رضوان السيد
يقول المؤلف أرنت ليبهارت في مقدمة كتابه المعنون "أنماط الديموقراطية" إنه من حيث المبدأ، يمكننا أن ندير الديمقراطية وننظمها بكثير من الوسائل. ومن جهة التطبيق أيضًا، نجد أن كثيرًا من الأنظمة الديمقراطية تصنع وتطور مجموعات متنوعة من المؤسسات الحكومية الرسمية؛ ومنها: المؤسسات التشريعية والقضائية، وكذلك نظم الأحزاب السياسية وجماعات الضغط. على أننا نجد أنماطًا وترتيبات واضحة عندما ندرس تلك المؤسسات من منظور مدى اتباع قواعدها وتطبيقاتها، نظامَ الأغلبية (majoritarian) أو التوافقية (consensus)؛ إذ ينشأ التناقض بين الأغلبية السياسية والتوافقية، من واقع أبسط تعريف حرفي للديمقراطية -حكم الشعب أو حكم ممثلي الشعب في الديمقراطية التمثيلية- ومن الاشتراط الشهير للرئيس أبراهام لينكولن بأنَّ الديمقراطية لا تعني فقط حكم الشعب، ولكن أيضًا الحكم من أجل الشعب؛ أي: الحكم وفق ما يريده الشعب ويرغب فيه.
ويُثير تعريف الديمقراطية بأنها "حكم الشعب من أجل الشعب" سؤالًا جوهريًّا: من الذي سيقوم بالحكم؟ ولمصلحة من ينبغي أن تستجيب الحكومة في حال كانت هناك خلافات بين فئات الشعب، وكانت هناك اتجاهات ومصالح متباينة؟ ويقول الباحث إنَّ واحداً من الأجوبة عن هذه الإشكالية؛ هو: الأغلبية؛ فهذا هو جوهر نموذج الأغلبية الديمقراطي. واللجوء إلى حل الأغلبية بسيط ومباشر وينطوي على قدر كبير من المنطق؛ إذ إنَّ منحها الحكم وفقًا لرغباتها، أقرب نموذج إلى المثالية الديمقراطية "حكم الشعب للشعب ومن أجل الشعب"، بدلاً من أن تحكم أقلية وتكون مسؤولة أمام أقلية!
والجواب الآخر هو أن يحكم أكبر عدد ممكن من الناس. وهذا هو جوهر نموذج التوافقية، ولا يختلف عن نموذج الأغلبية في قبول أن حكم الأغلبية هو أفضل من حكم الأقلية، لكنه يرضى بحكم الأغلبية كحد أدنى فقط: فبدلًا من الرضا بأغلبية ضئيلة تصنع القرار، يسعى إلى زيادة حجم هذه الأغلبية إلى أقصى حد. وتهدف قواعد هذا النموذج ومؤسساته إلى تحقيق مشاركة واسعة في الحكومة واتفاق واسع على السياسات التي ينبغي للحكومة تنفيذها. ويركز نموذج الأغلبية السلطة السياسية في يد الأغلبية، وفي كثير من الأحيان تكون السلطة لتعددية لا لأغلبية، بينما يحاول نموذج التوافقية تحقيق المشاركة في السلطة وتوزيعها، والحد منها، بمجموعةٍ متنوعةٍ من الأساليب.
ثم إنَّ هناك فارقًا آخر، هو أن نموذج الأغلبية يتسم بالحصرية والتنافسية والخصومة، في حين يتميَّز النموذج التوافقي بالشمولية والمساومة والتراضي. ولهذا السبب، يمكننا أن نسمي الديمقراطية التوافقية "الديمقراطية التفاوضية" (كايزر 1997).
ويرى الكاتب أنَّ هناك عشرة فوارق فيما يتعلق بأهم المؤسسات والقواعد الديمقراطية يمكن اشتقاقها من مبادئ الأغلبية والتوافقية. إذ إنَّ خصائص الأغلبية مستقاة من المبدأ نفسه، وبالتالي ترتبط به منطقيًا، ويمكن المرء أن يتوقع تطبيقهما معًا، في الواقع؛ وينطبق الشيء نفسه على خصائص التوافقية. وبالتالي يمكننا القول بوجود ارتباط وثيق بين هذه المتغيرات العشرة جميعًا.
