القضية الأخلاقية والتعددية والإسلام

وليد العبري

يؤكد عدد من المفكرين وعلماء اجتماع الدين المعاصرين، المهتمين بمسألة الحداثة وما بعد الحداثة، على عودة الديني كظاهرة مميزة لكل المجتمعات في العالم، ما يعبّر عن أزمة خانقة ومأزق حقيقي للأئيكية وخاصة في شكلها الدغمائي الصارم، فالمجتمعات الغربية انتقلت من فكرة "موت الإله" إلى فكرة "عودة الدين"، والمجتمعات ذات الاغلبية المسلمة كانت قد انتقلت من حالة الرشدية الشورية إلى الراكدة الدكتاتورية مع شيء من التفرقة الطائفية المذهبية والجنسية العرقية. وعلى هذا الأساس فإن الجميع مدعو لمواجعة ضرورة إعادة طرح القضية الأخلاقية طرحا علميا وعمليا.

وهذا ما ناقشه الباحث الدكتور مراد الرويسي، والمنشور بمجلة "شباب التفاهم"، وأوضح أيضا أن المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة والمجتمعات الغربية عموما تتميز بمحاولة الهروب من ضرورة طرح المسألة الاخلاقية إلى إذكاء الصراع بينهما – لا بل وحتى داخلها وفي ما بينها – والدفاع عن أفكار الغلو المتطرفة والآراء المتشددة الإقصائية.

والجدير بالتذكير في هذا الصدد، ما كتبه المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، أن خبراء الإعلام والحرب النفسية في الغرب يمارسون مع الجماهير المسلمة لعبة الثور الإسباني الذي يركض غاضبة في مهاجمة قطعة قماش حمراء دون أن ينال منها، حتى تخور قواه ويسقط على الأرض.

وفي الكتاب ذاته يذكر مالك بن نبي أن أولئك الخبراء يطبّقون أيضا على المسلمين نظرية "الاستجابة الشرطية" التي صاغها عالم النفس الروسي إيفان بافلوف، وخلاصتها وضع الإنسان في ظروف تجعل ردوده آلية.

وهنا يجب طرح مشروع الاستعادة النقدية للقضية الأخلاقية القائمة على فكرة التعدد والتنوع، دون السقوط في هاوية الحلقة المفرغة للعنف والعنف المضاد، وخارج مبدأ الإقصاء المتبادل الذي ميّز العصر القديم والعصر الحاضر على حد سواء، وبعيدا عن سيطرة وسائل الإعلام الغربية وأخواتها من جهة، والخطابات الدينية الطائفية المتشنجة من جهة أخرى.

لمن يطالع أبرز كتابات وخطابات يوسف القرضاوي ومحمد الشيرازي، يمكن القول بأن هناك إتفاق من منظور إسلامي على أن التعدد القائم على التنوع والاختلاف يعد من أبرز سمات الوجود الإنساني، ومن أوكد ضرورات الاجتماع البشري، بل والطبيعي أيضا، فالاختلاف سنة من السنن الكونية: هذا الكون الرحب الفسيح بهذا الاختلاف يفضي إلى التنوع والتناغم والتناسق، ويُذهب الرتابة والفتور.

وهذا من شأنه أن يجعل للحياة طعما ومذاقا خاصا، فالاختلاف والتنوع يثريان الحياة، ويكسبان المء خبرة حيثثما حل وارتحل، فلو أن الناس جميعا خلقوا وجبلوا في صورة واحدة، والأماكن كلها كانت في صورة واحدة من حيث طبيعة المكان والمناخ وغير ذلك، ما احتاج الإنسان أن ينتقل من مكانه الذي ولد فيه، ولسئم العيش من أول سنوات إدراكه لمعنى الحياة لأنه لا يجد جديدا.

إن أهمية الاختلاف لا تاتي فقط من كون التنوع هو أصل الاجتماع البشري، بل لأنه أيضا مما تدعو إليه الفطرة وتقتضي به الطبيعة. وما الاختلاف في واقع الأمر إلا ظاهرة من ظواهر الوجود أودعت في الكائنات عموما وفي الإنسان خصوصا.

فمن وجهة نظر الإسلام، لولا وجود الاختلاف التي هي سبب من أسباب الخلق، لاستحالات الحياة. وفي غياب الاختلاف لا يمكن أن يكون الإنسان، من المنظور الإسلامي، ذلك المخلوق الذي سوّاه الغله ونفخ فيه من روحه، ثم منحه العقل، علّمه البيان، وفضله على كثير من المخلوقات، واستخلفه في الأرض، وسخّر له ما في الكون جميعا.

