مريم العدويَّة
ليس من المجدي وضع توصيف لماهية العقل؛ لأنَّ ذلك من شأنه جر الكثير من التساؤلات العقيمة.. طَرَح الكاتبُ اللبناني عمر كوش عدة تساؤلات حول العقل في مقال له بعنوان "مفهوم العقل: النشأة، الميتافيزيقا، الواقع"، محاولاً إيجاد أجوبة للعديد من الأسئلة فيما يخص مفهوم العقل. وبالعودة إلى مفهوم العقل تاريخيا، يرى كوش أنَّه يمكن الاستنتاج بأنَّ العقل مر بمراحل متعددة؛ وجرت عليه الكثير من التغيرات، إلا أنَّ الميتافيزيقا شهدتْ ولادة مفهوم العقل، ومع تطور الفلسفة تطورت مدلولاته.
وبذلك تحوَّل العقل من حالة مبهمة في التفكير إلى "لوغوس" خطابي وجوهر كلي، ثم إلى لاهوت مقدس ومفهوم غائي ثم إلى أداة تواصل...إلخ من إسقاطات الفكر الميتافيزيقي الشمولي.
العقل
عرفت الجماعات الإنسانية اختلافا في طرق معيشتها، والذي أفرز طرقاً مختلفة في التفكير أفضت بدورها إلى نشوء المدن، ومع نشوء المدنية تطوَّرت أسئلة الإنسان لتنزح نحو الميتافيزيقا، وفي ظل التساؤلات حول الكون نشأت الأسطورة والدين والسياسة.. وهنا برز العقل.
الخطاب
ومع نشوء المدينة، برزتْ الحاجة إلى التنظيم السياسي، ومن هنا جاء دور العقل لينظم المفاهيم المختلفة. ولقد بَرَز هنا دور العقل كمرحلة الخطاب الكامن في اللغة؛ أي عقلاً بلاغياً، مجسداً بذلك الانتقال من الشفهي إلى المكتوب؛ وبالتالي ظهرت الشرائع والتي بقي أثر بعضها إلى اليوم؛ مثل: الفلسفة الصينية، وقوانين حمورابي.
المعرفة التاريخية للمفهوم
وحول هذا الأمر، يرى البعض -أمثال هيجل- أنَّ مفهوم العقل مرتبط تاريخيا فقط بالفلسفة؛ حيثُ حصروه في دائرة حضارية معينة تمتد من الإغريق إلى أوروبا، جاعلين من التاريخ نوعاً من القدرية، بعيداً عن الجغرافيا والظروف البيئية والتاريخية الأخرى.
العقل الكلي
وفي مدن إقليم اليونان القديمة، ظهر نوع من أشكال التفكير السياسي والأخلاقي؛ حيث حاول بعض الحكماء تشريع النظام البشري، فاصلين النظام الكوني الطبيعي عن السياسة؛ وبالتالي نشأت الكثير من الجدالات التي أسهم فيها الحكماء بالبراهين التي تطلبت أنماطا من التفكير عرفت لاحقا "باللوغوس" الذي ارتبط بالمناظرات. ومن بعده ظهر مفهوم "النوس" الذي هو -حسب هيجل- يحيل على الفهم والعقل.
العقل من منظور الفلسفة العربية الإسلامية
1- المفهوم والدلالات:
عند البحث عن مفهوم العقل في الفلسفة العربية والإسلامية، نجد أنَّ مفهومه لا يختلف كثيراً عمَّا هو موجود في اللغات الأخرى؛ وذلك نتيجة لتفاعل الفلسفة العربية الإسلامية مع فلسفات اللغات الأخرى كاليونانية؛ حيثُ إنَّ دلالة "العقل" لم تعد لفظا لغويا فحسب.
ولا ريب أنَّ المتتبع لدلالة العقل تاريخيًّا سوف يتوقف عند المعارك التي خاضها العقل؛ وأولها تلك التي كانت ضد النزعات الإيمانية كالدين والسياسة؛ حيثُ رأى أنصار العقل أنه يجب تقديم العقلي قبل النقلي؛ وبالتالي فإنَّ العقل له الكلمة الأولى. ومن جانب آخر، أسهم هذا الأمر في ظهور علم الطبيعيات ودقائقها...وغيرها. ومن هنا، ظهر المعتزلة الذين جعلوا من العقل منطلقاً رابعاً نحو الحق مع الكتاب والسنة والإجماع. ومن بعدهم الأشاعرة الذين آمنوا بالعقلانية، وأن العقل يعتبر أساساً نحو المعرفة، وجاء من بعدهم من طوَّروا دلالات العقل كالغزالي.
2- دائرة التقاطع بين العقل النظري.. العقل العلمي:
تُجمع جميع الحالات السابقة التي مرَّ بها العقل على أنَّ التصورات الميتافيزيقية هي السائدة؛ حيثُ ترى بأن العقل غير محسوس مثلاً. أما من ناحية الفلسفة العربية الإسلامية، فلقد تأثرت بالفلسفات الإغريقية.