ويشمل البعد الأول خمس خصائص لترتيب السلطة التنفيذية والأنظمة الحزبية والانتخابية وجماعات الضغط. ويشير الكاتب إيجازًا إلى البعد الأول باسم "البعد التنفيذي الحزبي". ولما كانت أغلبية الاختلافات الخمسة في البعد الثاني مرتبطة بالتباين بين الفيدرالية والحكومة الوحدوية، فهو يسمي هذا البعد "البعد الفيدرالي-الوحدوي".
ويغطي كتاب "أنماط الديمقراطية" ستًا وثلاثين دولة -أي أكثر من كتابه السابق المعنون "ديمقراطيات" بخمس عشرة دولة- وليست هذه المجموعة الجديدة المكونة من ست وثلاثين دولة مجرد زيادة عددية، بل هي أكثر تنوعًا بكثير. فقد كانت الدول الأصلية -إحدى وعشرون دولة- جميعها ديمقراطيات صناعية، وكانت كلها -باستثناء واحدة "اليابان"- دولًا غربية. أما الدول الخمس عشرة الجديدة فتشمل أربع دول أوروبية (إسبانيا والبرتغال واليونان ومالطا)، لكن الإحدى عشرة دولة الأخرى -قرابة ثلث العدد الإجمالي- تنتمي إلى العالم النامي في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وإفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ.
ومن بين الدول العشرين صاحبة أطول تاريخ في الديمقراطية الراسخة، التي حلَلها هذا الكتاب، وكل منها يتصف بما لا شك فيه بكونه نظامًا ديمقراطيًّا مستقرًا وثابتًا، هناك ما لا يقل عن أربع دول -هي ألمانيا ولوكسمبورج وهولندا وسويسرا- لم تجتز حتى اختبار التدوير الواحد للسلطة طوال نصف قرن، منذ نهاية الأربعينيات حتى العام 1996، أي أنها شهدت كثيرًا من التغييرات الوزارية، لكنها لم تعرف تسليمًا كاملًا للسلطة، وثماني دول -هي الدول الأربع السابقة نفسها إضافة إلى بلجيكا وفنلندا وإسرائيل وإيطاليا- لم تجتز اختبار التدويرين للسلطة.
نموذج وستمنستر للديمقراطية
يستخدم الباحث في الكتاب مصطلح «نموذج وستمنستر» بالتبادل مع نموذج الأغلبية للإشارة إلى أحد النماذج العامة للديمقراطية. وقد يستخدم هذا المصطلح بشكل أكثر تحديدًا للإشارة إلى الخصائص الرئيسة للمؤسسات البرلمانية والحكومية البريطانية، حيث يجتمع برلمان المملكة المتحدة في قصر وستمنستر في لندن. وتُعدُّ النسخة البريطانية من نموذج وستمنستر المثال الأصلي والأشهر له، فضلًا عن أنه يحظى بأكبر قدر من الإعجاب. ويشير ريتشارد روز إلى أن "الأمريكيين افترضوا، في ثقة نبعت من عزلتهم القارية، أن مؤسساتهم، أي الرئاسة والكونجرس والمحكمة العليا، هي النموذج وهي الأصل الذي يجدر اتباعه في كل مكان". إلا أن المتخصصين الأمريكيين في العلوم السياسية، خصوصًا العاملين في مجال السياسة المقارنة، كانوا ينظرون إلى نموذج الحكم البريطاني بالدرجة نفسها من التقدير على الأقل.
ونجد نموذج وستمنستر أو نموذج الأغلبية البرلمانية في خصائص ثلاث ديمقراطيات، ويمكن عدُها نماذج أصيلة لنظام الأغلبية، وهي: المملكة المتحدة ونيوزيلندا وبربادوس. وبالطبع فإن بريطانيا، التي ظهر فيها نموذج وستمنستر، تُعَد بلا شك، المثال الأول والأكثر وضوحًا للاستخدام. ويُنظر إلى نيوزيلندا، في كثير من جوانبها، كأفضل تمثيل لهذا النموذج، على الأقل حتى تحولها الحاد عن نموذج الأغلبية في أكتوبر 1996.
