سلام الإنسانيَّة

هند الحضرمية

في ظلِّ الظروف الصعبة التي يشهدها العالم اليوم بشكل عام، والوطن العربي بشكل خاص، وتصاعد أشكال العنف وغياب العدل وازياد الخوف من خطر التنظيمات الإرهابية، يقدِّم لنا الكاتب علي أسعد وطفة مقالا في غاية الأهمية بعنوان "التجليات الإنسانية في مفهوم المواطنة".

لقد شهدتْ البشرية على مرِّ التاريخ صراعًا دائمًا بين قوى الخير والشر، وإذا كان دحر الشر في الماضي مقرونا بقوة السلاح ومقابلة العنف بعنف مضاد، فإنَّ واقع اليوم يتطلب تغيير أسلوب مواجهة ألوان العنف؛ فالإرهاب بات يهدِّد أمن جميع الأنظمة: الديمقراطية والاستبدادية على حدٍّ سواء، وقد طرح وطفة حلا لمواجهة التطرف والعنف يتمثل في خلق ثقافة إنسانية جديدة قائمة على أسس التسامح والسلام؛ فالجهل هو الحاضن الأول لقيم العنف والتطرف، وتشهد الكثير من الوقائع التاريخية الدامية كيف تم التغرير بأشخاص خرجوا من بيئات تسود فيها "ثقافة سوداء" تسقط منها مفاهيم الإنسانية والمحبة.

ولأنَّ الإرهاب يستند إلى أفكار متطرفة، فإنَّ مواجهته تكمُن في إعادة خلق أفكار تعزز قيم السلام والتسامح؛ نظرا لأنَّ الأفكار التي يتبناها المرء هي التي تحدِّد تصرفاته وسلوكياته، فإذا ما خلقنا في الأجيال ثقافة تحتضن معاني الخير، فإننا نكون قد تقدمنا خطوة نحو القضاء على الإرهاب.

وأشار وطفة إلى مسألة مهمة في سبيل خلق وعي إنساني جديد؛ تتمثَّل في ضرورة تفكيك العقليات التقليدية، كخطوة مهمة لتغيير التكوينات الذهنية السائدة، وإحداث تحويل في العقائد الفكرية القائمة، وبناء فلسفات تسامحيه جديدة، وبذلك سنتمكن من تشكيل مفهوم جديد للمواطنة، مفهوم قائم على قيم حرة وأسس ديمقراطية، وهنا يأتي دور التربية والتنشئة الاجتماعية، في تعزيز مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان ورفض العنف.

غير أنَّ عملية إعادة خلق مفهوم المواطنة لا تقف عند دور التربية، وإنما لابد من مواجهة التحديات المتمثلة في الانتماءات التقليدية لأفراد المجتمع (كالانتماء للقبيلة أو العشيرة أو المذهب)؛ فانتماء الفرد للوطن يجب أن يكون أكبر من أي انتماء آخر، لكي لا يكون تعصبَ الفرد لانتماءاته التقليدية سببا في زعزعة أمن الوطن.

وإذا استعرضنا التجليات التاريخية لمفهوم المواطنة، سنرى أنه يرمز إلى الانتماء السياسي والحقوقي إلى الوطن (أرضا ومؤسسات دستورية وقانونية)، وهو تجسيد للعلاقة بين المواطن والوطن، والمواطن والدولة.

وقد كانت المواطنة لدى الإغريق تعبِّر عن العلاقة الحرة بين المواطن والدولة، وهي علاقة قائمة على المساواة، ولكن هذه المواطنة كانت تشمل طبقة الأسياد فقط دون العبيد، أي أن المواطنة لدى الإغريق كانت مواطنة طبقية.

واتخذ مفهوم المواطنة طابعا فلسفيا في القرن السابع عشر عندما عرف هوبز المواطن بأنه "عضو في جماعة سياسية، أبرمت عقدا اجتماعيا تتعهد بموجبه ضمان أمن الأفراد في دائرة مجتمع يخضع لسلطة مطلقة".

واتخذت المواطنة طابعا حديثا على يد المفكر الفرنسي جان جاك روسو، الذي أعلن أنَّ المواطنة ليست امتيازا تحظى به فئة معينة في المجتمع دون الآخرين، وإنما هي حق لكل أفراد المجتمع، ليتمكنوا من المشاركة في شؤون المجتمع. وفي منتصف القرن التاسع عشر تحدَّدت المواطنة بأنها العلاقة بين المواطن والدولة، مع ضرورة وجود وعي لدى المواطن بانتمائه الاجتماعي والسياسي، وهذا يدعم المفهوم الواسع للمواطنة والذي ظهر في القرن العشرين وهو "قدرة الفرد على المشاركة المسؤولة"، والمسؤولية تتطلب الوعي في المقام الأول، فما يحدث في الوطن يجب أن يهم كل فرد فيه، كما يجب أن يدرك كل مواطن أنه مسؤول عن مواجهة المشاكل التي تهدد وطنه.

