الإنسان تحت سلطة الجبر والاختيار

عبدالله العلوي

الأفعالُ الإنسانيَّة ومفهومها في الإسلام وفي مفهوم الإنسانية تجعلنا في حيرة من الأمر؛ فالمسألة فلسفية دينية بحتة، وفي المقابل هي مسألة إلهية مُوغلة في صلاحيات الرب؛ فهناك رب وهناك قدر وهناك إنسان وهناك فعل أو قول أو نية، وكلها على علاقة متصلة ببعضها.. فهل أفعال الإنسان قائمة في ذاتها فهو محاسب عليها لأنها من صنعه، أو هي أفعال أُجبر على فعلها فهو غير مُلام عليها؟ ما القدر؟ وكيف نستطيع أن نقول إن الإنسان مقدَّر له أن يفعل كذا؟ فالقدر من الله، ولكن الفعل من البشر، ثم كيف نحاسب مَن قدِّر له أن يفعل هذا الفعل، وهو من أساسه قد تم رسمه من قبل الرب في اللوح المحفوظ؟!.. يحاول مقال: "حفريات في مفهوم الاختيار والحرية من العصر المدرسي إلى العصر الإصلاحي" للدكتور محمد الحداد، أن يفصل القول في هذه القضية.

لقد افترق علماءُ الإسلام في قضية الجبر والقدر والاختيار والحرية في الأفعال البشرية إلى آراء مختلفة، وكل له أدلته على ما يقول، وقد مررنا على آرائهم وفق المصادر التي استندوا إليها على حد قولهم، ويمكن أن نُجمل آراءهم أو فلنقل إنها مدارس لأنها قامت على أفكار درستها وجعلتها منهجًا لها.

المدرسة الأولى سُميِّت بـ"الجبرية"؛ وهي التي نستطيع أن نقول إنها المدرسة الأولى ظهورًا، وربما سلطة بني أمية من الأسباب الرئيسة التي أدت لظهورها؛ وذلك بهدف الانقياد التام لحكمهم وامتناع الخروج عليهم؛ فهم أصحاب السلطة والقوة والنفوذ والطاعة لهم فرض، وتقوم فكرة الجبرية على أنَّ الإنسان مُجبر ومُلزم في كل أعماله التي يقوم بها، فهي سلبت القدر والفعل والاختيار عن الإنسان، فكل شيء واقع في الحياة الكونية والبشرية لا دخل للإنسان فيه ولا اختيار، ولا بد من الاستسلام والخنوع والخضوع التام له.

وترى مدرسة أخرى أنَّ الإنسان في كل أفعاله مخيَّر؛ فيطلقون له الحرية التامة في كل أعماله، وأنَّ الرب لا دخل له في إحداث الفعل البشري، ولا يمكن أن يتدخل في أعمال البشر؛ إذن فهي على نقيض الجبرية؛ فهي تؤمن بالحرية المطلقة للإنسان، وأنه هو المسؤول الأول والأخير عن أعماله وأفعاله، وهذا التفويض جاء من قِبل الرب، فتركه يخلقه بإرادته الحرة، وقد تبنَّى هذه المدرسة على الطليعة المعتزلة؛ فدعموا هذه الفكرة بالأدلة والبراهين، وفرضوا رأيهم على الحركة الدينية في العصور القديمة فكانت فكرتها من الأفكار التي ألف العلماء ردودًا عليها، كما أنهم رأوا أنَّ القول بجبرية الإنسان قول فيه نفي وهضم، بل وإمحاء للعدالة الإلهية عن ذاته تعالى، فهم يرون أن الإنسان عندما يفعل فعلًا ما ينظر فيه: هل هذا فعل قبيح أم جميل؟! وفعله للفعل ذاته سواء كان قبيحًا أو جميلًا نتيجة إيقانه لنسب الصفة للفعل، فهو عالم بصفة ما يفعل، كما أنَّ الفعل ذاته يلقون منه المدح والذم، كذا العقاب والثواب من بني جلدتهم أنفسهم!

