للورنس جيمس
مُحمَّد السمَّاك *
قبل عَرْض مضمون هذا الكتاب التاريخي- السياسي- الفكري، لا بد من التوقف أمام ملاحظتين مهمتين؛ الملاحظة الأولى: هي أنه قبل صدور هذا الكتاب بأقل من عام، صدر كتاب آخر حول الموضوع ذاته، عنوانه: "إمبراطورية تشرشل: العالم الذي صنع تشرشل.. وتشرشل الذي صنع العالم"، للمؤرخ الإنجليزي ريتشارد توي. أما الملاحظة الثانية، فهي أنَّ تشرشل كان مُلهِماً لغيره من بعض كبار قادة العالم، ولعلَّ أبرزهم في عصرنا الحاضر: الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان؛ ففي خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس ريجان، قال: "إنني لم أقدم على أداء القسم من أجل أن أتولى رئاسة تصفية أقوى اقتصاد في العالم". وهذه العبارة مقتبسة من عبارة وردت في خطاب لونستون تشرشل ألقاه في نوفمبر 1942 عندما عُيِّن بعد الحرب العالمية الثانية رئيساً للحكومة البريطانية. فقد قال في خطابه آنذاك: "إنني لم أصبح الوزير الأول في حكومة الملك من أجل أن أترأس عملية تصفية الإمبراطورية البريطانية".
حتى الرئيس الأمريكي جورج بوش -الابن- كان يعتبر تشرشل نموذجاً لرجل الدولة، وكان يضع تمثالاً رأسيًّا له فوق مكتبه في البيت الأبيض، كان قد تلقاه هدية من الحكومة البريطانية. ولكن عندما وصل الرئيس الحالي باراك أوباما إلى البيت الأبيض كان أول ما قام به هو إزالة التمثال وإعادته إلى الحكومة البريطانية. ذلك أنه على عكس الرئيس بوش، كان أوباما يعتقد أن تشرشل أساء إلى الشعب الكيني واستبدَّ به، كما يبيِّن ذلك كتاب الدكتور لورنس جيمس.. ويشير الكتاب في فصله الأول إلى أن تشرشل أبصر النور في الوقت الذي كانت الإمبراطورية البريطانية في ذروة قوتها وهيمنتها، وأنه عاش حتى رأى أفولها ونهايتها. وهذه المفارقة تشكل جوهرَ وأساسَ البحث العلمي التاريخي الذي ورد في فصول الكتاب.
لا بد أولاً من كلمة صغيرة في المؤلف؛ فهو مواطن إنجليزي اختصاصي في التاريخ البريطاني، وله عدة مؤلفات أكاديمية علمية حول هذا الموضوع. ويذكر المؤلف في هذا الكتاب أن تشرشل انتُخب لأول مرة عضواً في مجلس العموم البريطاني وكان عمره 25 عاماً. وقبل أن يصبح سياسياً كان جندياً في الجيش البريطاني، ثم عمل مراسلا صحفيا. ومن أشهر مقولاته في تلك الفترة عبارته التي يقول فيها (كما وردت في الكتاب): "إنَّ إدراكنا بالسيطرة على شعوب متعددة، يجب وحده أن يزيد من شعور كل إنجليزي بالاحترام الذاتي".
ويروي الكتاب مسيرة تشرشل التي أوصلته إلى هذا "الإدراك" العنصري المتعالي. ويبيِّن كيف أن تشرشل شارك بنفسه مثلاً في القتال في السودان وخاض معركة أم درمان في العام 1898، والتي وصفها الكاتب نفسه لورنس جيمس بأنها كانت "أقرب إلى المجزرة منها إلى المعركة".
ويوثِّق الكتاب كيف أنَّ تشرشل قتل بنفسه عدداً من المجاهدين الذين كانوا يدافعون عن المهدي. ويقول إن كل "الدراويش" الذين لم يستسلموا على الفور، قتلوا رمياً بالرصاص.
ويقدم المؤلف صورة أخرى عن تشرشل كوزير للمستعمرات بين عامي 1905 و1908 ويقول إن تشرشل زار كينيا وفي ظنه أن شعبها المتأخر (نذكر بأن الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما يتحدر من كينيا) يحتاج إلى أن يتعلم النظام والعمل المنتج. وقد اعترفت الحكومة البريطانية مؤخراً بما تعرض له الكينيون على يد القوات البريطانية بقيادة تشرشل من اضطهاد وتعذيب؛ حتى أنها وافقت على تقديم تعويضات مالية لعدد كبير من أسر الضحايا.
إلا أنَّ المؤلف يذكر في كتابه أيضاً كيف أن تشرشل أصيب بخيبة أمل من جراء تعرض الأهالي في جنوب إفريقيا إلى مذبحة واسعة على يد القوات البريطانية هناك؛ الأمر الذي يتكامل مع صورته المتناقضة، والتي يحددها المؤلف بقوله: "إن تشرشل كان في كل حياته حزمة من المتناقضات: تحرري وعنصري، فروسي ومتوحش".
