الحريَّة.. كذبتنا الصادقة

أم كلثوم الفارسي

يستنهضُ الكاتب رضوان السيد في مقاله "الوجوه المتعددة للحرية والوجه الواحد للتبعية" ثورة من التساؤلات المثيرة للجدل، تضرب في عُمق معنى الحرية الإنسانية؛ وذلك من خلال إحداث مجموعة من الإسقاطات المنطقية على مذكرات الكاتب الألماني الشهير الحاصل على جائزة نوبل للآداب الكاتب غونتر غراس؛ حيث أثار اعتراف غراس الأول في مذكراته حول خدمته في فرق الأمن الألماني والاستلاب الفكري الذي عاشه في فترة الحكم النازي الذي جعله وجميع الألمان أمام خيار واحد، وهو التبعية للنظام الحاكم.

أثار هذا الاعتراف رغبةً لدى كاتب المقال لمعرفة المعنى الحقيقي للحرية، وهل كان الألمان -ومن بينهم غراس- أحرارًا أمام خيارهم الأوحد؟ وهل يمكن تحقيق الحرية الفردية في مجتمع يسوده المنطق القومي القائل بمعارضة كل وجه مناهض للنظام الذي حقَّق ويحقِّق الآمال والأحلام الوطنية، ولو كانت على حساب أحلام وآمال الآخر؟ فكان هتلر يُمارس التبعية التي يمارسها الألمان معه، ولكن تبعيته كانت في صورة سيد، وهو في حقيقته كان عبدا لكمٍّ هائل من الأخيلة المريضة والأحلام التعويضية عن الكبت الاجتماعي والنفسي والعقلي؛ فكل ما قام به ليس إلا حالة تفريغ نفسي لعدة مخاوف باطنة، وانشطار للذات وأوهام مركَّبة، ساقها كسرب من الخفافيش في شكل تسلطي وعنيف للتعبير عن الهوية الألمانية؛ حيث إنَّ هذه التبعية للنفس المريضة من قبل هتلر جعلت الألمان يمارسون التبعية نفسها له، ويتحملون نتائجها السلبية على مر الأجيال.

فالشعب المتخم بالتبعية لا يُمكنه إنتاج أخلاق حقيقية وفعالة، ولا يتجرَّأ على صياغة سلوك قيمي ينتمي إلى الوعي والبناء الإنساني والاجتماعي الخلاق؛ لأن أخلاقه اضطرارية ومؤقته. وهذا ما كان يلمِّح له غراس من خلال مذكراته؛ حيث إنَّ التبعية المطلقة التي منحها الألمان للقائد النازي لحقها بالطبع استلاب فكري لهم، فوقعوا في مشكلة عدم استغلال المسالك المتعددة للحرية، والوقوع في مصيدة الوجه الواحد للتبعية. ومن هنا، يٌصبح خيار الفرد هو الخضوع الحر والاستسلام؛ إما للمصالح الفردية كاملة أو للمسلَّمات الوطنية عامة، والتي يُجزم الكاتب أنَّها هيهات من المعنى الحقيقي للحرية. ويستمرُّ الكاتب في بحثه عن معنى الحرية الحق إن وجد!! مُنطلقا هذه المرة من تاريخ أوروبا الحديث في جوهر التساؤل القائل: لماذا كثرت الديكتاتوريات والفاشيات في أوروبا العلمانية الحديثة، ونجح جميع المستبدين في الانتخابات؟

ومادامت أوروبا الحديثة تزعم أنها أم للحرية الفردية والجماعية، فكيف أصبحت مرتعا للفاشيات والديكتاتوريات التي عرفها التاريخ؟ أين ذهبت الصيحات البراقة والنداءات الصاخبة لتمكين الحرية ما دامت النتيجة هي التبعية والاستبداد؟ كما هو معروف بأنَّ الدولة مشروع لأناس أحرار رأوا في إقامتها اكتمالا لاجتماعهم المدني. والواصل المنطقي والعملي بين الفردية والنظام هو الأخلاق التي تنظم العلاقة بين طرفي العقد الاجتماعي، والتي تتمثل في الدين عند ديانات التوحيد على وجه الخصوص. أمَّا ما قامت به أوروبا العلمانية من فصل الدين عن الدولة فلم يكن سوى ضرب من الجنون المحض الذي حطَّم القيم الأخلاقية؛ وبالتالي أضعف فكرة الحرية الفردية والجماعية؛ حيث لم تعد مُستندة إلى البناء الأخلاقي والقيمي للمجتمع، أو بالأصح لم تكن مستندة على الإيمان المستقى من "الدين". وهنا سؤال يطرح نفسه: هل يشترط أن أكون مؤمنا لأكون حرًّا؟!

