محمد الشحي
منذ بواكير النهضة العربية، برزت أسئلة عديدة عند أولئك المتعلمين الذين استقوا تعليمهم من منابع لها سمة ازدواجية: هويّاتية عربية إسلامية، وظرفية تاريخية تضرب بجذورها في الغرب الاستعماري. برزت هذه الأسئلة من الواقع المعاش الذي وعى فيه هؤلاء المتعلمون، واقعٌ تزكم أنوف الناظر فيه ثلاثية الفقر، والمرض، والجهل. وإن نظرة فاحصة لنفسيات من كانوا يحملون مشعل التعليم، تجدهم يراوحون فيما بين الجذور التي ينتمون إليها، والسماوات التي يرومون أن يصلوا بمجتمعاتهم ناحيتها. كان هذا المعترك الفكري الاجتماعي محور مقاربة أستاذ الفلسفة المغربي عبدالإله بلقزيز في مقاله "في الحاجة إلى استئناف مشروع الإصلاحية الإسلامية"، المنشور في مجلة التفاهم.
إن تحليلا أوليا لمدلولات عنوان المقال تُنبئنا أن هناك حاجة نفسية متعلقة بالدين الإسلامي. ذلك المكون الأساسي من مكونات المجتمع العربي. هي حاجة نفسية قبل أن تكون اجتماعية؛ نظرا لما يمثله مفهوم "الحاجة" من محورية في البحث النفسي، ويحيلنا إلى هرم ماسلو في الاحتياجات. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار موضوع هذه الحاجة فسنجده ذا صلة وثيقة وأصيلة بالنفس، أعني الدين، الذي يُرجعه الباحثون إلى الحاجة النفسية في التعويض الناشئ عن الوعي بحتمية الفناء، فكان للنفس حيلها في تعزية ذاتها بإنشاء منظومة أخلاقية دينية تطورت بفعل المخيال من المادية إلى التجريد عن طريق المرور بانعطافات لها علاقة بالثقافات الخاصة لكل منطقة يعبرها الدين.
وكما يشير العنوان إلى "مشروعٍ" تعطّل العمل به، و"ينبغي" (وهنا أستعير لفظة الكاتب) بث الروح فيه، والعمل بمقتضياته "الإصلاحية"- يشرع لنا هنا التسآل حول هذا المشروع. ما خلفياته المعرفية المؤسسة له. وما نوع الفساد الذي يحتّم العمل بمشروع إصلاحي لتقويمه. وللإجابة عن هذه الأسئلة، نقف متسائلين المقال الذي بين أيدينا.
لقد سعى بلقزيز في مقاله أساسا إلى الدعوة إلى إعادة بعث مشروع علال الفاسي وسلفِه، منذ الطهطاوي حتى الكواكبي، واستئناف العمل بهذا المشروع الذي يعمل على إيجاد صلة عميقة بين الهوية الإسلامية والمفاهيم الحديثة من قبيل: الدولة المدنية، والمواطنة، والمؤسسات، والمشاركة السياسية. إلا أن المنظرين يعون بأن طبيعة الدين تقف أمام سيرورة هذا المشروع، ليلتفّوا حول هذه العقبات باستخدام آلية قديمة متجددة في الفكر الإسلامي: آلية التأويل التي يحتملها النص الديني.
بدا الكاتب في مقاله على يقين لا يشوبه شك من ضرورة وجودية مشروع إصلاحي، فقد قدم هذا المشروع إجابات فكرية "رصينة" على معضلات عدة "نبعت من الانقلاب الكوني الهائل الذي أحدثه صعود المدنية الأوروبية الحديثة". لكن القارئ يتساءل حول الجدوى من المشاريع التي تدّعي الإصلاحية، وتستشفع بمخيال يوتوبي، محاوِلةً إما إيجاد أرضية مشتركة بين الشرق والغرب، وإما التأكيد على الهويات الضيقة في ظل العولمة التي لا تقبل بذلك، كل ذلك في إطار الصراع الحضاري بين الأمم الفاعلة والخاملة، وأقصد بالأولى الأمم التي تفرض أنماط عيشها وسياساتها اعتمادا على فاعليتها، والأخرى المستقبلة لتلك الأنماط دون حيوية ملحوظة.
هذه التساؤلات تحيلنا إلى البحث في جوهر الدين الذي يستشفع به أولئك المفكرون، فهل يحتمل جوهر الدين كل هذه الحمولات، أم أن له حدودا لا يمكنه تجاوزها بطبيعته، ناهيك عن استحلاب مشاريع حديثة، تصبغ الحياة "الخاملة" بصبغة حديثة، في إطار فرض الحياة "الفاعلة" شروطها في أنماط العيش اليومية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
إن طبيعة الدين، إذا ما قرأناه ضمن تطوره التاريخي، منذ أقدم الطقوس التي تشير إلى تفكير ديني، وحتى آخر الأديان، مفترضين الدين الإسلامي آخرها كونه يحظى بانتشار لا تتمتع به أديان أتت بعده كالبهائية- نجد أنه لا يخرج عن كونه منظومة أخلاقية اجتماعية، توفر للمؤمنين إجابات نهائية للأسئلة الوجودية الكبرى، ومن أجل أن تضمن هذه المنظومة الشرعية فلا بد لها من وضع هذه الأسس الأخلاقية ضمن إطار تاريخي وواقعي واقتصادي فيما يبدو بنية معرفية متكاملة.
