس بوست" الأمريكية رسماً كاريكاتوريا، صور الإيرانيين كصراصير تنقذف خارجاً من بالوعة مصرف صحي، مما يعني تصوير عدو مختلق بهيئة حشرات طفيلية، وإتاحة الفرصة لمزيد من الإسلاموفوبيا أن تنتشر في الولايات المتحدة.
يذهب المؤلف هنا إلى أن فكرة "الإيرانيين كصراصير" تمثل أكثر من محاولة لتشويه التصور العام لأمة بأكملها، إنها حركة استباقية تمهد دلالاتها لموضوع الإبادة، بسبب ذلك يحدث ما يحدث للصراصير والحشرات، إنهم يبادون، غير أن مشكلة هذه الرسوم وما تستبطنه من مشاعر، هي في كونها ليست متقطعة ولا عريضة في نطاق التركيبة العنصرية التي تمثلها، بل هي متكاملة في الواقع مع طيف معياري أوسع كثيراً، عادة ما يبقى صامتاً ويتراكم بصورة غير ملحوظة.. هل للمعرفة دور هنا في مواجهة مثل هذه الهجومات العقلانية المسمومة؟
... إنَّ كتابة رسائل الاحتجاج إلى المحرر ونشرها أيضاً هي الحد الأدنى من الاحتجاج والرد تجاه سلوك كهذا. لكن ما يفوق ذلك أهمية هو السعي نحو فهم جوهري أوسع للمعايير التي يستند إليها الرسام والصحيفة وجمهور القراء كذلك، في المبادرة والقبول برسومات كهذه وفي خلق وتعزيز تلميحات حول إبادة شعب بأكمله.. لأحدنا أن يتساءل ببساطة، حتى فيما ينسب للكتاب المقدس: "بأية سلطة، ومن منحكم هذه السلطة؟".
وكما هي العادة دائماً، توجد علاقة متبادلة بين المعرفة (طرق استيعاب الجمهور) التي تولدها وتعززها تلك الرسومات، وبين القوة العسكرية القادرة على إبادة تلك الصراصير.
تتجلَّى أهمية هذا العمل من خلال بحث المؤلف عن ميكانيزمات عقلانية جديدة تسعى لابتكار سبل جديدة نحو نمط من التمثيل الذاتي المستقل يمكن التابع من إنتاج منظومته المعرفية بشأن العالم من دون أن يكون أسيرَ ما يسمى أزمة المستلب.
هذا النسق البحثي المعرفي الجزيل الأهمية، أوجب على البروفيسور دباشي بداية أن يقوم بتفكيك العناصر الأساسية للنظرية المختزلة للتابع أو "الشرقي"؛ كونها تقضي بطبيعة الحال إلى تأسيس التمثيل بالنيابة، ثم حسب أسلوب الراحل إدوارد سعيد، يسعى المؤلف لنقل السلطة المعيارية للتابع إلى موضع طباقي يرفض فيه أن يكون مختزلاً وممثلاً، أو أن يكون عرضة لأي سرد تفكيكي تقوم به "الذات العارفة".
ولعل أحد أهم فصول الكتاب في واقع الحال هو ذاك المعنون "تقدم الحجيج"، إذ قصد صاحب الكتاب إمعان النظر في أزمة "المسألة الأوروبية" المفترضة من زاوية مكملة ومختلفة، ويجادل هنا في أن أزمة المستلب قد حلت بالنسبة للإنسان ما بعد الكولونيالي ليس إبداعياً على الصعيد الجمالي وحسب، بل نقدياً أيضاً في ميدان الممارسة العملية الثورية في مواطن بعينها.