نموذج وستمنستر في المملكة المتحدة
1- تركيز السلطة التنفيذية في مجالس وزراء ذات حزب أوحد وذات أغلبية ضئيلة: يُعدُ مجلس الوزراء أكثر أجهزة الحكومة البريطانية قوة، وهو يتألف عادة من أعضاء الحزب الذي يملك أغلبية المقاعد في مجلس العموم، ولا يضم الأقلية. أما مجالس الوزراء الائتلافية فنادرة الحدوث. ففي النظام البريطاني الذي يعتمد على وجود حزبين، يتمتعان بالدرجة نفسها تقريبًا من الشعبية والنفوذ، وعادة ما نجد أن الحزب الفائز في الانتخابات لا يكسبها إلا بأغلبية ضئيلة، وتكون الأقلية كبيرة نسبيًا. ومن ثم يُعَدُ نظام مجلس الوزراء البريطاني الأحادي الحزب ذي الأغلبية الضئيلة، التجسيد المثالي لمبدأ حكم الأغلبية، إذ يتمتع بقدر واسع من النفوذ السياسي يمكنه من أن يحكم كممثل لأغلبية غير ساحقة ولمصلحتها. أما الأقلية الكبيرة فتُقصى من دائرة النفوذ ويحكم عليها بالجلوس في صف المعارضة.
2- هيمنة مجلس الوزراء: تضم المملكة المتحدة نظام حكم برلمانيًا، أي أن مجلس الوزراء يعتمد على ثقة البرلمان. ونظريًا، وبسبب قدرة مجلس العموم على التصويت ضد أي مجلس وزراء وإطاحته من الحكم، فإنه "يسيطر" على مجلس الوزراء. إلا أن العلاقة معكوسة في واقع الأمر. فلأن مجلس الوزراء يتألف من قادة حزب أغلبية متماسك في مجلس العموم، عادة ما يكون مدعومًا من الأغلبية التي تكونه، ويستطيع، في ثقة، الاعتماد على الاستمرار في الحكم وضمان الموافقة على اقتراحاته التشريعية. ومجلس الوزراء يتمتع بهيمنة واضحة مقارنة بالبرلمان.
3- النظام الثنائي الأحزاب: يهيمن على السياسة البريطانية اثنان من الأحزاب الكبيرة: حزب المحافظين وحزب العمال. وتتنافس أحزاب أخرى على الانتخابات وتفوز بمقاعد في مجلس العموم - خصوصًا حزب الأحرار الذي بات يُسمى بعد اندماجه مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي، نهاية ثمانينيات القرن العشرين، حزب الديمقراطيين الأحرار (يقع في الوسط السياسي، بين العمال إلى اليسار، والمحافظين إلى اليمين)، بيد أنَّ هذه الأحزاب لا تتمتع بالاتساع الكافي الذي يخولها تحقيق انتصارات كبيرة. فالأحزاب الصغيرة، مثل الحزب الوطني الإسكتلندي، والقوميين الويلزيين وأحزاب أخرى في إيرلندا الشمالية، لا تتمكن مطلقًا من الفوز بأكثر من بعض الأصوات والمقاعد.
4- نظام الأغلبية وعدم التناسب في الانتخابات: يُعد مجلس العموم من الهيئات التشريعية الكبيرة التي راوح عدد أعضائها بين 625 عام 1950 و659 منذ العام 1945. ويتم انتخاب الأعضاء في الدوائر الفردية وفقًا لطريقة التعددية، التي يُشار إليها في بريطانيا عادة باسم نظام "الأول الذي ينجح على القائمة"؛ فيفوز المرشح الذي يحصد أغلبية الأصوات، وإذا لم تكن هناك أغلبية، يفوز المرشح الذي يحصد أكبر عدد من الأصوات. ويترتب على هذا النظام نتائج عديمة التناسب: إذ تقدم انتخابات العام 2005 أكثر الأمثلة وضوحًا على هذا. فقد فاز حزب العمال بأغلبية برلمانية مطلقة قدرها 355 مقعدًا من أصل 646 مقعدًا، بنسبة 35.2 في المئة فقط من الأصوات.