وينقل الكتاب عن ونستون تشرشل ما أورده هو نفسه في كتابه: "مطلع حياتي" عن كيفية دخوله معترك الشرق الأوسط. ويقول إن الدخول إلى هذه المنطقة حدث بعد ثلاث سنوات من الحرب العالمية الأولى، وتحديداً بعد معركة غاليبولي التي انتهت بكارثة ومجزرة كبيرتين، تولى في إثرها منصب وزير المستعمرات. وفي تلك الفترة يقول تشرشل نفسه إنه فتح عينيه على الحياة السياسية مع حزب المحافظين، وهذا يعني أن يكون موالياً للأتراك؛ لأنه كان هناك مبدأ بريطاني قوي بضرورة المحافظة على الإمبراطورية العثمانية حتى لا يؤدي انهيارها إلى حدوث فراع تملأه روسيا.
ولكن عندما انهارت الإمبراطورية نتيجة للحرب، بادر البريطانيون أنفسهم إلى ملء الفراغ بطريقة يصفها الكتاب بأنها "غير مقصودة وغير مخطط لها". وفي ضوء ذلك، يؤكد الكتاب أن تشرشل تمسك بوحدة دولة مصطنعة اسمها العراق، وبتقسيم المناطق الغربية، إلى شرق الأردن وفلسطين.
ويقول المؤلف في معرض تقديمه هذه الصورة التاريخية: إنَّ تشرشل رغم عواطفه المؤيدة للمستوطنين الصهاينة، أدرك بسرعة أي عبء تشكله فلسطين. لذلك فكَّر برمي الكرة إلى ملعب الولايات المتحدة الأمريكية؛ ظناً منه أن الأمريكيين كانوا على استعداد لتقبل هذه المسؤولية. وهذا ما حدث فعلاً. وهو مستمر حتى يومنا هذا.
ويلقي الكتاب بعد ذلك الضوء على دور تشرشل في الهند، ويقول إن تشرشل كان يؤمن إيماناً قوياً بأن البريطانيين "أنقذوا الهند من نفسها"؛ إذ إنَّها وقعت -وعلى مدى أجيال- ضحية البربرية والخيانة والحروب الداخلية؛ لذلك وقف بصلابة ولسنوات طويلة ضد منح الهند أي شكل من أشكال الحكم الذاتي بحجة أنها لا تستحقه ولأنها غير مُهيَّأة له.. إلى أن تقبل الهزيمة أخيراً رغماً عنه بإعلان استقلالها فيما بعد.
ويعتبر المؤلف في كتابه أن الهند تشكل وصمة العار الكبرى في سجل تشرشل؛ لأنه طوال فترة ترؤسه الحكومة البريطانية بين عامي 1940 و1945 كان يرفض بعناد شديد أي محاولة للتفاهم مع المهاتما غاندي ومع حزب الكونجرس. أما اليوم، فيُقام نُصب تذكاري للمهاتما غاندي في ساحة مجلس العموم البريطاني، إلى جانب تمثال تشرشل نفسه. ويحمِّل المؤلف، الرئيس تشرشل، مسؤولية المجاعة الكبرى التي حلت بمنطقة البنغال في العام 1943، ويقول إن هذه المجاعة كالمجاعة التي حلت بأيرلندا قبل مائة عام، لم تكن الحكومة البريطانية مسؤولة عنها، إنما المسؤولية تقع على عاتق لا مبالاة الإدارة البريطانية باعتبار أنها مسؤولة معنوياً من خلال سيطرتها على الهند (وإيرلندا).
ويرسم المؤلف صورة سلبية عن الرئيس تشرشل من خلال دعوة تشرشل الفرنسيين إلى الانسحاب من الهند الصينية (فيتنام) وإبداء تعاطفه مع حركة الماوماو في جنوب إفريقيا، وفي الوقت ذاته معارضة الانسحاب البريطاني من الهند. وقد ذهب في معارضته تلك إلى حد التنديد بحكومة العمال بسبب منح الهند استقلالها. فقد كان ينظر بدونية إلى الهنود ويقول إن المجاعة الواسعة التي أصابت شعباً لا يملك الطعام أصلاً هي اقل وطأة من المجاعة المحدودة التي أصابت اليونان في ذلك الوقت.
وفي ضوء هذا العرض لكتاب الدكتور لورنس جيمس "تشرشل والإمبراطورية"، فإنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: لو أن ونستون تشرشل يبعث حيًّا اليوم كيف يمكن أن يعلق على ما ورد في هذا الكتاب؟ لعل من المفيد للإجابة عن هذا التساؤل التذكير بالقصة التالية:
قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، اجتمع الرؤساء الثلاثة تشرشل وروزفلت وستالين. في هذا الاجتماع، قال تشرشل للرئيسين الأمريكي والسوفييتي: "إن التاريخ سوف ينصفكما.. وسوف ينصفني أنا أيضاً".. فتساءل ستالين باستغراب: وكيف ذلك؟ رد تشرشل: "لأنني أنا من سيكتب التاريخ". وبالفعل، عكف تشرشل بعد تخليه عن رئاسة الحكومة على كتابة مذكراته عن الحرب العالمية الثانية بأسلوبه الأدبي الراقي. وفي هذه المذكرات جعل من نفسه، ومن رفيقيه، أبطالاً. وحصل بسبب كتابه هذا على جائزة نوبل للآداب.
---------------------
- الكتاب: "تشرشل والإمبراطورية: صورة استعماري"
- المؤلف: لورنس جيمس.
- الناشر: (Pegasus Books).
- تاريخ النشر: 2014.
- عدد الصفحات: 452 صفحة.
* مفكر لبناني متخصص في دراسات العلوم والسياسة والفكر الإسلامي، يعمل حالياً مستشاراً لمفتي الجمهورية اللبنانية.
