التضامن الإنساني في الأزمات والبدائل الضرورية للبقاء

وليد العبري

تبنت دول الاتحاد الأوروبي يوم 26 مارس 2020، إعلاناً "بشأن التضامن الأوروبي وحماية الحقوق الأساسية في زمن كوفيد 19"، وقد نُشر هذا الإعلان للعموم يوم 2 أبريل 2020. وما يثير الانتباه في الأمر هو تاريخ صدور الإعلان؛ فقد تزامن هذا الصدور مع صعوبات وتحديات كبرى تواجه أوروبا، لا سيما دول غرب القارة الأوروبية في تصديها لأخطر الأزمات الصحية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي جائحة كورونا.

وهذا ما ناقشه الباحث محمد بالرّاشد في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم". وكما أضاف الكاتب أنَّ الإعلان الأوروبي يشدّ الانتباه إليه للوهلة الأولى، بسبب ما ورد في مُقدمته من تثمين لأوجه التضامن التي شهدتها بلدان الاتحاد الأوروبي، في أحيائها ومدنها خلال الجائحة، وفي تلك إشارة إلى أنَّ التضامن بات أمرا نادرا. والأهم من ذلك أنَّ هذا الإعلان، عدّ ذلك التضامن بارقة أمل أوروبا بأكملها، وكأننا بالأمل يولد من رحم الأزمات، ولا سيما العالمية منها، أو لم يُولد الاتحاد الأوروبي أصلاً بعد أزمة الحرب العالمية الثانية وويلاتها؟

يُجسد هذا الإعلان الأوروبي قناعة بأهمية رابطة التضامن، لا في التغلب على الأزمات فحسب، وإنما في خلق بدائل للواقع المأزوم. ولذلك عدّ الإعلان التضامني الذي عرفته أوروبا بارقة أمل، أي يمكن بلورة بدائل لهذا الوضع المأزوم متى تم الالتزام بالتضامن في دوائره المختلفة، الحي والمدينة والبلد والإقليم (أوروبا) فيتحول إلى قيمة تُستوعب، فتبني مواقف الأفراد والجماعات وتوجه سلوكياتهم.

وبعبارة أخرى: إن بقاء الإنسان في القارة العجوز مرتبط – في جانب من جوانبه – بالترابط الاجتماعي القوي، وهي قناعة تبدو مثيرة ومحفزة للبحث في مضامينها وأبعادها؛ لأنها تصدر في قارة بنت حضارتها على الفردانية والحياة والحرية الفردية، الأمر الذي أفضى إلى تلاشي روابط كثيرة، منها رابطة العائلة والجيرة، (كم من شخص يموت في شقته وحيداً، ولا يُتفطن إلى وفاته إلا بعد مدة، وبعد انبعاث الروائح الكريهة في شقته).

أن نتحدث اليوم عن التضامن، فذلك يعني أن نتكلم عن أنواع التضامن، منها التضامن القبلي / العشائري، والتضامن الوطني والدولي، والإنساني. الأمر الذي يعكس ثراء المفهوم وتعدد دلالاته. بل إن هذا المفهوم صار مفهوماً مرتحلا، فمن التضامن الاقتصادي إلى التضامن النقابي إلى نقابة التضامن، مرورا بالتضامن المؤسسي إلى التضامن المسيحي، أو إلى التضامنين الآلي والعضوي لعلم الاجتماع الدوركايمي.

إن المعنى الممنوح للكلمة وطريقة فهمها وترجمتها إلى الواقع يختلف اختلافا كبيرا. ولكن هذا الثراء والتنوع، لا يعنيان أن التضامن اليوم في أبهى صوره؛ فتعدد دلالات معاني التضامن لا ينبغي أن تحجب عنا بعض التحديات التي يواجهها التضامن الإنساني بشكل عام – نتيجة تغير أنماط الحياة بشكل سريع، وبسبب تصاعد الفردانية بشكل لا نظير له – لا سيما في الأزمات الكبرى، كالأزمة الصحية العالمية، التي يعيش على وقعها العالم اليوم نتيجة جائحة كورونا، حيث مبدأ التضامن ضعيفا، لكن قبل التعمق في التضامن ودوره في التأسيس لعيش جماعي على أسس أخلاقية، وقيمية محددة يكون من المفيد التوقف عند معاني التضامن، واستخدامه من قبل مقاربات وحقول معرفية مختلفة.

من هذا المنطلق يعني التضامن "العلاقة بين أشخاص أو مجموعات لهم وعيٌ بمجموعة من المصالح التي تترتب عليها التزامات متبادلة، بطريقة أن كل واحد يستجيب لهذا الكلّ. فهو يُحيل إلى مقولة الترابط". بما يفيد أن التضامن ترجمة لوعي بترابط المصالح، ومن ثم بترابط المصير، وعليه فهو "يفترض الوعي بالانتماء المشترك الذي يخلق واجبات المعاملة بالمثل". أي أنَّ التضامن يبنى على وعي، وهو من ثم ليس أمرا عفويا. وعادة ما يُترجم التضامن ذلك القول المأثور "الواحد للجميع، والجميع للواحد".