5- تعددية جماعات الضغط: من خلال تركيز النفوذ السياسي في يد الأغلبية، يرسي نموذج وستمنستر للديمقراطية نمطًا يقوم على وجود حكومة ومعارضة، ويتسم بالتنافس والندية، في حين يتسم نظام جماعات الضغط المألوف في نموذج الأغلبية بالمنافسة والصراع. وهو نظام التعددية المتاحة للجميع، ما يتعارض مع النظام المؤسسي corporatism لجماعات الضغط الذي تعقد فيه اجتماعات دورية بين ممثلي الحكومة واتحادات العمال ومنظمات أصحاب العمل للتوصل إلى اتفاق على القضايا الاجتماعية الاقتصادية؛ ويطلق على هذه العملية من التنسيق اسم عملية التوافق (concertation)، وعلى الاتفاقات التي يتم التوصل إليها اسم المواثيق الثلاثية. وتُنسَق عملية التوافق إذا كان هناك عدد صغير نسبيًا من جماعات الضغط الكبيرة والقوية في كل من القطاعات الرئيسة -وهي العمالة وأصحاب العمل والمزارعون- وإذا كان هناك تنظيم علوي قوي في كل من القطاعات التي تتولى تنسيق الاتجاهات والإستراتيجيات المرغوب فيها لكل قطاع. أما التعددية، في المقابل، فتعني تعددية جماعات الضغط التي تمارس ضغوطًا على الحكومة على نحو تنافسي وغير منسق.
النموذج التوافقي للديمقراطية
ويرى التأويل القائم على الأغلبية للتعريف الأساسي للديمقراطية أنها تعني "حكم الأغلبية من الشعب". وحسب هذا التأويل، فإنَّ على الأغلبية أن تحكم وعلى الأقلية أن تعارض. ويتعارض مع هذه الرؤية النموذج التوافقي للديمقراطية. فكما أشار عالم الاقتصاد، الحائز جائزة نوبل، السير أرثر لويس، إن حكم الأغلبية والنمط السياسي الذي يحمله بين طياته والقائم على وجود حكومة في مواجهة معارضة يمكن النظر إليه باعتباره خلوًّا من الديمقراطية؛ نظرًا لأنه مبدأ يقوم على الإقصاء. ويقول لويس إن المعنى الرئيسي للديمقراطية هو أنه "ينبغي على جميع المتأثرين بقرار معين أن تتوفر لهم فرصة المشاركة في اتخاذ هذا القرار، إما بشكل مباشر وإما من خلال ممثلين مُنتخبين". أما معناه الثانوي، فهو "وجوب أن تسود إرادة الأغلبية". فإذا كان هذا يعني أن تقوم الأحزاب الفائزة باتخاذ كل القرارات الحكومية وأن على الخاسرين أن ينتقدوا فقط وليس لهم أن يحكموا -والكلام لا يزال لـ"لويس"- فإن المعنيين غير متوافقين: "فاستبعاد الجماعات الخاسرة من المشاركة في صنع القرار أمر ينطوي على انتهاك واضح للمعنى الرئيسي للديمقراطية".
والأمثلة التي يستيعن بها الكاتب لتوضيح النموذج التوافقي هي نماذج سويسرا وبلجيكا والاتحاد الأوروبي، وجميعها كيانات متعددة الأعراق. وتُعد سويسرا أفضل مثال: فهي باستثناء واحد فقط تقترب بشكل مثالي من النموذج الصرف. كما نجد في بلجيكا كذلك نموذجًا جيدًا، خاصة بعد أن أصبحت رسميًا دولة فيدرالية في عام 1993؛ ولذا أولى الكاتب نمط السياسة البلجيكية اهتمامًا خاصًا في الفترة الأخيرة.
النموذج التوافقي في سويسرا وبلجيكا
ويُمكن وصف النموذج التوافقي للديمقراطية في ضوء عشرة عناصر تتناقض تناقضًا صارخًا مع الخصائص العشر لنموذج وستمنستر. فبدلًا من تركيز السلطة في أيدي الأغلبية، يحاول النموذج التوافقي أن يتقاسم السلطة وينشرها ويوزعها بطرائق عدة.
أ- تقاسم السلطة في مجالس ائتلافية موسعة: على النقيض من ميل نموذج وستمنستر إلى تركيز السلطة التنفيذية في مجالس وزراء تتألف من حزب واحد وأغلبية ضئيلة؛ فالمبدأ التوافقي هو إفساح المجال لكل الأحزاب المهمة، أو لمعظمها، بتقاسم السلطة التنفيذية في تحالفات ائتلافية واسعة. ويقدم المجلس الفيدرالي، وهو السلطة التنفيذية الوطنية السويسرية، المؤلف من سبعة أعضاء، مثالًا ممتازًا على هذا التحالف الموسع: فحتى عام 2003، استحوذ كل من الأحزاب الثلاثة الكبيرة، وهي الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الديمقراطي الاشتراكي والحزب الديمقراطي الراديكالي، على ربع عدد المقاعد في المجلس الأدنى للهيئة التشريعية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتقاسمت هذه الأحزاب مع حزب الشعب السويسري -الذي نال ثمن عدد المقاعد- المناصب التنفيذية السبعة، بالتناسب، يطلق عليه المعادلة السحرية 1:2:2:2، التي تم إرساؤها في العام 1959. وبعد انتخابات 2003، أصبح الحزب الديمقراطي الاشتراكي هو حزب الغالبية، حيث حصل على مقعد إضافي على حساب الحزب المسيحي الديمقراطي. وبرغم ذلك، لم يعمر التحالف الموسع طويلًا، ففي عام 2007، انتهى التحالف عندما لم يتم ترشيح كريستوفر بلوتشر -الذي كان عضوًا في المجلس الاتحادي منذ عام 2003- وانتُخب مكانه أحد مرشحي الحزب الآخرين.