ويرى وطفة أن المواطنة الحديثة تتجاوز الشعار الذي ينادي بأن حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين؛ فحرية الفرد يجب أن تبدأ مع حرية الآخرين، فلكي أمتلك أنا الحرية يجب أن يمتلكها الآخر أيضا، ويجب عليَّ أن أساند الآخر لكي يحصل على حريته؛ فالحرية والعدالة بمفهومهما الواسع يجب أنْ لا يقتصرا على فئة دون أخرى. وبهذا؛ فإنَّ المواطنة تعلم الفرد الحرية واحترام حقوق الآخرين. ولكي تتحقق لابد أن يعطى المواطن الحرية في التعبير عن أفكاره، والحرية في المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية.

ويُمكن أن تتَّضح هذه الحرية من خلال وجود مؤسسات المجتمع المدني، التي يديرها الأفراد بدون تدخل الدولة، وتطور المجتمع المدني في أي دولة يعكس تطور الديمقراطية فيه، وبتطورها تتحدد المواطنة الحديثة؛ فهي نتاج لعملية تنمية اجتماعية مستمرة للحياة المدنية. وهنا نتبين وجود علاقة بين الديمقراطية والمواطنة، فإذا كان التعريف الكلاسيكي للديمقراطية يعني "حكم الشعب لنفسه بنفسه"؛ فهذا يعني أن للشعب ثقلا كبييرا في صنع السياسات القائمة، ويتم محاسبة الحكومات عن طريق ممثلي الشعب، ولأن المواطنة كما أسلفنا تعني الحق الذي يجب أن يحصل عليه كل فرد، ومن بينها الحق في اتخاذ القرارات السياسية، فإن الأنظمة الاستبدادية تضعف فيها المواطنة؛ لغياب قيم الديمقراطية ومبادئها.

ولأننا نعيش اليوم في عصر ما بعد الحداثة، فإن مفهوم المواطنة كغيره من المفاهيم، طرأ عليه بعض التغيير لكي يتلاءم مع أفكار ما بعد الحداثة؛ فالمواطنة التي تسعى إليها العولمة تسمى بـ"مواطنة مكان الإقامة"، وتعني بذلك جملة الحقوق والواجبات التي يتمسك بها الفرد بحكم إقامته وعمله في أي مكان يتواجد فيه عبر العالم؛ لتعبر بذلك عن فصل بين الهوية السياسية والانتماء الوطني.

ورغم الأفكار والقيم التي تدعو لها العولمة، خاصة فيما يتعلق بخلق وطن عالمي، تصبح فيه المجتمعات كلها كجسد واحد، إذا اشتكي منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، إلا أن الدول الغنية لا تزال تصد عن أوجاع بعض المجتمعات، وتدير ظهرها للدول الفقيرة، وإذا ما استمرَّ الوضع البشري على ما هو عليه اليوم، فإنَّ ذلك سيُنذر بخطر كبير، خطر يفوق الحروب والاستبداد والظلم والفقر، إنه يكمن في تدمير إنسانية الإنسان، وماذا سيبقى إذا ما غابت عن البشر قيم الإنسانية؟

وبعد هذا الحديث حول المواطنة وأهمية تجديدها لابد من الوقوف قليلا على أعتاب واقع المواطنة في الوطن العربي، وإذا كنا أشرنا إلى أن المواطنة في أحد معانيها هي العلاقة بين المواطن والدولة، فإن هذه العلاقة في الكثير من مجتمعاتنا العربية لا تزال ضبابية، وفي أحيان كثيرة مهزوزة وضعيفة؛ وذلك بفعل تبني بعض الأنظمة السياسية لسياسة القمع والاستبداد وبسبب غياب الجوهر الحقيقي لمفهوم الديمقراطية؛ فالمواطن العربي لا يزال إلى اليوم غير قادر على المشاركة الحرة التي هي أحد أسس المواطنة الحديثة، لا يزال تفاعله مع شؤون الحياة العامة ضعيفا، ولا يزال الوطن شيئا غير واضح المعالم بالنسبة له، ولعل كل هذا يفسر ذلك الزحف المخيف للجماعات الإرهابية في دولنا العربية.

إذن؛ لابد أن نعود للإنسان، ليكن هو المنطلق الأول نحو قهر أشكال العنف، من خلال إعادة تحرير وعيه، وتعزيز المواطنة المسؤولة بكل قيمها في داخله، فبناء إنسانية الإنسانية هو سبيل السلام، سلام البشرية.

أخبار ذات صلة