العقل في الفلسفة الحديثة
أ- الحداثة:
ساهمتْ الحداثة بتحولات كبرى في شتى مجالات الحياة، وافتتح ديكارت القول الفلسفي للحداثة بوصف الذات كمركز ومرجع، بينما جسَّد هيجل ذلك في مبدأ الذاتية؛ فأصبح العقل مُطلقا كليًّا، ومنها جاءت العقلانية الحديثة كمذهب قامت فيه بتفسير كل ما هو طبيعي وتاريخي؛ وبالتالي لم تُعنِ الحداثة غير تغليب إرادة الهيمنة عبر إرادة التحرُّر.
ب- ديكارت.. قطبية العقل ومطابقته:
سَعَى ديكارت في ذلك إلى تقديم فلسفة تتفق مع أصول الدين المقدسة.
ج- كانط.. نقد العقل الخالص:
يتمحور مشروع كانط النقدي بدعوة العقل إلى معرفة نفسه؛ فلقد اعتبر أنَّ الغايات العظمى للعقل البشري تشكل منظومة الثقافة. كما كان لكانط عدة مؤلفات في هذا الشأن.
د- هيجل.. الفهم الغائي للعقل:
بمرحلة هيجل، تكتمل الفلسفة الحديثة بأقوالها، وكذلك الميتافيزيقا بمجمل ما بها من إرهاصات.
هـ- الهيجلية.. الميتافيزيقا.. اللاهوت:
جاءت عبارة القديس أوغستين: "آمن كي تتعقل"، من منطلق ربط العقل بالكتاب المقدس في المسيحية.
نقد التمركز العقلي
- العقل الحسابي/الأداتي:
بعد أن أرست الهيجلية، سيطر العقل على العالم، تحول هذا العقل الكلي إلى أداة للسيطرة على الطبيعة والتاريخ والإنسان.
- نقد التمركز على العقل:
أُكمل نقد العقل الذي فتح أبوابه كانط مع نيتشه، واتخذ طابع نقد محايد للعقل المتمركز على الذات؛ لذلك استعان نيتشه بالعقل التاريخي. ثم اتجه النقد الموجه للعقل لدى فلاسفة فرانكفورت؛ أمثال: أدورنو إلى نقد العقل الأداتي. فيما اتجه النقد الموجه للعقل لدى فلاسفة الاختلاف؛ أمثال: ميشيل فوكو إلى نقد التمركز على الذات.
- هابرماز.. كوجيتو التواصل:
يتمركز الجهد النقدي لدى هابرماز في تفكيك مفهوم العقل الأداتي، وكما يبدو فإن هابرماز لم يجد المخرج من ذلك إلا في وضع كوجيتو جديد للتواصل.
- ديريدا.. تفكيك التمركز:
ومن ناحية أخرى، فقد ارتكز ديريدا في مسعاه النقدي في نقد العقل على تفكيك النظم والآليات الميتافيزيقية التي شيَّدتها الفلسفة على امتداد تاريخ العقل المتمركز على الذات.
الأقلمة.. والأرضنة
إنَّ النقدَ الذي خضع لمفهوم العقل وشتى تمظهراته، يُمكن أن يجمل في اتجاهين رئيسيين؛ الأول: يرمي إلى تخليص المفهوم مما لحقه من تبعات الميتافيزيقا، والثاني: هدفه الحفاظ على مكتسبات العقل وإبقاؤه الموجه للحداثة بوصفها مشروعاً لم يكتمل.
نقد العقل في الفكر العربي الحديث
ظهرتْ، مؤخراً، على الساحة الفكرية العربية تصوُّرات عديدة تناولت نقد العقل في الفكر العربي الحديث، واتخذ هذا النقد اتجاهات متنوعة: فكرية، وثقافية، ودينية، ولكن الملاحظ هو غياب مفهوم واضح للعقل في النقد الموجه، خصوصا لدى البعض؛ أمثال: محمد عابد الجابري.
* الجابري.. تشطير العقل:
فلقد شنَّ محمد عابد الجابري نقده في كتابه "نقد العقل العربي" من خلال مقولات سلَّم بها دون أدنى دراسة نقدية.
* غليون.. تبعية العقل:
شدَّد برهان غليون في كتابه "اغتيال العقل" على توجيه نقد ثقافي عام للعقل من حيث اتصاله وتبعيته للغرب.
* طه عبدالرحمن.. وصل العقل بالدين:
أمَّا طه عبدالرحمن، فقد حاول في كتابه "العمل الديني وتجديد العقل" إعادة الاعتبار إلى العقل في الفكر الديني.
* طرابيشي.. نقد النقد:
مارس جورج طرابيشي، في معرض ملاحقته "لسقطات" صاحب مشروع نقد العقل العربي، نوعاً من تضخيم تمظهرات العقل العربي.
* صفدي.. إلحاق العقل:
يقدِّم مطاع صفدي في كتابه "نقد العقل الغربي" مديحاً وصفياً للعقل الغربي.
... لطالما خضع العقل للكثير من الدراسات في محاولات لفهمه أو أقلمته، ولقد مرَّ مفهوم العقل بالكثير من التحولات من ناحية أخرى نتيجة الأحداث التاريخية. وفي النهاية يبقى العقل هو العقل في كل زمان ومكان، بعيداً عن أوهام وتقسيمات الميتافيزيقا.
