وليد العبري
هناك حقيقة سيكولوجية لا يمكن إنكارها إلا عن جهل – كما يقول "والتر ستيس" – وهي أن الإنسان تعرض له في حياته خبرات غير عادية يمكن أن نصنفها بأنها "خبرات دينية" – وهو يسميها في أعلى صورها باسم "الخبرة الصوفية" – وهي خبرات نلتقي بها في آداب الأمم جميعًا حتى أكثرها تحضرا. هذه الخبرات تجعلنا نتساءل باستمرار عمَّا إذا كان هناك – في هذا الكون – وجود روحي أعظم من الإنسان، وهو الذي تتطلع إليه الديانات المُختلفة للجنس البشري؟ وإن صح وكان هناك مثل هذا الوجود الروحي، فما علاقته بالإنسان؟ وما هي علاقته بالكون بصفة عامة؟
وهذا ما ناقشته الباحثة أمل مبروك في مقالها المنشور بمجلة "التفاهم" وأضافت أن التفسيرات المختلفة لنشأة الدين تفترض سلفًا وجود هذه الخبرة الدينية، وتعني بذلك الموقف الذي يجد فيه الإنسان نفسه مدفوعاً إلى التساؤل عما إذا كان هناك وجود روحي متعالٍ إنها – الخبرة الدينية – إحساس متأصل في أعماق الإنسان، بحيث تصبح محاولة انتزاعه، محاولة يائسة بقدر ما هي عميقة.
هذا الإحساس يكمن في أعمق أعماق كل قلب بشري، بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان، وكما لاحظ "رودلف أوتو" بحق، فإن الإحساس هو واقعة نفسية، لا تنشأ عن أي إرادة أو تصميم مسبق، والعكس هو الصحيح تمامًا؛ ذلك لأن الإنسان يجد نفسه تحت سلطان هذا الإحساس دون مقدرة على توجيهه أو التحكم فيه. والطابع الانفعالي غير العقلاني الذي تتسم به هذه الخبرة بالمقدس – كما يقول "أوتو" – لا يمكن التعبير عنه بلغة الواقع المعاش ومفردات التجارب اليومية، فهذا أمر في غاية الصعوبة.
الخبرة الدينية، إذن، ليست ظاهرة يمكن مراقبتها ووصفها من الخارج، وإنما هي أمر ذاتي يختبره الفرد بنفسه؛ ولا يستطيع أن يتعرف عليه إلا بالتنقيب في ذاكرته وسيرته الذاتية، والاستماع إلى شهادة الآخرين الذين عبروا عن خبراتهم. وهو لا يختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون أخرى؛ بل يتعرض له الجميع ولكن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معه بدرجات متفاوتة أيضاً من القبول والاعتراف.
ولإبراز مفهوم الخبرة الدينية، سوف نشير هنا لموقف – متباين – لاثنين من المفكرين اللاهوتيين في مجال دراسة "الخبرة" وعلاقتها بالأسطورة والدين. وهما: "رودلف بولتمان" الذي نظر إلى مسائل العقيدة المسيحية نظرة نقدية، بغية التأكد من صحتها؛ واستبعد الطابع الأسطوري من العهد الجديد، وحاول تفسيره على نحو وجودي. وذلك من خلال مشروعه الـ "ديميثولوجي" الذي وجد فيه بداية لإعادة تكوين العقل المعاصر على نحو يخلصه من الأسطورة التي مازالت تهيمن على تفكيره في عصر العلم.
أما الثاني فهو "ميرسيا إلياد" الباحث في تاريخ الأديان وعلم الأساطير، الذي لفت الانتباه إلى أنَّ الأسطورة هي من أهم الاكتشافات في القرن العشرين، وأن الإنسان مازال يحمل بقايا ميثولوجية في شعوره، يحياها في وجدانه وفي أحلامه. ومن خلال الأساطير، تناول "إلياد" مشكلات شغلت الإنسان في الأزمنة القديمة – كما في الزمن الراهن – ومنها: الألم والقلق والموت. كما قدم أيضًا أبحاثاً عن الزمان والتاريخ، وعن المقدس والدنيوي، وتحدث عن الحنين إلى الفردوس، والرغبة في تجاوز ما هو بشري، لينتهي إلى أنَّ الأسطورة تكمن في لا شعور الإنسان الحديث؛ وهي تفعل فعلها في تفكيره، وفي سلوكه دون أن يُدرك ذلك.
كانت نقطة الانطلاق الأساسية في مشروع "بولتمان" هي اتخاذه من النقد منهجاً، ومن العقل أداة لهذا المنهج. فقد اتجه إلى دراسة منهج "نقد الشكل" وطبقه على العهد الجديد مستخدمًا في ذلك منهجاً تحليليا مقارنا، يربط من خلاله بين التعاليم الواردة في الأناجيل وأصولها في اليهودية والهيلينستية؛ ويحدد التشابهات والاختلافات بين كتاب الإنجيل والوقوف على أهم الإضافات التي ربما قد تكون أضيفت إلى المحتوى الأصلي.