انطلاقا من النص القرآني الذي يحفل بالآيات التي وردت فيها لفظة "الاختلاف"، والذي ينهل منه مفكرينا، يمكن القول بأن التصور الإسلامي للوجود يقوم على فكرتين أساسيتين: الأولى هي وحدانية الخاق، والثانية تعددية الخلق واختلاف المخلوق.

وعلى هذين الأساسين بنى الإسلام تصوره وعقيدته وفكرته عن هذا الوجود. فبالنسبة للمسلمين فإن الله وحده هو الواحد، وكل ما بعده متعدد، وعلى هذا كان التوحيد في الإسلام بمثابة جوهر هذا الدين واساسه المتين.

تحرير البشر من العبودية لغير الله كان رسالة الأنبياء جميعا، التي تركزت وتجسدت في الدين الخاتم الذي بعث به النبي الأكرم الخاتم ليحرر الناس من عبادة الطواغيت حتى يعيشوا أحرارا متساوين فلا يمكن للناس ان ينعموا بظلال الحرية ونسيمها إذا كان بعضهم يعبد بعضا أو يذل بعضهم لبعض.

هذه هي الفكرة الأولى التي نستخلصها من أهم كتابات القرضاوي والشيرازي ذات العلاقة بالمسالة الإيمانية والاخلاقية القيمية، ومن قراءتهما لبعض آيات القرآن. أما الثانية فهي التعددية في الخلق، التعددية العرقية والتعددية اللسانية والتعددية الدينية، والتعددية الثقافية، كل هذه التعدديات شرعها الإسلام. المسلم ليس وحده في الوجود، هناك آخرون يشاركونه الحياة. إذن فثمة تعدد في الخلق.

وسنركز في هذا المقال بالحديث أكثر عن التعددية الثقافية أكثر من باقي التعدديات الآخرى، إذ يتبين أن الإنسان كلما كان واعيا بحقيقة الاختلاف، باحثا في الكون مكتشفا لأسراره، كلما اتسعت دائرة علمه ومعارفه. والعلماء هم الأكثر تأهيلا، لا لخشية الله وحسب، بل وأيضا لمعرفة واكتشاف حقائق الكون وتنوعه، فهم يعرفون بأبحاثهم ومعاينتهم وتجاربهم واكتشافاتهم وخشيتهم لخالقهم.

ويرى المفكرين القرضاوي والشيرازي أن الحضارة الغسلامية مثلا، شاركت فيها أنواع عديدة من العناصر والاجناس والأديان المختلفة، وساهمت في إثرائها ثقافات متعددة، فكل بثقافته شارك في تشييدها وازدهارها، وكل ترك له بصمة في ناحية من النواحي الحياتية فيها.

هذا التعدد في الإسهامات الثقافية من شأنه أن يغني حضارة ما من الحضارات ويعززها وينميها، وعلى النقيض من ذلك، الحضارة التي تقوم على لون واحد أو صورة واحدة فهذه تعد حضارة فقيرة. الحضارة الغنية هي التي تأخذ وتيتفيد من الجميع وتقتبس من الكل. هذا ما يعبر عنه بالتنوع أو التعدد الثقافي الثري.

من هذه المفاهيم والأفكار الأساسية أنه بين أن اختلاف الناس واقع بمشيئة وإرادة الله الخالق، هو الذي أراد الناس كذلك "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن"، هكذا خلق الناس وأن هذا واقع بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، فمن العبث أن يقاوم الغنسان مشيئة الله، لأن مشيئة خالقه وبارئه هي النافذة وهي الغالبة وما شاء الله كان وما لم يشا لم يكن.

الأمر الثاني، الإسلام يكرم الإنسان من حيث هو إنسان، الإنسان من حيث آدميته مكرم في الدين الإسلامي "ولقد كرمنا بني آدم"، فبذلك يصير الإنسان محور هذا الوجود، كرمه بغض النظر عن أي دين هو معتنق.

الأمر الثالث، هو أن الإسلام يأمر بالعدل، إسم العدل مع الناس جميعا، لا وبل مع كل الكائنات، وفي كل حالة وهيئة، مع المسلم أو غير المسلم، لأن العدل مع الجميع وللجميع، وبهذا يغرس الإسلام روح التسامح مع المخالفين، بلا حيف ولا تضييق، يعاملهم بالعدل ويعاملهم بالرحمة ويعاملهم بالقسطاس المستقيم، بما أن الأرض تسع الجميع والله الرحمان وضعها للأنام.

أخبار ذات صلة