«البحر الأبيض المتوسط.. المسيحية والإسلام بين التعايش والتصادم»

غلاف كتاب البحر الأبيض  المتوسط.jpg

لأندريا ريكاردي

أمين منار *

عرف حوض المتوسط تفاعل العديد من الحضارات على ضفافه؛ سواء في ماضيه القديم أو في تاريخه الحديث. فقد جمعت شعوبه قواسم مشتركة صحبتها تباينات عميقة، بما جعل المتوسط ليس بحرا واحدا بل مركب من البحار، كما يقول فرناند بروديل. وكتاب المؤرخ الإيطالي والأستاذ الجامعي أندريا ريكاردي "البحر الأبيض المتوسط"، الذي نتولى عرضه، هو من المؤلفات التي تُعنى بالمتوسط في تاريخه الحديث، من منظور تفاعل شعوبه على نطاق ديني، لا سيما وأن المنطقة تضمّ دينين رئيسيين: الإسلام والمسيحية، طَبعَا تاريخها وما زالا حاضريْن بقوة في الكثير من التوجهات الحضارية. وبالتالي ليس كتاب ريكاردي تأريخا بالمعنى الحضاري الشامل للمتوسط، بل هو كتاب في تاريخ التفاعل الديني، يتركز على معالجة قضايا حقبة محددة.

وفي مستهلّ الكتاب، وتحت عنوان "أزمة التعايش في المتوسط في القرن العشرين"، يستعرض ريكاردي تفاعل الأحداث السياسية الدينية التي شهدتها المنطقة، التي يبدو البُعد الحضاري للمسيحية والإسلام قويا في توجيهها. حيث يقتفي الكاتب جذور التدافع بين الضفتين الجنوبية والشمالية، المحكوم بوجه عام برؤى الدينيْن؛ إذ يبدو الإسلام والمسيحية قدرهما التصادم، جراء تحفّز كلاهما لبلوغ كافة الخلق بدعوتيهما، وجراء رؤية كل منهما للعالم. فعلى خلاف الديانات الشرقية الأخرى -كالبوذية والهندوسية والكنفشيوية والطاوية- يشعر أتباع الإسلام والمسيحية بأن من واجبهم خوض تبشير كوني، وبالتالي توسيع تأثير نفوذهم بما يتجاوز الحدود التقليدية للدينين. وقد خلَّف التدافع الحضاري بين الضفتين توترا دائما، حوَّل المتوسط إلى مقبرة كبرى، كما يقول صاحب مدوّنة المتوسط فرناند بروديل. فما كان المتوسط بحرا هادئا من زاوية سياسية، في تاريخه الحديث، بل كان بؤرة صراع بين جنوب أصولي وشمال لائكي تعددي، بحسب توصيف ريكاردي. لكنَّ رؤية ريكاردي للصراع تبدو محكومة برؤية غربية مجحفة؛ كون الصراع الذي عرفته المنطقة كان بالأساس بحثا عن الهيمنة في بُعديها السياسي والاقتصادي، وما كان حضور الدين في ذلك سوى لاحق من اللواحق، أو مكمل من المكملات في آلة الهيمنة الكبرى.

والواقع أنه ومنذ تراجع الدولة العثمانية تحوَّل المتوسط إلى مسرح مناورات أوروبية من جانب واحد، باتت فيه الضفة الجنوبية، أو الضفة الإسلامية تحديدا، منفعلة بما يصدر عن أوروبا سياسيا وثقافيا، وهو ما تواصل إلى التاريخ الراهن.

