وليد العبري
إنّ العلاقة بين الحداثة والقيم هي علاقة معقدة ومركبة ومتشابكة، ولقد قدمت الحداثةُ في الفكر الغربي نموذجا صارخا للارتباط بالبعد المادي، والابتعاد عن القيم الروحية، ونتج عن ذلك سعيٌ وراء المنفعة واستغلال الشعوب؛ فالقيم أصبحت تُستمد من هذا البُعد المادي، وأصبح الإنتاج والاستهلاك غايةً تُطلب لذاتها، وأصبح التقدم في سياق هذا البعد المادي هو معنى الوجود والقيمة القصوى له. وهذا ما تحدث عن الكاتب عماد الدين عبد الرزاق في مقاله المنشور بمجلة التفاهم.
ولقد مثَّلت الحداثةُ في الغرب مشروعا فكريا فلسفيا يهدف إلى التغيير الشامل في فكر القرون الوسطى، وقامت على تجاوز جميع الثوابت الدينية والروحية والعقدية، وجوهر هذه الحداثة هو التقدم التكنولوجي والعلمي، الذي أحدث ثورة تغيير في هذه المجتمعات الغربية أبعدتها عن القيم الروحية، وأصبحت القيمُ – في ظل هذا التقدم التكنولوجي – تمثل شياً من الأشياء، لذا فقدت معناها ومكانتها وأهميتها، وتحولت إلى سلعة تباع وتشترى، وأصبحت القيم الإنسانية تقاس بما ينتجه الإنسان من سلع، وبما تتضمنه من علاقات الإنتاج.
ولقد أكد هذا المعنى "ماركس" عندما قال: "إنّ سائر القيم تحولت إلى مجرد قيمة تبادلية"، ولذا تم نقد موقف الحداثة من القيم من جانب عدد من الفلاسفة منهم "هابر ماس"؛ فلقد أشار إلى أن القيم الإنسانية في ظل الحداثة تحولت إلى سلعة تباع وتشترى، وأصبحت السيادة لوسائل الإنتاج وعلاقاته؛ لذا أضحت القيم خالية من كل معنى.
ومن الفكرة نفسها نسج "لوكا تش" مفهومه عن "التشيؤ"، والذي يعني تحول الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة، كما يعني أن العالم الاجتماعي تحول إلى عالم من الأشياء، والقيم أصبحت سلعة تباع وتشترى؛ فالتشيؤ يحول القيم إلى شيء من الأشياء، بل يصبح الإنسان نفسه جزءا من الآلة، ومن ثم يشعر بالاغتراب.
كما نقد أيضا "ماركيوز" تلك الحداثة وإهمالها للقيم، وذلك عن طريق فكرته عن الإنسان ذي البعد الواحد؛ حيث يرى أن الإنسان وقيمه تحولا – في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي – إلى بُعد واحد وهو بُعد الآلة، ولذلك يشعر بالاغتراب. بناء على ذلك نرى أن الحداثة قد أهملت القيم وحولتها إلى شيء من الأشياء وسلعة من السلع، وأصبحت القيم تخضع لمنطق العرض والطلب، ولقوانين السوق.
يرى "هابر ماس" أنه بقدر تغلغل التقنية في مجالات الحياة الاجتماعية – وما يترتب على ذلك من تغير في المؤسسات الاجتماعية ذاتها – تتقوض الشرعية القديمة لتحل محلها شرعية جديدة. لذا يرى أنّ التطور التقني يخضع لمنطق يتبع بنية الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف، ثم ينطلق هابر ماس من فكرة سيطرة وهيمنة التقنية على عالم الحياة إلى فكرة "العقل الأداتي" وكذلك نقد هيمنة التكنولوجيا التي أدت إلى اغتراب الإنسان وفقدان قيمه، فالعقل الأداتي – بوجه عام – هو منطق من التفكير، وأسلوبٌ في رؤية العالم، ويُعد هو الأسلوب الذي يحكم العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهو الذي يسيطر على التفكير في المجتمع الصناعي المتقدم، وفيه يخضع الإنسان للتكنولوجيا خضوعا تاماً.
الفكرة نفسها عند لوكا تش في نقد الحداثة الغربية من خلال عرضه لمفهوم "التشيؤ"، والذي يعني عنده أن المجتمع يجب عليه أن يُشبع حاجاته كلها وفق نموذج علاقاته الاقتصادية، ومن ثم تعم ظاهرة التشيؤ.
ولقد عرّف لوكا تش التشيؤ بأنه تحول الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة واتخاذها لوجود مستقل، واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية. وهنا التشيؤ يعني اغتراب الإنسان في ظل هذه العلاقات الاقتصادية؛ حيث لم تعد السلع تقاس بقيمتها الواقعية؛ وإنما تتحدد بقيمةٍ مجردة يحددها السوق.
