صورة الإسلام في الفكر الإسباني المعاصر

صورة الرسول غلاف.jpg

سعيد بوكرامي

يرُوْم كتاب "صورة الرسول مُحمَّد في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير"، إلى تفسير أسباب تعصُّب الفكر الإسباني تجاه الإسلام ورموزه المقدسة؛ انطلاقا من حقل الفكر الإسباني المعاصر.. ويعود اهتمام هذا الأخير بالإسلام ورموزه إلى تخوف ورهاب وعداء استشرى في العصر الوسيط واتسم بالعدوانية تجاه الإسلام والمسلمين خلال المواجهة العسكرية بينهما في الحروب الصليبية أو قبل ذلك في حروب الاسترداد للأندلس، والتي تحوَّلت إلى فكر عنصري يطبق نظرة عرقية إلى الشعوب ما بين راقية ومنحطة. هذه العدوى العدائية انتقلتْ إلى الفكر الإسباني المعاصر، الذي أصيب بدوره بذعر وقلق من دعوات استعادة الأندلس إلى الحكم الإسلامي، والرغبة في الصلاة بمسجد الخيرالدا. كما يدَّعي المفكر الإسباني كامبوامور قائلا: "ويبدو أنَّ هذا القلق تحول إلى رهاب نفسي يستبد بالفكر الإسباني، ويشكل واحدة من البنيات التي تتجوهر بها الخطابات الإسبانية حول الإسلام والمسلمين". ومن هُنا، يتَّضح للباحث أنَّ جوهر الفكر الإسباني حول الإسلام لم ينتج غير الجهل والتحريف. وكما يقول الكاتب: "لم تترك لغيرها بابًا من أبواب التدليس والتلبيس إلا طرقته، ومن ثمَّ فهي تخسر فرصة تاريخية في النهوض بمسؤولية الحوار الديني على شروط من العدل والإنصاف، من منطلق الجوار التاريخي خلال الوجود الإسلامي في الأندلس، أو من منطلق الجوار الجغرافي مع القطر المغربي" (ص:5).

ويوضِّح الباحث أنَّ من أهداف بحثه دراسة هذا الوضع الفكري الحرج عبر دراسة واصفة لمتن الفكر الإسباني المعاصر ومضمونه. دراسة ناقدة للمعنى وسياقاته التاريخية والدينية، ومتفحصة للمقاصد وغاياتها، راصدة للآفات وهناتها، واضعة الحق حيث تراه في منزلته، وطارحة الباطل حيث تراه في رتبته.

 

ومن خلال ما قلناه، يبدو جليًّا أنَّ الكتاب يرنو إلى دراسة خطاب الفكر الإسباني المعاصر وصورته تجاه الرسول، وما ترتب عنها من "توتر حاد" و"صراع عقدي" في مرجعيته المسيحية أو العلمانية، التي غلب عليها الحضور الأيديولوجي منهجا ومعرفة؛ لأنها لم تكن منصفة ولا محايدة ولا مثمرة؛ بحيث أنَّها كانت مَيْلا إلى التعصب والصراع العبثي مع الإسلام.

ويستدعي الكاتب في تقديمه العام للكتاب رأيا ينحاز إلى العقل والإنصاف وهو للباحثة مارية مرتين غومز؛ تقول الباحثة مقترحة وسيلة لحل الصراع: "ليس من الصواب أن يفرض الغرب قيمه، ويسقط هو الآخر في تطرفه الخاص. إنَّ حمل الناس على الليبرالية، واستنبات الاحترام لحقوق الإنسان بصورة عنيفة في العالم الإسلامي، أو تسريع إيقاعها هناك، يُمكن أن يكون غير مأمون العواقب. إنَّ التعود على هذا يحتاج إلى الوقت والحيطة، وكثيرا من التخلص من الأحكام المسبقة من لدن الغرب. ما ينبغي عمله، هو تشجيع التطور السياسي في البلاد الإسلامية والشروع في تبادل محترم للتقاليد" (ص:9).