ب- النظام المتعدد الأحزاب: تضم كل من سويسرا وبلجيكا أنظمة حكم متعددة الأحزاب دون أن يظفر أي منها بوضعية حزب الأغلبية. وفي انتخابات عام 2007 للمجلس الوطني السويسري، فاز اثنا عشر حزبًا بمقاعد برلمانية، بيد أن أغلب هذه المقاعد -وهي مئة وسبعة وستون مقعدًا من أصل مئتين- حازتها الأحزاب الأربعة الكبرى الممثلة في المجلس الفيدرالي. ومن ثم فقد جاز لنا أن نقول إن نظام الحكم في سويسرا يضم أربعة أحزاب.
ج- التمثيل المتناسب: يتمثل التفسير الثاني لنشوء النظم السياسية المتعددة الأحزاب في سويسرا وبلجيكا في أن نظمها الانتخابية المتناسبة لم تمنع ترجمة الانقسامات المجتمعية إلى انقسامات في النظام الحزبي. فعلى خلاف منهج التعددية، والذي يميل إلى التمثيل المفرط للأحزاب الكبيرة والتمثيل المتدني للأحزاب الصغيرة، يتمثل الهدف الأساسي للتمثيل المتناسب في تقسيم المقاعد البرلمانية بين الأحزاب بشكل يتناسب مع الأصوات التي تتلقاها. وكلا المجلسين الأدنيين لكلتا الهيئتين التشريعيتين يُنتخب بنظام التمثيل المتناسب.
د- مؤسساتية جماعات الضغط: ثمة اختلاف بين خبراء المؤسساتية حول درجة المؤسساتية corporatism في سويسرا وبلجيكا، لسبب رئيسي في ذلك هو أن الاتحادات العمالية في هذين البلدين أقل تنظيمًا وتأثيرًا من المؤسسات الاقتصادية. ويمكن حل هذا الاختلاف بالتمييز بين نوعين من المؤسساتية: المؤسساتية الاجتماعية التي تهيمن فيها الاتحادات العمالية، والمؤسساتية الليبرالية التي تشكل فيها جمعيات أصحاب الأعمال القوة الأكبر. ويستخدم بيتر ج. كاتزنشتاين سويسرا وبلجيكا مثالين على تلك الأخيرة، ويخلص إلى أن سويسرا "هي المثال الأوضح لخصائص المؤسساتية الليبرالية". فكلا البلدين يوضح العناصر العامة الثلاثة للمؤسساتية: التوافق الثلاثي وجماعات الضغط الكبيرة نسبيًا والقليلة نسبيًا والاتحادات البارزة.
هـ- الحكومة الفيدرالية واللامركزية: تعتبر سويسرا دولة فيدرالية، وتنقسم فيها السلطة بين الحكومة المركزية وحكومات عشرين كانتونًا وما يطلق عليه تسمية ستة كانتونات نصفية نشأت عن انشقاقات في ثلاثة كانتونات موحدة في السابق. وللكانتونات النصفية ممثل واحد فقط بدلًا من اثنين من الممثلين في الهيئة الفيدرالية السويسرية، وهو مجلس الولايات. وهي تحمل فقط نصف ثقل الكانتونات التقليدية في التصويت على التعديلات الدستورية؛ وفي معظم الجوانب الأخرى، نجد أن وضعيتها تساوي وضعية الكانتونات الكاملة. كما تعد سويسرا أيضًا من أكثر البلدان لامركزيةً في العالم.