ولعل السبب الرئيسي وراء اعتماد "بولتمان" على منهج "نقد الشكل" أنه رأى أن هناك الكثير من مصطلحات الأناجيل غير قابلة للتطبيق بشكل فعلي، وغير جديرة بإيصال فحوى الرسالة الدينية الحقيقية إلى قلوب وأذهان النَّاس؛ وذلك بهدف جعل النص الديني قابلاً للفهم من قبل الإنسان المعاصر، الذي لم يعد يفهم ما يقوله العهد الجديد.
إذن، ماذا يتعين على اللاهوت والتبشير المسيحي أن يفعل أمام رفض الناس المعاصر لأسطورة العهد الجديد؟ يرى بولتمان أن الرؤية الأسطورية للعالم لا تنطوي – في حد ذاتها – على شيء يتوقف على المسيحية وحدها دون سواها، فهذه الرؤية الأسطورية عن العالم، ليست فقط في التراث السابق على المسيحية والذي وجد عند اليهودية والغنوصية، بل أيضًا في التراث اليوناني وغير اليوناني السابق عليهما.
إن نظرة فاحصة يلقيها الإنسان على مسيرة حياته وبنية مجتمعه، توضح أنه مازال يعيش في عالم ثنائي من الخيال والغيبيات. وهو – في وجوده – أسير لأساطير ومحرمات ومُقدسات تتناول كل مقومات هذا الوجود، وإنه مازال يعاني من تسلط واستبداد أفكار أشخاص تفصله عنهم مئات السنين. ويندر أن يتساءل أحد: لماذا وصّف ذلك الشيء بالحلال والمُقدس وذلك الشيء بالمدنس والحرام؟ لماذا اعتبر هذا المكان وهذا الجبل وذلك الحجر مقدساً في حين وصف غيره أو وُصفت ظاهرة طبيعية كونها مجردة من القداسة.
كشف "ميرسيا إلياد" عن الكثير من الأوهام التي تعاني منها بعض المجتمعات، والتي يجب نزعها من الرؤوس التي تعشش فيها؛ من غيرها من الأساطير الكثيرة التي يجب تعريتها من زمن طويل. وفي إطار ذلك، بيَّن معالم الحدود لكثير من الأمور التي تعرض وجودها تحت عنوان "مقدس"، بينما هي – في واقع الأمر – تنبع من ميثولوجيا ابتكرها الإنسان عبر تاريخيه؛ وجعلها قيدا على فكره وحريته. وفي كتابه "المقدس والدنيوي"، انكب "إلياد" على تحليل أشكال الخبرة الدينية، ونجح في إظهار محتواها وبيان خصائصها النوعية. وسعى إلى تقديم ظاهرة "المقدس" بكل تعقيداتها وفي تعارضها أيضًا مع ما هو دنيوي أو مدنس.
يقول: "كيف يمكن للنفس البشرية أن تتحرك دون الاقتناع بوجود شيء حقيقي لا يمكن إنقاصه في هذا العالم؟ كيف يمكن للشعور أن يبدو دون أن يضفي دلالة حقيقية لتجارب الإنسان؟ إن الشعور بعالم حقيقي وذي معنى مرتبط – أساسا – باكتشاف المقدس. ومن خلال خبرة المقدس أدركت النفس الفارق بين ما يكتشف على أنه حقيقي وذو معنى قوي، وبين ما هو دنيوي أو مدنس ومجرد من كل خصائص القداسة.
إن القراءة تسقط الإنسان خارج حدود شخصيته وتدخله في إيقاعات أخرى؛ وتجعله يحيا في تاريخ آخر. وهكذا – رأى "إلياد" – أن الإنسان الحديث بوسائله المتعددة يسعى باستمرار إلى الخروج عن تاريخه، ويبذل الجهد لكي يحيا إيقاعا زمنيا يختلف، كل الاختلاف، عن الزمان المألوف. وهو – إن يفعل ذلك – يستعيد مرة أخرى، دون أن يفطن، السلوك الأسطوري.
وخلاصة القول، إن الإنسان حاول – من خلال خبرته – أن يتطلع إلى الوجود الروحي الذي هو أعظم منه، والذي ينظم علاقته بالكون بصفة عامة؛ والذي تنحو إليه الديانات المختلفة. واندفع – بقوة الإحساس المتأصل في أعماقه – إلى خبرة المقدس التي لا يُمكن التعبير عنها بلغة الواقع المعاش، ومفردات التجارب اليومية؛ فخلق "ميثولوجيا" تجعل هذه الخبرة مشتركة مع الآخرين.