وبرغم واقع التنافر بين جنوب المتوسط وشماله، فالطرفان مدعوّان -بحكم الجغرافيا والتاريخ- للعثور على شكل جديد للتعايش في هذا الواقع المشترك الذي يُسمَّى المتوسط كما يرتئي ريكاردي. ولعل الشيء اللافت في ذلك المسار أن الحدود الدينية لأوروبا قد تناغمت مع الحدود السياسية -لا سيما بعد طرد المسلمين واليهود من إسبانيا- وتواصلت أجواء لا مكان لغير المسيحيين في أوروبا إلى حدود الثورة الفرنسية. ساد حينها التماهي بين المواطنة والانتماء الديني، حتى ضاقت الأمور على الأوروبي المغاير للنمط الكاثوليكي الروماني، وتبدو حرب الثلاثين سنة (1618-1648م) بين البروتستانت والكاثوليك، إحدى الفصول البارزة عن ذلك الجو السائد. وفي مقابل ذلك، يرى ريكاردي أن الأوضاع في جنوب المتوسط، داخل الفضاء العربي تحديدا، كانت مغايرة، فما كانت "المواطَنَة" قائمة على طمس الهوية الدينية للآخر لصالح هوية مهيمنة. وعلى ما يرصد الباحث، وإن شكّل التمازج مع المسيحية في المشرق عنصرا بارزا، فقد كان التمازج مع اليهودية في بلاد المغرب الوجه الآخر لذلك التمازج، حتى أفرز في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب تشابها اجتماعيا كبيرا بين أتباع الدينين، استمرّ حتى عشية اجتياح الاستعمار للمنطقة. لعل أبرز وجوه التماثل في تعدد الزوجات وفي طقوس الأولياء وفي الأعراف الاجتماعية والعادات الشعبية. وكما يرى ريكاردي برغم هيمنة الإسلام، فقد كانت دار الإسلام دارا للجميع. بلغ معها نظام الملل العثماني مستوى من التطور، بات فيه التنوع الديني بمثابة دولة داخل الدولة، تنتفي فيها الحدود وتمتدّ حيثما امتدت الطائفة.

وبُعيد ذلك التعايش، دبَّ تحوّلٌ جذري في أوضاع المتوسط، وفي الوقت الذي بدأ فيه انفتاح أوروبا على المغاير الديني، مع اندلاع الثورة الفرنسية وتشكّل رؤى لاستيعاب الآخر، بناء على "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الفرنسي 1789، بدأ العالم العربي مع "الرجل المريض" يضيق بما يضمّه من طوائف دينية، انتهى فيها المسيحي الشرقي -كما يقول ريكاردي- للإحساس بالاختلاف عن المسلم، وكأنه ينتمي إلى عالم آخر مرجعيته في الغرب. والحالة اللبنانية جلية في هذا السياق، حيث اكتسح التأثير المسيحي الأوروبي عقل الشرقي وروحه، إلى أن أُلحقت الكنيسة الشرقية بالكنيسة الغربية. ففي ظل الاستعمار الغربي باتت الأقليات المسيحية العربية طورا تطالب بدويلات وتارة بحماية أجنبية، بقي أثناءها الأرثوذكس العرب الأكثر تعلّقا بالعروبة. ذلك التحول الطارئ على الولاء الحضاري، ينطبق على يهود البلاد العربية أيضا، فقد خرج شقٌّ واسع من الذين هادو مع "التحالف الإسرائيلي العالمي" (Alliance Israelite Universelle) من حضن الشرق إلى حضن الغرب، وحالة دمج يهود الجزائر ضمن المشروع الاستعماري الفرنسي بارزة بشكل واضح. فقد لعب التحالف المذكور دورا كبيرا في إدخال اليهود ضمن دائرة الثقافة الغربية وتوجيههم وجهة مغايرة لماضيهم السالف. وإن بقي يهود الدولة العثمانية حينها بمنأى عن الدعاية الصهيونية لتيودور هرتزل وعن إغراءات "التحالف الإسرائيلي العالمي"، على خلاف ما لحق بيهود تونس والجزائر وليبيا الذين شهدوا تزعزعا عميقا دفع بالكثير منهم إلى مسايرة النظام الاستعماري. تعرّضَ بول صباغ إلى الوهن الذي أصاب الحاضنة الحضارية العربية من خلال عيّنة تونس في كتابه المؤلف بالفرنسية "تاريخ يهود تونس" (1991)، مما شجع اليهود للتعلق بالمستعمر الفرنسي وجودا ومصيرا، وهو ما ينطبق تقريبا على سائر يهود البلاد العربية، على أمل حصول تغير في أوضاعهم الاجتماعية، بعد أن أرهقهم نظام الذمة المتقادم، ولم يتحقق تطور يُذكر مع نظام الملل العثماني. فقد كان المرء يولد أرثوذكسيا أو أرمينيا أو يهوديا حتى يوجد، لاعتراف التعددية العثمانية بالطوائف لا بالأفراد.