و- ثنائية المجالس القوية: يتمثل المبرر الرئيس لإرساء هيئة تشريعية ثنائية التمثيل بدلًا من هيئة أحادية التمثيل في ما يمنحه من تمثيل خاص للأقليات، والتي تشمل الولايات الصغرى في النظم الفيدرالية، وذلك في هيئة ثانية أو مجلس أعلى. ويتعيَّن تحقق شرطين إذا أُريد لتمثيل هذه الأقلية أن يكون ذا معنى: الشرط الأول هو ضرورة أن يُنتخب المجلس الأعلى على أساس يختلف عن طريقة انتخاب المجلس الأدنى. والشرط الثاني هو ضرورة أن يكون له قوة حقيقية تقترب في الظروف المُثلى من قوة المجلس الأدنى نفسها. ولقد تحقق هذان الشرطان في النظام السويسري؛ حيث يعتبر المجلس الوطني هو المجلس الأدنى ويمثل الشعب السويسري، ومجلس الولايات هو المجلس الأعلى أو الفيدرالي الذي يمثل الكانتونات، حيث لكل كانتون ممثلَان ولكل نصف كانتون ممثل واحد. ومن ثم فإن الكانتونات الصغيرة تحظى بتمثيل أكثر قوة في مجلس الولايات من المجلس الوطني. وعلاوة على ذلك، فإن نظام المجلسين السويسري متناظر: "المساواة المطلقة بين المجلسين في كل أمور التشريع" قاعدة مقدسة للغاية في سويسرا.
ز- الجمود الدستوري: في كل من بلجيكا وسويسرا دستور مكتوب في هيئة وثيقة أحادية تضم القواعد الأساسية للحكم، يمكن تغييرها فقط من خلال أغلبيات خاصة. ويستلزم إدخال أي تعديل على الدستور السويسري موافقة في استفتاء شعبي، ليس فقط من أغلبية الناخبين في البلاد، بل وكذلك من الأغلبية في أكثر الكانتونات. وتُمنح الكانتونات النصفية نصف الثقل عند الحساب على أساس كل كانتون على حدة؛ وهو ما يعني أنه بالإمكان -مثلًا- تبني أي تعديل دستوري إذا وافق عليه ثلاثة عشر كانتونًا ونصف الكانتون ورفضه اثنا عشر كانتونًا. إن الشرط الخاص بموافقة أغلبية الكانتونات يعني أن بوسع سكان الكانتونات الأصغر وأنصاف الكانتونات، والتي تمثل أقل من 20 في المئة من إجمالي التعداد السكاني السويسري، نقض أي تغييرات دستورية.
ح- المراجعة القضائية: تنحرف سويسرا في أحد الجوانب عن النموذج التوافقي البحت: فمحكمتها الدستورية، وهي المحكمة الفيدرالية، وقد وضع البرلمان في الاعتبار إنشاء محكمة دستورية كجزء من عملية الإصلاح القضائي في العام 2000. ولم تكن هناك مراجعة قضائية في بلجيكا، هي الأخرى، حتى العام 1984، عندما افتُتحت محكمة التحكيم الجديدة. وكانت المسؤولية الرئيسة للمحكمة تتمثل في تفسير الأحكام الدستورية المتعلقة بفصل السلطات بين الحكومات المركزية والمجتمعية والإقليمية. وقد توسعت سلطتها بشكل كبير من خلال التنقيح الدستوري لعام 1988، ويمكن النظر إلى محكمة التحكيم الآن كمحكمة دستورية أصيلة.
ط- استقلالية البنك المركزي: كان يُنظر إلى البنك المركزي السويسري لمدة طويلة باعتباره من أقوى البنوك المركزية وأكثرها استقلالية، جنبًا إلى جنب مع البنك المركزي الألماني وبنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة. وعلى النقيض، اعتُبر البنك الوطني البلجيكي لمدة طويلة من أكثر البنوك المركزية ضعفًا. ومع ذلك، فقد تعززت استقلاليته في مطلع التسعينيات، خلال المدة نفسها التي شهدت التحول إلى النظام الفيدرالي، ولكن بصفة خاصة كنتيجة لمعاهدة ماستريخت، الموقعة في العام 1992 والمصدق عليها في العام 1993، والتي ألزمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تعزيز استقلالية بنوكها المركزية.
---------------------
- عنوان الكتاب: "أنماط الديمقراطية".
- المؤلف: أرنت ليبهارت.
- المترجم: محمد عثمان خليفة عيد.
- الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2015.