إن الخاصية التاريخية في جوهر الدين تسربت إلى أذهان منظّري الفكر الديني، فلمعت في عيونهم فكرة صبغه بصبغة مفارقة للتاريخية فاقترحوا صلاحيته لكل زمان ومكان. إلا أن الطبيعة التاريخية تأبى الخضوع لمجرد شعارات هي أقرب للفراغ منها للجد؛ فمنذ كانط، أُعلن عن نهاية العقل الديني، الذي أتى بعد إنهائه العقل السحري، ليأخذ مكانهما العقل العلمي، والذي يشكل بدوره، في رؤية عدد من المفكرين، لاهوتا جديدا له أقطابه المنظرة لوجوده. وبذلك تنخفض فرص المستشفعين بورقة الدين لتمرير أفكار حديثة إلا من زاوية وحيدة: زاوية الجماهير التي كما وصفها لوبون بأنها تسيّرها العواطف لا العقل. فالجماهير الذين يعدون أغلبية بإزاء المثقفين، هم الذين يمكن اللعب على عنصر الدين لديهم، وليّ أذرع النصوص الدينية من أجل إضفاء الشرعية على أفكارهم التي يرومون تمريرها إلى الواقع.
إلا أن اللعب بهذه الورقة، ورقة الجماهير، يتنافى مع أحد العناصر التي يرتكز عليها مشروع الإصلاحية: التعليم المدرسي الذي يدّعي تأسيس أجيال تعتمد في تشريعاتها وسياساتها على عنصر العلم، ومنه تستقي مواده المقننة لسلوك الأفراد في الجماعات والدول. فهذه الأجيال يفترض بها أن تكون واعية ولا تشكل جماهير نفسية كما يقول لوبون، وإلا فإن هناك خللا بنيويا في مبدأ التعليم المدرسي.
***
ركّز الكاتب في مقاله على ضرورة التفريق بين مشروع الإصلاحية الإسلامية الذي بدأ منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر ويمثله الطهطاوي والكواكبي وابن باديس والفاسي، ومشروع الإحيائية الإسلامية الذي ظهر على يد حسن البنا فيما يعرف بجماعة الإخوان المسلمين. فالفرق بين الاثنين أن المشروع الأول يقوم على سؤال "كيف نتقدم؟"، بينما المشروع الآخر يقوم على سؤال "كيف نحمي الهوية؟"، وبالتالي فإن الأول منهما مشروع تقدمي يعتمد على المنتج الحضاري الغربي الموجود، ويرمي إلى تحقيق العيش في الظرف التاريخي المعاش في إطار الدولة الوطنية القُطرية، والآخر يرمي إلى الانكفاء حول الهوية الإسلامية الخاصة، ونبذ كل الإنتاجات الحضارية الآتية من الغرب، وتقويض الحدود السياسية القُطرية وإعادة بعث الخلافة. ومع أن المرجعية الفكرية واحدة في كلا المشروعين ، إلا أن الرؤية والأهداف تتباين فيما بينهما، وتظهر المفارقة بين تطبيقات كل منهما.
من المستغرب أن يقصي الكاتب، وهو في إطار التأريخ لحركة الإصلاحية التي تعمل على النهوض الفكري انطلاقا من المقدمة الدينية، أعمال مفكرين كنصر أبوزيد، وأركون، والجابري، ومحمد مجتهد الشبستري، وعبدالكريم سروش، وأعمال هؤلاء تنتمي إلى حقبة زمنية لحقت الفاسي الذي يؤرّخ له كنهاية لأعمال مشروع الإصلاحية الإسلامية، بينما قدموا لنا أعمالا فكرية لا تقل قيمة عن أعمال الكواكبي والطهطاوي، إنْ لم نقل إنها تفوقها من حيث استخدامهم أدوات علمية تشريحية أكثر حداثة.
فإذا كان القارئ لم يعِ طبيعة مشروع الإصلاحية كما قدمه بلقزيز، فإن ذلك بالضرورة عائد إلى المفارقة في طبيعة منظري المشروع وكتابات أركون والجابري وأبوزيد والشبستري وسروش. فهؤلاء الأخيرون يميلون إلى التنظير العلمي بعيدا عن خطاب العواطف الذي يطبع أحيانا أعمال أعلام المشروع.
***
أصرّ الكاتب على ضرورة استئناف مشروع الإصلاحية، وليس البحث عن مشروع آخر جديد بحجة أن المشروع قد استُلب واقتيد نحو منحنى آخر على يد الإحيائية الإسلامية. بالإضافة إلى أن المشروع لم تُستنفد عناصره الاجتماعية والسياسية حتى يُستغنى عنه.
لكن الناظر بعين الواقع، والواعي لمآلات الرهان على عنصر الدين يدرك الخطورة الكامنة في الاعتماد على مشروع كهذا في ظل العلمانية الحديثة. العلمانية التي ينفر منها العربي بفعل حملة التشويه التي قادها الصحويون ضد هذا المفهوم، والاختزال غير المنصف له في إطار "فصل الدين عن الدولة"، في حين أنه مفهوم يتعدى الحدود الضيقة التي رسمها أولئك لتعطي المركزية للعلم في صياغة القوانين والسياسات التي تضمن مشاركة الأفراد في صنع القرار، وتعطي الشرعية الفعلية لأداء الدول والحكومات. وبهذا يغدو وجود مشروع كهذا الذي يدعو إليه الكاتب حلما يوتوبيا ورديا لا مكان حقيقيا له في الصراع بين الأمم الفاعلة والخاملة، ولن يزيدنا إلا خمولا على خمولنا.