وفي الوقت الذي كان فيه مسيحيو الشرق يبحثون عن الخروج بشتى السبل من نير النفوذ التركي، كان اليهود في تركيا أقل حماسا. وخلال العام 1918، ذهب البطريرك اليوناني الأرثوذكسي ميليتوس في زيارة إلى حاخام إسطنبول الأكبر في مسعى لكسبه لاتفاق جماعي يبحث في مصير غير تركي للقسطنطينية، تلقّى الإجابة التالية: "نحن قادة الأديان، مهمتنا يمليها الدين. اصغِ إلى ما قاله النبي إرمياء: التمسوا سلام المدينة التي سبيْتُكم إليها، وصلُّوا من أجلها إلى الرب لأن سلامكم يتوقّف على سلامها". بعد الحرب العالمية تزعزع التعايش الديني في الضفة الجنوبية للمتوسط، وبالمثل ساهم ظهور القوميات في المتوسط (منطقة البلقان) في تزعزع التوازن القائم منذ قرون.

تحوّل المسيحي الذمي، مع تراجع الدولة العثمانية، إلى مسيحي محمي من قِبَل القوى الأوروبية. ومنذ 1774 كان لروسيا حماية المسيحيين الأرثوذكس، كما لعبت فرنسا الدور نفسه تجاه الكاثوليك. وبدأ غير المسلم يقترب من وضع قانوني يماثل أوضاع الرعايا الأجانب في الدولة العثمانية، كما أن الحماية بالنسبة إلى العديد من المسيحيين المشارقة كانت صادرة من القناصل الأوروبيين لا البطارقة المشارقة أو من سلطاتهم الدينية (ص: 58).

وجراء ما دب من اختلال في ولاءات الطوائف المسيحية في المشرق العربي، إبان الحكم العثماني، تستوقفنا في الكتاب إحدى حالات التوتر البارزة ودور الأمير عبدالقادر الجزائري في حماية المسيحيين في دمشق، وهو حدث تاريخي، على ما يذكر ريكاردي، زعزع الصورة السلبية للمسلم في المخيال الغربي. فالأمير عبدالقادر المنفي في دمشق مع مهجَّرين جزائريين من قِبَل الاستعمار الفرنسي كان مستضعَفا دافع عن مستضعَفين ليسوا من أبناء ملته، أثناء أحداث دمشق سنة 1860 (ص:91-93). ومن جانب آخر، تعرّض ريكاردي إلى حالات لقي فيها مسيحيون نحبهم شهداء على أيدي مسلمين بتهمة الردة أو على أيدي مسيحيين لأنهم انشقوا عن كنيستهم إلى كنيسة غربية كاثوليكية باحثة عن التواجد في المشرق؛ إذ إلى حدود العام 1846 بقيت الكاثوليكية غائبة عن مشهد الملل العثمانية. أو كذلك إلى حالات أخرى في نطاق الصراع بين اليهود والمسيحيين، الذي كان من أبرز فصوله مسألة ما يُعرف بالقتل الشعائري لأطفال مسيحيين. وهي في الحقيقة مسألة بالغة التعقيد تعرّض لها المؤرخ اليهودي أرييل طُوَاف في كتاب صادر بالإيطالية بعنوان "أعياد فصح دامية: يهود أوروبا والقتل الشّعائري" (2008)، ضمن مراجعة جسورة، خَلَص فيها طواف إلى التورّط الفعلي لبعض من أبناء ملّته في ممارسة القتل الشعائري، بغرض إضافة دم الضّحايا للفطير المقدّس.