يجيب الكاتب رضوان السيد بأنَّ الإيمان شرط لتحقيق معنى الحرية؛ لأنه يضمن الحرية الأخلاقية التي لا تقع في المسلمات والأوهام والتأليهيات التي لا تنتهي، كما هو شأن العقائد والفلسفات الشمولية في القرن العشرين. إنَّ التدين، وفي فتراته التاريخية المختلفة، أنتج نماذجَ شرعية وقانونية، وشارك في تطوير الإرشادات والتعاليم الأخلاقية وفق قواعد ومبادئ خاصة به، لكنه في المقابل بنى عبودية متوارثة ومتوحشة تعتبر إحدى عوامل تأخرنا وتدمير قوة الذات فينا وحريتها في الإنتاج والتنوع، واندكاكها تحت مفهوم الخضوع لأية قوة قادرة على ممارسة أي نوع من الاستلاب الوجودي للإنسان، والانقياد إلى القوة العمياء التي تحمل أي ملامح للسيادة العليا والتقديس والهوس التاريخي والبطولي للدين، حتى لو كان وهمًا محضًا، وهذا ما نراه واضحًا في الجهاد العشوائي أو الانتحار من أجل الرب، وقربنة الجسد دون أية مراجعة للعواقب الوحشية المترتبة على هذه الأفعال. وبحكم ميلنا الوراثي والتاريخي للدين الذي أفرز هواجس إيمانية شكلية وبنية عقلية عائمة على كنوز من الخيال أصبحت جزءا من الذات والوجود والسلوك العربي والإسلامي؛ نلاحظ عبر تاريخنا الإسلامي أنماطا استبدادية وسلطوية جماعية وفردانية تكوَّنت في أشكال عقائدية وأيديولوجية دينية، واستفراع روحي لأشكال الرقابة الدينية التي تدعو إلى جعل الإنسان تابعا إمعة لا يملك من أمره شيئًا.

إذن.. أين الحرية التي يضمنها الدين كما أقر كاتب المقال؟ وفي الحقيقة أنا لا أختلف مع رضوان السيد في طرحه هذا، ولكن أضع بعض الإشارات كي لا يفهم البعض أنَّ التدين والدين الذي يضمن لنا الحرية قائم على التبعية. بل على العكس تماما؛ فليس بين الله والإنسان مشكلة حرية، بل هناك قضية فهم، واختيار، والتزام تتأسس عليها الحرية الإنسانية البناءة القائمة على القيم الأخلاقية؛ فقال سبحانه: "فذكر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر" (الغاشية: 21-22). كما قال: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256). ففكرة تحقق معنى الحرية العميق عند الإسلاميين تتأسس على مصدر الخلق والأخلاق، وهذا ما عبَّر عنه المتصوفة في قولهم: "إذا توحد همك تحققت حريتك". والهم هنا يقصدون به الإيمان بالله؛ حيث إنَّ الله هو مصدر النظام الأخلاقي؛ فتتحقق الحرية القائمة على تعدد الخيارات وتضافرها في حال إعلان العبودية لله في منظومة الدين. هذه المنظومة التي نحتاج إليها فعلا لضمان تحقق معنى الحرية الحقيقي، وهو المعنى الذي ساد فعلا في فترة من فترات التاريخ الإسلامي، ولكنه تأثر بعد ذلك بالمصالح الفردية والسلطات الحاكمة، وقلصت فكرة الحرية إلى كونها حرية سياسية خالصة يقودها مبدأ أن الشر الأكبر يكمن في الحرية الفردية. والمطلوب منا كعرب ومسلمين تحقيق الوحدة العربية، وبعد أكثر من خمسين عاماً من السير في هذه الموجة، نرى الآن أنه لم تتحقق الوحدة، وأننا خسرنا رِهاننا على الدولة الأمة، وأنَّ الخطأ ربما كان في التسليم بتناقض الحرية مع الوحدة، فوقع العرب أيضا -كما وقع الألمان والأوروبيون- في فخ التبعية ذات الوجه الواحد، وسحرتهم فكرة هوية الأمة الواحدة؛ فالفرد العربي جندت طاقته المادية والمعنوية لجعله تابعا محطمَ الإرادة والقوة والعقل، يمارس وبجدارة الاستلذاذ النكوصي للشخصية التبعية.

فالحرية اختيارٌ أخلاقيٌّ عميق، يفتح على آفاق شعورية لا حدود لها، هي آفاق إنسانية الإنسان، والذي يتوحَّد بنفسه، ويظن بذلك أنَّه صار حُرًّا، إنما يخضع حريته لمنزع واحد يصبح معبودا لديه. والذي تقوده فكرة واحدة يخرج بذلك من آفاق الحرية إلى سجون التبعية والوهم، وهذا ما وقع فيه الأوروبيون والعرب المسلمون أيضا رغم إيمانهم بالحرية الفردية، إلا أنَّ تبعيتهم الفكرية هي التي أنتجت تلك النماذج من الديكتاتوريات التي عرفها التاريخ، والتي مثلت وصمة عار على جبين الإنسانية، وهم أهل الحرية كما يزعمون!

أخبار ذات صلة