ويرى لوكا تش أن هذه الفكرة تشكل نقدا أخلاقيا قويا للنظام الرأسمالي والحداثة الغربية، والذي من خلالها تحَّول البشر إلى أشياء يمكن أن تباع وتشترى، وفي هذه الفكرة أيضا يصبح العالم الاجتماعي عالما من الأشياء، شأنه في ذلك شأن العالم الطبيعي، وأصبح المجتمع يمثل طبيعة ثانية، إلى جانب العالم الطبيعي الأصلي، وأصبح يبدو كما أنه مستقلٌ عن الفعل الإنساني، شأنه في ذلك شأن استقلال قوانين الطبيعة.
كما يرى "ماركس" أن أسلوب الإنتاج الرأسمالي نظامٌ منتج للسلع، فكلُّ التنظيمات الاقتصادية وكل تفاصيل عملية الإنتاج في النظام الرأسمالي تهدف إلى هذه الغاية، وهي إنتاج السلع. وعلى الرغم من أن السلع هي نتاج العمل البشري، فإنها – بمجرد دخولها في علاقات تبادل في السوق مع غيرها من السلع الأخرى – لتصبح لها قوانينها الخاصة التي تسمى بقوانين السوق؛ مثل العرض والطلب، وبذلك تستقل عن أصلها البشري والاجتماعي، ويصبح لها كيانها الخاص بها.
هنا نرى أن صنميه السلع هي ظاهرة تسود فيها قوانين السوق وتبادل السلع، وتصبح هذه القوانين هي المسيطرة على المجال البشري. ولا يقتصر الأمر على ذلك كما يرى "ماركس"؛ بل إنتاج السلع يصبح هو الذي ينظم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وينظم علاقاتهم بالمجتمع، وبذلك تأخذ الطابع الصنمي، كما أن طاقة العمل البشري تقاس بمدى قدرتها على إنتاج سلع في فترة زمنية محددة، كما تتحدد قيمة العمل بقيمة ما ينتج من سلع، وهذا يؤدي إلى تشيؤ العلاقات الاجتماعية، فالعلاقات بين المنتجين – التي هي في الأصل علاقات اجتماعية – تظهر على أنها علاقاتٌ بين منتجات عملهم، تحكمها قوانين اقتصادية.
نرى ماركيوز ينطلق في فكرته عن الإنسان ذي البُعد الواحد، من أطروحة أساسية هي التفاقم اللامحدود لسلطة الآلة في المجتمعات الصناعية الكبرى، التي زادت فيها سلطة الحداثة والتقدم التكنولوجي.
يرى ماركيوز تحوُّل الإنسان – في ظل التقدم التكنولوجي – إلى بُعدٍ واحد يمثل البعد التقني لسلطة الآلة؛ بحيث تفرز نمطا من العلاقة بين الفرد والمؤسسات التي تتحكم بتنظيمه الاجتماعي ووجوده اليومي، وتجعل وعيه يتوضع في نقطة محددة وموجها نحو الهدف الذي ترسمه الدولة ومؤسساتها.
ويشير إلى هيمنة الآلة الصناعية الكبرى والاتجاه الاستهلاكي الساحق الذي نجح في نزعه من الذوبان داخل تياره المتمكن، بحيث أصبح الإنسان في ظله يخضع لقوانين الإنتاج، وقيمته تتحدد بقوانين السوق والسلع.
في كل ما سبق نرى كيف أن التقدم التكنولوجي والعلمي – أو ما يسمى بالحداثة الغربية – قد دخل إلى جميع ميادين الحياة، وكيف سيطر على هذه المجالات، وأصبح الإنسان في ظلها يشعر بالاغتراب، وابتعد عن ذاته، وأصبح شيئا من الأشياء، وأصبحت قيمة الإنسان تقاس بما ينتجه من سلع ومنتجات، بل أصبح الإنسان وقيمه يخضعان لقوانين السوق والعرض والطلب، ومن هنا فقدت القيمُ معناها، وأصبحت خالية من أي معنى، وأصبح الإنسان يخضع لسلطة الآلة، وأصبح ترساً فيها، وكلما أنتج وزاد في الإنتاج زادت قيمته؛ ومن ثم شعر الإنسان بالاغتراب والبُعد عن جوهره الحقيقي، وأصبح كل شيء في مجال الحياة الاجتماعية يخضع للتقدم التكنولوجي؛ حيث أصبحت القيم مثل السلع، وتقاس بمقياسها وبوسائلها نفسها، وهنا ظهرت أزمة الإنسان المعاصر في ظل حضارة صناعية لا تعترف إلا بالماديات والبعد عن الروحانيات، وأضحى الإنسان يشعر بالاغتراب والتشيؤ، وأصبح مثله مثل الأشياء المادية التي تخضع لقوانين العرض والطلب.