عَلَام يقوم جدل الكاتب في هذا السياق؟.. إنه يقوم على أن الأزمة المفترضة للمستلب هي الوجه الآخر للأزمة الحقيقية التي خلقتها الأيديولوجية السائدة والتي فشلت قطعاً في الإقناع أو السيطرة، أو تعزيز حالة العبودية لدى الجمهور الذي تستهدفه. وعلى الضفة المقابلة للأزمة الأيديولوجية (بمعنى الهيمنة الإمبراطورية)، يسطع دليل استثنائي على حالة ثورية عابرة للحدود جسدها عدد من قادة العالم الثوريين في القرن العشرين. وتبعاً لذلك، يحاول دباشي في هذا الباب نسج خيوط متعددة على نول رؤية مشتركة بين عدد من المفكرين والفاعلين الثوريين: تشي جيفارا، فرانتز فانون، مالكوم إكس، وعلي شريعتي، الذين تمكنوا من اجتياز عوائق مربكة للوصول إلى عولمة مفهوم التحرر. وهدفه المؤلف هنا هو تفصيل قضية التمثيل الذاتي الخلاق في السياق الثوري على وجه التحديد، وبرهنته أن الخصيصة الثورية الأصيلة حقاً هي التمظهر الجلي المناقض على الدوام لحالة الزيف الثوري.
وفي هذا الإطار، وبناء على هذه المقدمة، يعتبر المؤلف إدوارد سعيد مفكراً ثورياً حقق في فضاء الأفكار والتطلعات ما حققه بالضبط وبصورة عملية كل من تشي جيفارا، وفرانتز فانون، ومالكوم إكس، وعلي شريعتي، مترجماً القيود التي يفرضها الأصل المحلي ونعرة المواطن الأصلي إلى لغة عامة متداولة في الصراع الدولي قدم عبرها قضيته الخاصة فلسطين.
وفي ختام صفحات كتابه، يؤكد "دباشي" أنَّ مسألة المعرفة في مواجهة صراعات مثل الإسلاموفوبيا والاستشراق المغلوط في زمن السماوات المنفتحة، والإعلام ذائع الصيت، الذي يشكل العقلية الأوروبية كما الأمريكية ليس خلق "جيتو-ثقافي" آخر هو ما يتوجب فعله، وإنما احتلال المركز وإعادة تأطيره واستبعاد المحيط المختلق من ثم. وكلما تراجعنا للوراء باتجاه تحصينات خانقة أخرى في المحيط كلما اتسعت المساحة التي يحتلها في المركز "مريد وهنتجتون وفوكاياما وبريميلو"، ليبقى هؤلاء الوحيدون المخولون بقراءة التغيرات المقبلة.
... لن تكون إعادة تحديد المركز مهمة سهلة على أية حال، فأمامنا حضور مؤسساتي راسخ لحماة "الحضارة الغربية"، الحرس المتطوعون الساهرون على الكابوس الذي حلم به هيجل وفسره شبنجلر.
إنَّها للحظة عظيمة في التاريخ كما يذهب دباشي أن نرى هلع أولئك المنتفعين بالحداثة الرأسمالية وهم يرون تداعي تلك الجدران العالية التي احتفوا بها طويلاً ونعموا بالسكينة في ظلالها لزمن طويل.
والخلاصة أنه كما يواجه حماة "الحضارة الغربية: مخاوفهم ويلتفون على الانهيار الممتد الذي يجرد الفرد من رواياته يمضون نحو قراءة اليقينيات الميتة فيما يسمونه "الكلاسيكيات. إنها لمهمة حاسمة أمام المثقف ما بعد البلدي (الكولونيالي) أن يقض مضاجع أمراء الحرب الثقافية أولئك في "الغرب" المتوهم، ويزعزع اعتقادهم بحق حيازة هذه النصوص، كلا.. هذه النصوص ليست لهم، هي لنا وهي نحن، وهم فيها مقيمون في المنفى.
----------------------
- الكتاب: "ما بعد الاستشراق.. المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب".
- المؤلف: حميد دباشي.
- الناشر: منشورات المتوسط/ميلانو/إيطاليا.
- سنة النشر: 2015.
- المترجم: باسل عبد الله وطفة.
- عدد الصفحات: 350 صفحة.
* مدير مركز الحقيقة للدرسات السياسية والإستراتيجية.