ورغم اعتراف الباحث محمد بلال اشمل استنادا إلى مقولة البروفيسور جرسيه جومز هيراس بأنَّ مسألة حوار الحضارات عبارة عن "متاهة حقيقية" محفوفة بالصراع والبؤس والجنون للنظر بعمق في متن هذا الفكر الإسباني واقفا على بنيته وراصدا دلالته. من خلال أربعة فصول. ضمَّنها مبحثا أول عن بنية الخطاب حول الرسول في الفكر الإسباني الوسيطي. من بداية تشكل صورة الرسول في الفكر الإسباني المتصل بالإسلام ونبيه. مع "رامون مارتي الذي طغى على فكره ظاهرة الاعتراض والتدافع من خلال تزكية الذات الغربية وتجريح الذات الإسلامية. لكن رغم العداء المترسخ في هذا الخطاب، فقد ظهرت بالمقابل خطابات مدافعة عن الإسلام ومسالمة معه؛ أهمها: موقف "أنسليم طورميدا" و"خوان الشقوبي". ثم يعرج الباحث على موقف "رامون ليولا" الذي ينظر إلى الرسول نظرة عدائية وعنصرية. أما "خوان الطوركيمادي"، فيعدد بسذاجة ما يعتبره الأخطاء الأساسية لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وفي الفصل الثاني، يُبرز الباحث بنية الخطاب حول الرسول في الفكر الإسباني المعاصر انطلاقا من رفع الذات ووضع الغير، ويتوقف فيه عند آراء "دونسو كورتيس 1436-1517"، التي تتميَّز بالاستعلاء والعداء والكراهية حول كل ما يمثل الإسلام، وبالنظرة الاستعمارية؛ بحيث أنه كان يدعو إلى استئناف الحروب الصليبية لطرد الإسلام من دياره، بدعوى عدم امتلاك الإسلام للحقيقة والشرعية، وأنه مجرد "شجرة عقيمة". أما "أنخيل جانيفيت 1865-1898"، فيرى أنَّ الإسلام يصير خطيرا "إذا سمح له بالهيمنة على أراض كثيرة موحدة، فيما بينها ومتشكلة من رابطة دينية"، في حين يعتبر "رامون كامبو أمور 1817-1901" أنَّ الرسول "من الرجال العظام الذين جعلوا التعصب غايتهم"، وهذا الفكر من منطلقه يُظهر العداء، ولا يُمكن أن نؤسِّس عليه حوارا حضاريا. بيد أن "منينديث بيلايو 1856-1912" الذي يُعدُّ من أكبر المؤرخين في المدرسة التاريخية الإسبانية، ذات النزوع القومي المتطرف الميّال إلى الغلو. ومن ذلك اعتباره الرسول منتحلا لأحسن ما في اليهودية والمسيحية، وأن أفضل ما في الإسلام مأخوذ من الشريعة القديمة والجديدة. فكان فكره مشابها لأفكار أصحاب محاكم التفتيش؛ بحيث كان مناصرا ومجاهرا بضرورة احتلال المغرب والقضاء على المسلمين. ثم ينتقل الباحث لعرض أفكار "آسين بالاسيوس 1871-1944" وهو مُستعرب مشهور له فضل على الدراسات الإسلامية، خصوصا دراساته عن ابن عربي والغزالي وابن حزم وابن مسرة وابن طفيل وابن باجة وابن طملس...وغيرهم. وبصدد الرسول، يرى بالاسيوس أنه مجرد ناقل للإنجيل، وما ورد منه أو عنه تم نقله نقلا حرفيا أو معدَّلا من التعاليم المسيحية، ويرى الباحث محمد بلال أشمل أن أفكار "بالاسيوس مزيفة ومتناقضة ورافضة لرسالة الإسلام ورسوله، كغيرها من أفكار المفكرين الإسبان".

وفي الفصل الثالث، عرض الباحث صورة الرسول في الخطاب الإسباني المعاصر بين "التعصب" و"الإرهاب". وهنا يتوقف الباحث عند المفكرين المعاصرين مثل خوستافو بوينو 1924 الذي دعا علانية إلى اجتثاث الإسلام من جذوره بسلاح العقلانية. بحيث طالب بعد أحداث 11 سبتمبر قائلا: "ينبغي الهجوم على جذور الإسلام ذاتها، كما حدث مع الكنيسة في القرن الثامن عشر، وما قام به عصر الأنوار يومئذ. ولكن طالما تؤخذ الأمور برفق، فليس في وسعنا القيام بأي شيء. لا بد من تدمير جذور الإسلام ولن يتأتى ذلك إلا بسلاح العقلانية" (ص 103). ويرى الباحث أنَّ بنية خطاب خوستافو مستنسخة ومعدلة ومصطنعة، يعميها التعصب ولا ترى من الإسلام غير صوره المحرفة والمشوهة، وهي لفئات قليلة تجهل بدورها روح الإسلام وجوهره المعتدل.

وينتقل الباحث فيما بعد إلى عرض أفكار الفيلسوف الإسباني "أوخينيو ترياس" 1942-2013، الذي درس الحقيقة المحمدية دراسة معمقة محاولا إرجاعها إلى مصادرها الثيولوجية. منبها إلى أنه ما من ضرورة للتشكيك في أن هناك مصادر سماوية للدعوة المحمدية. أما المفكر الإسباني ثيسار فيدال صاحب كتاب "إسبانيا في مواجهة الإسلام: من محمد إلى بن لادن"، الذي يسعى من خلاله إلى رسم صورة سيئة وباطلة للمسلمين. كتاب يروج لثقافة الكراهية والتحريض على الإسلام.