وتحت عنوان حرب صليبية منقوصة: تحرير القدس سنة 1917، يورد ريكاردي، لمّا دخلت الوحدات الغربية مدينةَ القدس وأخرجت بقايا القوات العثمانية خلال العام 1917، عنونت صحيفة "أفنيري ديطاليا" بتاريخ 11 ديسمبر 1917 بالبنط العريض "تم تحرير بيت المقدس"، بوصفها تضمّ مهد المسيحية، حيث تبقى بيت المقدس في المخيال المسيحي المدينة المقدّسة الضرورية للحجّ للتطهّر من الخطايا، وبمعنى ما فهي موضع للخلاص. وأوردت كذلك صحيفة الفاتيكان، "لوسرفاتوري رومانو"، بتاريخ 16 ديسمبر 1917 بشأن السيطرة الإسلامية على بيت المقدس أن ذلك يشكّل "إهانة لسائر المسيحيين". لكن شاءت المناورات السياسية ألا تبقى الأراضي المقدسة تحت سيطرة الانتداب "المسيحي" بل تحولت إلى الحليف اليهودي. ولم يطل حلم الكنيسة بالسيطرة على بلاد مهد المسيح، مع أنها كانت صارمة في الوقوف ضد مطامع الصهيونية. فقد جاء ردّ البابا بيوس العاشر (1835-1914م) في الخامس والعشرين من يناير 1904 على تيودور هرتزل حاسما، بشأن توطين اليهود في فلسطين بقوله: "إن اليهود لم يعترفوا بربّنا يسوع المسيح ولأجل ذلك ليس بوسعنا الاعتراف بالشعب اليهودي".

ودائما في نطاق محاولات الكنيسة العودة إلى البلاد العربية اعتمادا على القوى الغربية إبان الحقبة الاستعمارية. يورد ريكاردي سنة 1830 بعد الإنزال الفرنسي في الجزائر أُقيمت الاحتفالات في مقر سان لويس الفرنسي في روما بأمر من جريجوريوس السادس عشر تحت شعار "انبعاث كنيسة شمال إفريقيا" (ص: 161). وقد مثّل القديس أوغسطين (ابن مدينة سوق أهراس الجزائرية، "ثاغست" قديما) شخصية محورية في مشروع عودة الكنيسة إلى بلاد المغرب. وقد لعب المبشّر لافيجري وتنظيم الآباء البيض دورا رئيسا في ذلك المشروع الذي رافقته مظالم كبرى أبرزها تحويل جامع كتشاوة عنوة إلى كنيسة بعد محاصرته من طرف الجنرال الفرنسي روفيجو سنة 1932م، وحدوث مجزرة بشعة ذهب ضحيتها المئات من المعتصمين بالجامع. والواقع أنه رغم العداء المستحكم بين الكنيسة والدولة الفرنسية، أملى الحضور في بلاد مسلمة توحيد الصفوف. وعليه، اتفق المبشرون والساسة على أن تنصير شعوب المنطقة يندرج في إطار مصالح السياسة الأوروبية وضمن تطلّعات الكنيسة. وإلى عشية استقلال الجزائر بقيت الكنيسة ترنو إلى دولة متعددة الإثنيات والديانات على غرار جنوب إفريقيا.

وفي آخر الكتاب، وتحت عنوان: "هل هناك أصولية إسلامية واحدة؟" يستعيد ريكاردي الجدل الدائر في الأوساط الغربية بشأن الأصوليات الإسلامية وما تشكله من توتر في المتوسط ومن تهديد للغرب، داعيا إلى ضرورة التمييز بين مختلف دعوات الإسلام السياسي، ومعرفة من يقبل منها حقا بالنموذج الديمقراطي الغربي، خالصا إلى أن رؤى الإخوان المسلمين غير قادرة على الرواج أو التأثير في كافة أرجاء العالم العربي لا سيما في حركات الإسلام السياسي في المغرب العربي.

في مؤلف ريكاردي، ثمة تركيزٌ على الجانب الديني في المتوسط، ولكن المتوسط أوسع من اختزاله في صراع ديني أو في تاريخ ديني. ولعل مقاربة ريكاردي تلك متأتية من التزامه الكهنوتي العلماني؛ فهو مؤسس منظمة سانت إيجيديو الذراع العلمانية القوية للكنيسة في إيطاليا. ومن المآخذ على الكتاب أيضا، تحول بعض فصوله إلى استعادة لتاريخ الأرمن في عهد الدولة العثمانية من وجهة نظر الكنيسة، وتغافله عن الفظائع التي ارتكبها الاستعمار الغربي في المتوسط لا سيما في بلاد المغرب.

----------------

- الكتاب: "البحر الأبيض المتوسط: المسيحية والإسلام بين التعايش والتصادم".

- المؤلف: أندريا ريكاردي.

- الناشر: منشورات جويريني (ميلانو-إيطاليا) باللغة الإيطالية.

- سنة النشر: 2014.

- عدد الصفحات: 209 ص.

أخبار ذات صلة