وهكذا يكون التضامن وعيا، يُجسم من خلال سلوك غير قابل للتجزئة، بمعنى: لا يقتصر على جيل ولا على شعب ولا على فئة أو فرد، وهو فضلا عن ذلك كله يمتد ليشمل الأجيال القادمة. فالتضامن من هذه الوجهة يمثل سبيلاً للإنسان لخلق بدائل للواقع الإنساني، لا سيما في فترات الأزمات، بما يضمن له استمرارية البقاء. وبعبارة أخرى ليس التضامن وضعا جامدا، بل هو حركية دائمة ومستمرة، وهذه الخاصية جعلته يُتيح للبشر بناء استراتيجيات بقائهم وإعادة بنائها، ومن ثم يوفر لهم فرصة التغلب على المخاطر والأزمات التي تهددهم، وضمن سياق الديناميكية هذه تطور التضامن إلى أن صرنا اليوم نتحدث عن السياسات التضامنية.

اعتبر ابن خلدون أن العصيبة تدور حول النسب أو في ما معناه؛ ذلك أن صلة الرحم طبيعية في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها التعرف على ذوي القربى وأهل الرحم أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويودّ لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعية مذ كانوا، وهذا يعني أن التضامن مع القريب هو بهدف حمايته ومنع الاعتداء عليه، والحيلولة دون الخطر الذي يداهمه، وكلما اشتدت العصبية زادت اللحمة، أي بات التضامن شديدا وقويا، وبذلك أمكن درء الخطر ومقاومة المهالك والمعاطب.

أبرز دوركايم – في دراسته لتقسيم العمل الاجتماعي – أن أشكال التقسيم تنتهي إلى بناء نموذجين من المجتمع: "أحدهما متمايز، حديث، يقوم ما يسميه دوركايم بالتضامن العضوي؛ لأنه يتشكل من نسق من الأعضاء والوظائف المختلفة، حيث يقوم كل فرد أو عضو منها بدور محدد. والثاني غير متمايز أو متمايز بشكل ضعيف، يتأسس على تكرار عناصر متشابهة ومتجانسة، تقوم بالفعل نفسه، ويسميه دوركايم بالمجتمع ذي التضامن الآلي. وبذلك يعني أن دوركايم يميّز بين نوعين من المجتمعات: المجتمع البسيط، والمجتمع المركب الحديث، ومعيار التمييز بينهما هو تقسيم العمل الاجتماعي.

يسود التضامن الآلي في المجتمعات التي يضعف فيها تقسيم العمل، حيث يكاد يُختزل في أشكال أولية؛ مثل التقسيم الجنسي للعمل (أعمال خارج المنزل للرجال / أعمال منزلية للنساء)، أو التقسيم العمري للعمل (للصغار أعمال ولكبار السن أعمال أخرى مثلما هو الشأن في المجتمعات البدوية). أما التضامن العضوي فيرتبط بالتخصص الوظيفي الناجم عن تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بحيث يؤدي الأفراد مهامهم وأدوارهم من خلال الوظائف التي يشتغلون بها في المجتمع وفي السوق. وهكذا فإن تقسيم العمل يُحدد نمط التضامن، ونمط التضامن يحدد طبيعة المجتمع. المجتمعات متضامنة آليا، والمجتمعات الحديثة متضامنة عضويا. هذا هو المخطط الذي يفسر به دوركايم حركة التاريخ ونشوء المجتمع، وتقسيم العمل في قلب هذا التفسير.

وختاماً، يستمد الإنسان قدرته على البقاء من مدينته كما أكد على ذلك ابن خلدون، ولكن هذه المدينة تغدو بلا معنى عندما تغيب عنها منظومة قيم تؤطر العيش مع الإنسان، وتحميه من مختلف أنواع الأزمات. وضمن منظومة القيم تلك يقع التضامن قيمة مؤسسته للعيش معاً. وحتى يكون التضامن ناجحا يكون من المهم إعادة التفكير فيه مثلما دعا إلى ذلك سيرج بيكام. وإعادة التفكير تقتضي توطين ثقافة التضامن التي تحدّ من بعض النزعات التي حكمت السلوك الإنساني في العقود الأخيرة؛ مثل الربح وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة والانتصار للتماثل والتشابه على حساب التنوع والاختلاف، فضلا عن التمركز حول الذات في تجلياته الفردية والاثنية والطائفية... إلخ. ومن هذا المنطلق يكون التضامن وسيلة وهدفا، وسيلة البشر لبناء مستقبل أفضل، وغايتهم التي تجعلهم قادرين على خلق البدائل، وتطوير قواعد العيش المشترك في إطار الوحدة والتنوع.

أخبار ذات صلة