محمد الشحي
في إطار العلاقة المشوبة بالتوتر، وانعدام الثقة المتبادلة فيما بين طرفيها، يطالعنا بين فترة وأخرى مقال هنا وهناك يناقش تلك العلاقة المفتقدة للسلم، والمخبئة للحرب في جلابيبها، أعني العلاقة ما بين الشرق والغرب. هذان الطرفان اللذان يحتملان تاريخا، وحاضرا أكبر مما قد تحتمله ذاكرة بعينها. تاريخ موشًّى بالدماء، وذاكرةٌ معنونة بصرخة عربية قديمة مفادها "لا تصالح". الغرب، ذلك البعبع، والمارد الذي ما فتئ ينظر إلى الشرق بوصفه أرض السحر الذي أضفتْه عليها حكايا ألف ليلة وليلة، والغرب الراغب ببسط نفوذه على طريق الحرير الذي يمر بالشرق. الشرق الذي لم ينس تقطيع الأجنبي لآذان أجداده، وتجديعَه لأنوفهم، وسلب مواردهم - ولا يزال يفعل- كيف لطرفين اثنين يجرّان كل هذا الإرث من العلاقة المتوترة أنْ ينعما بأي جسر تواصل مهما كانت صورته.
تعد دراسات الاستشراق بابًا للنظر في طبيعة العلاقة ما بين الاثنين، ومنذ أن نهض العرب بعد سباتهم فيما يسمى بعصر الجمود، ونظروا فيما كتب الغرب الأوروبي عنهم، وفي أول ردة فعل لهم لجأوا إلى حيلة دفاعية نفسية متمثلة في الانسحاب من النقاش والتحليل إلى الهروب إلى الأمام المتمثل في النظر فيمن كَتَبَ لا فيما كُتِبَ، واستعادوا بذلك ذاكرة مثقلة بالدماء والصراخ ليُلبِسوها لَبوسَ المعرفة، مهاجمين كل المستشرقين ومتهمين إياهم بالعمل لصالح دوائر الاستعمار بوصفهم عرّابِين للقوى الإمبريالية، وكان رأس هذه المدرسة إدوارد سعيد بكتابه "الاستشراق".
لقد عرفنا نماذج كثيرة لردود الشرق على ما كتب الغرب، بتفنيدٍ متحاملٍ، واستعراض مجتزأ في بعض الأحيان. ولكن السؤال الذي يتراءى في الأفق للناظر المتفحص، مفاده: هل رد الغرب على هجوم الشرق الثقيل؟ وما كانت أهم حججه؟ بكلمات أخرى: كيف تعامل الغرب مع الهجوم الشرقي عليه؟
نستعرض هنا أهم مواقف الغربيين إزاء مقالات الشرق، والتي عرضها ألكسندر ماكفي في مجلة التفاهم بمقالة طويلة بعنوان "ردود الهجوم على الاستشراق".
يبدأ الكاتب تلك الردود بمحاولة كل من كلود كاهين وفرانسيسكو غابرييلي في الرد على عبدالملك، إلا أنهما اعترضا على نتائجه فحسب، ولم يتطرقا إلى صحة افتراضاته الأربعة الأساسية؛ وهي: أن الاستشراق في الماضي راقب عمومًا الشرق من وجهة نظر غربية، وأنه كثيرًا ما كان أداةً للإمبريالية والاستعمار، وأن الاستشراق أصبح مهجورًا وبحاجة إلى الإصلاح، وأن المستشرقين كان منهم في الماضي اهتمامٌ غير كاف للتاريخ الحديث لشعوب الشرق وثقافته. كما يناقش غابرييلي أن الاستشراق في الماضي تورط في إخضاع الشرق واستغلاله، لكن هذا لا يعني أن الحافز الرئيس للاهتمام الأوروبي بالشرق من الناحية التاريخية واللغوية والأدبية والدينية كان سياسيًّا واقتصاديًّا. على عكس عديدٍ من المستشرقين الذين انخرطوا في بحث نزيه وحماسي عن الحق مثل إدوارد براون، ولوي ماسينيون، وليون كيتاني الذين أصروا على الاهتمام بالثقافة والمجتمع الشرقيين كان منفصلا تماما عن ممارسات السلطات الاستعمارية.