وينتقل الباحث في الفصل الرابع والأخير إلى تفسير دلالات الخطاب حول الرسول في الفكر الإسباني المعاصر. ويحصر هذه البنية في دلالتين؛ هما: "الرفع من قيمة الذات الإسبانية /الغربية" و"الوضع والحط من قيمة الغير/الإسلام ورموزه المقدسة"، وانطلاقا من تضخيم الذات والدجل الفكري المصطنع الذي ينطلق منه المفكرون الإسبان الذين أنتجوا فكرًا ينبني على بنية متهافتة، من التداعي المفرط والتعصب المجاني مبتعدين كل الابتعاد عن آداب البحث، والوفاء بأخلاق الحوار. وكما يقول الباحث: "خطاب يتسم بكونه يحول بكيفية موضوعية دون أي تقارب فكري، أو إجراء أي حوار ديني، أو ترسيم أي سلم سياسي بين المسلمين...وغيرهم عموما، وبينهم وبين الإسبان خصوصا" (ص:140). وكانتْ نتيجة انزياح الفكر الإسباني عن مقاصده الحقة أنه أنتج خلافا أيديولوجيا وثقافيا بين تقليدين دينيين الواحد منهما في مواجهة الآخر، وهما العالم المسيحي والإسلام. ولم يتوقف الخلاف عند هذه الحدود والنتائج، بل تجاوزها ليتحول إلى خسارة حضارية في الماضي حينما تحول جنون الاستحواذ على الأرض إلى هستيريا دينية أسفرت عن عصبية وعنصرية ومحاكم تفتيش دون بمداد الخزي تاريخا من الإبادة والإقصاء. ثم خسارة في الحاضر حينما أنشأت خطابا فكريا تحريفيا وإقصائيا وأنانيا. وبذلك يكون هذا هو السياق العام الذي أنتج النظرة المنحرفة عن الإسلام وإلى نبيه عليه السلام. وكما يقول الباحث: "سياق الصراع الغربي مع دين الهدى ورسول الرحمة. وهو السياق ذاته الذي أفرز خطابا حول الإسلام، ونبيه عليه السلام، تميّز بكثير من سمات "البؤس" و"الجنون"، ميزا بدورهما ذلك التاريخ..." (ص:12)، وإذا نظرنا إلى هذا التاريخ وخطابه الفكري قديمه وحديثه، سنرى أنه لا يهيِّئ أسباب الحوار البناء والفعال مع المسلمين، ولا يضمن شروط التفاهم المنتج، لأنه يصطنع أدوات من خارج النسق العلمي للحجاج والمناظرة؛ إذ تحكمه معايير أخلاقية وتسيطر عليه نوايا سياسوية لا تقوم على معايير الحقوق الأساسية الإنسانية التي تدعو إلى التفاهم والتعايش بأمن وسلام مع احتفاظ كل طرف بثقافته ومعتقداته والسعي نحو بناء حضارة إنسانية من التسامح والعطاء المتبادل.

ثم ينتهي الباحث إلى أنَّ الإسبان استعماهم الحقد والكراهية والخوف من الإسلام وتاريخه الحاضر بقوة في دمائهم وجوارهم الجغرافي؛ فضيَّعوا على أنفسهم فرصة تاريخية للنهوض بالحوار الديني على شروط من العدل والإنصاف، من منطلق الجوار التاريخي خلال الوجود الإسلامي في الأندلس، أو من منطلق الجوار الجغرافي مع القطر المغربي.

وتكمُن قيمة هذا البحث في أنَّه اقتحم متون الفكر الإسباني، باللغة الإسبانية. كاشفا جوهر رؤيته ومتنه ودلالته الفكرية والدينية والسياسية والسياق التاريخي. فكر رافض ومتعصب ومحرف ومتعجرف. يَنْأى كلَّ النأي عن المقام العلمي والانتماء الحضاري والمعيار الأخلاقي. لا يكف عن ترديد أكثر التهم بطلانا وبهتانا ومكرا في حق الرسول ونبوته وحق الإسلام ودعاماته. وبذلك، فكَّك الباحث محمد بلال أشمل سر رهاب الفكر الإسباني المعاصر من الإسلام. المتمثل في الخشية من فقد الأندلس من جديد وتجربتها المأساوية مع حكم الجنرال فرانكو الذي استعان بالمغاربة للقضاء على الجمهوريين. وبذلك تحول الرهاب من الجار إلى خوف هائل من الإسلام، صاحبه تأويل صدامي؛ فكلما كانت المواجهة شديدة مع الإسلام، أصبح الخوف متعاظما على إسبانيا منه.

أمام الفكر الإسباني الكثير من الوقت لمداواة أمراضه النفسية عن الإسلام والكثير من الجهد لإعادة بناء صورة صحيحة وحقيقية عن الإسلام ورموزه المقدسة.

-----------------

- الكتاب: "صورة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الإسباني المعاصر.. تزكية الذات وتجريح الغير".

- المؤلف: د.محمد بلال أشمل.

- الناشر: دار نون للنشر-الإمارات، الطبعة الأولى 2015.

- عدد الصفحات: 154 صفحة.

أخبار ذات صلة