جاءت المدرسة الأشعرية -وهي المدرسة الثالثة- لتكون وسطًا بين هذا وذاك، فيرون أنَّ الإنسان مجبر في أشياء ومخير في أشياء، وما أجبر وما خيِّر عليه فهو بمشيئة الله تعالى وقدرته، يمكن أن نشمل قولهم في قول الدكتور عبدالمجيد معلومي في مقاله: "منهج علماء الأشاعرة في خلق الأفعال" من مجلة الجذوة الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى بالمملكة المغربية، يقول: "هكذا التزم الأشعري بموقف المعارض للمعتزلة في حرية الإرادة دون المجبرة في قولهم بالجبر، على أنَّ ذلك لا يعني أنه ناصر القائلين بالجبر؛ إذا فرق بين الأفعال الاضطرارية والأفعال الاختيارية، الأولى تقع من العباد وقد عجزوا عن ردها، والثانية يقدر عليها العباد غير أنها مسبوقة بإرادة الله حدوثها واختيارها، وبهذه القدرة الحادثة يكتسب الإنسان أفعاله، فالفعل المكتسب هو المقدور بالقدرة الحادثة؛ فإذا أراد العبد الفعل وتجرد له، خلق الله له في هذه اللحظة قدرة على الفعل مكتسبة من العبد مخلوقة من الرب؛ فيكون الفعل خلقًا وإبداعًا وإحداثًا من الله وكسبًا من العبد لقدرته التي خلقها الله له وقت الفعل؛ فالحركتان الاضطرارية والاختيارية وقعتا من جهة الله خلقًا، وهما يفترقان في باب الضرورة والكسب، ولكنهما يستويان في باب الخلق".

... إنَّ ظهورَ هذه القضية بدأ منذ العصور التي نستطيع أن نقول عليها بعد عصر الخلفاء الراشدين، ولم يكن النبي الكريم يُحب أن يتدارس قومه مثل هذه القضايا؛ فقد جاء حديث عن النبي المصطفى برواية أبي هريرة، يقول: خرج علينا رسول الله ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فقي في وجنتيه حب الرمان ثم أقبل فقال: "أبهذا أُمرتم؟ أم بهذا أُرسلت لكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه" أخرجه الترمذي.

لقد تناول المفكرون الإسلاميون القضية في العصور المتقدمة تناولًا مستفيضًا، وقد أُطلق على هذه المدرسة "المدرسة الإصلاحية"، وقد تقدم هذه المدرسة المفكر الإسلامي الشيخ جمال الدين الأفغاني، الذي حاول أن يباين أو يوافق بين الإرادة الحرة وبين عقيدة القضاء والقدر وعبثية القول بالجبر، بينما محمد عبده يرفض قضية الجبر، وفي مقابل ذلك يأخذ بقضية الكسب التي جاء بها الأشاعرة، مع تأكيده على حرية الإنسان، إلا أنها محدودة ومتناهية، ويتحمل الإنسان تبعات أفعاله، في حين يأتينا إقبال بنزعته الروحية ليقول إن الإنسان الفرد هو وحدة الفعل، فالله منزَّه وهو أسمى وأعظم من أن يجبر البشر على عبادته، إلا أن المخلوق الذي يقر له بالحرية لا يمكن أن يكون موجودًا إلا بين يدي الله؛ فأصحاب المدرسة الإصلاحية الإسلامية الحديثة يحاولون أن يستخدموا منهجًا وسطًا، يعتمد على التجديد والتطبيق مستعينين بالفلسفة الإسلامية القديمة، محاولين إعادة أدلجتها وفقًا لمقتضيات العصر الحديث.

كلُّ ذلك أوقعنا في إشكال وأسئلة محيِّرة، والأخذ برأي فرقة أو مدرسة يجعل الأسئلة تزيد شيئًا فشيئا، والنص القرآن وافق كل المدارس في منهجها الذي تستعين به؛ فوضع القول الفصل في قضية الاختيار أمر لا بد له من تأنٍّ؛ والأخذ برأي الجبرية يعطينا سؤالًا طويلًا عريضًا: ما الداعي من محاسبة الإنسان ما دام مجبرًا على فعله؟ وكيف تحاسب من أجبرته على فعل؟ وما الغاية من الجنة والنار والثواب والعقاب ما داموا مجبرين على أفعالهم؟ أمَّا رأي المعتزلة، فيجعلنا في دوامة سؤال آخر: لماذا نطلق صفة الخالق على الرب بما أن الإنسان مخيَّر في كل حركاته، وأن التفويض من قبل الله، يجعلنا ننفي صفة الألوهية والربوبية والحاكمية للرب؟ فالقضية أبعد من أن نؤطرها بقول الجبرية والقدرية والمعتزلة وبينهما.

أخبار ذات صلة