ويؤكد الكاتب على حق الشعوب في أن تكون موضوعات للبحث الاستشراقي لا أغراض له، مع بقاء حقيقة أن الشرق ليس عليه أن يتوقع من الغرب أن يتخلى عن الحقائق العلمانية في النظر إلى الشرق على حساب النظرة الشرقية للشرق. ويحيل الكاتب ذلك إلى سببٍ مفاده أن الشرق يخلو من المفاهيم المعاصرة، والأفكار المهمة، وتفسيرات التاريخ التي منبعُها الغرب الأوروبي، ويضرب لذلك أمثلة للأفكار الماركسية والهيجلية واللينينية التي هي أساس تحليل عبدالملك للاستشراق؛ وهو بذلك كَمَنْ يبيّن عَوار من يناقض ذاته بحيث إن عبدالملك يهاجم الغرب مستخدما أدوات الغرب الأوروبي في التحليل والتفسير للظواهر المدروسة.
كما يعرض الكاتب مثالا آخر لردود الشرق على الغرب، وهو رد طيباوي للاستشراق في مقالة له بعنوان "المستشرقون الناطقون بالإنكليزية" (1964)، ومقالة أخرى بعنوان "نقد ثان للمستشرقين الناطقين بالإنكليزية" (1979). وعلى الرغم من الأثر الكبير الذي تركه هذا النقد على المستشرقين المعنيين بالأمر، وهما جب وآربري، وهما -حسب الكاتب- مستشرقان إنكليزيان رائدان، إلا أنّهما فضّلا عدم الخوض في جدل عقيم، ومع ذلك فقد وافق ضمنًا جب على الكثير من الانتقادات، بينما آربري فأقرّ بأنّ القصة التي رواها طيباوي "حزينة لكنها للأسف صحيحة".
بينما كان الذي رد على طيباوي دونالد بي. ليتل في مقالة بعنوان "ثلاث انتقادات عربية للاستشراق" (1979)، وكانت تدور حول ثلاث قضايا هي بمثابة المدارات التي تدور حولها مقالة طيباوي؛ وهي: أن التجربة الدينية بديهية بطبيعتها، وأنّها لا يمكن فهمها بواسطة الطرق التحليلية والنقدية التي يستعملها العلماء، وأن الذين ينظرون إلى النظام الديني من الخارج لا يمكنهم أبدا أن يقدروا أهمية تجربة أولئك الذين يعيشونها. هذا الجانب الأخير يمثل الصفعة التي وجّهها طيباوي لكل المستشرقين على اعتبار أنهم جميعهم يتكلمون من خارج دائرة الإسلام، وبالتالي لا يمتلكون الأهلية التي تمكّنهم من تقييم تجربة المؤمنين، ويقصد بهم المسلمين ههنا.
ومما يُلحظ في طرح طيباوي أنه خلط بين مفهومين، وجعلهما كالوجهين للعملة الواحدة، وأعني هنا القومية العربية والقومية الإسلامية. وإنه لمن نافل القول تبيان الفارق بين المستويين من الهوية؛ فالهوية الإسلامية أكثر اتساعًا من الهوية العربية، وحيثما تنتهي حدود الهوية العربية، فإن الهوية الإسلامية تخترق تلك الحدود لتشمل الأمم غير العربية. فكيف ساغ لطيباوي أن يتغاضى عن هذا الفارق فيما بين الهويتين لحساب تصفية حساباته مع الاستشراق والمستشرقين.
إنّ الحديث يطول حول طبيعة العلاقة ما بين الشرق والغرب، لا سيما عندما نتحدث في مستوى الاستشراق والذين اشتغلوا فيه من العرب وغيرهم. لكن الروح العلمية الصرفة التي لا تعرف هوًى، ولا تميل لجانب دون آخر ميلًا مسبقًا، تلك الروح التي تحمل على عاتقها مهمة وصف الظواهر كما هي على أرض الواقع، بعيدًا عن وصفها كما ينبغي أن تكون، تحتّم علينا تلك الروح النظر بعينين اثنين للاستشراق؛ فقد كان له دور كبير في إعادة بعث التراث العربي الذي كان مهملًا في هوامش الحياة العربية، فالمستشرقون هم الذين صنّفوا لنا مخطوطاتنا، وهم الذين أخرجوا أول ما خرج من تلكم الآثار، وهم الذين دوّنوا جوانب كانت مهمشة من حياتنا حينما كان المؤرخون يتمسّحون ببلاطات السلطة ويؤرّخون للحياة السياسية فحسب. لا يعني هذا الكلام براءة جميع المستشرقين من الأهواء أو المسؤولية عن دمائنا التي أريقت في سبيل الموارد الطبيعية والتجارية، إلا أننا يجب علينا ألا نغفل عن حقيقة أخرى مفادها أننا استُعمرنا عندما كنا قابلين للاستعمار بجهلنا وفقرنا ومرضنا.
إن هذه المقالة المطولة التي عرضت لجانب قصير منها غنية بتأريخ العلاقة المشتبهة فيما بين الشرق والغرب، ولو أنها -على ما يبدو- مجتزأة من كتابٍ أكبر للكاتب نفسه.
