يهود المنطقة بين وعود المستَعمِرْ وخذلان العَرَبي

بسام الكلباني

شهدت أوضاع اليهود في البلاد العربية منذ مطلع القرن الفائت تبدلات جذرية خلّفت آثاراً عميقة في مصير تلك الشريحة في المجتمعات العربية، إذ تكشف وقائع المجتمعات العربية، والتي هجّرت يهودها أو هجرها يهودها عن عجز عميق في توفير أجواء الاحتضان الاجتماعي، وعن قصور بيّن في تنزيل مبدأ التعارف المستند إلى المنظومة الخلقية الإسلامية في الواقع وعن العلاقة التاريخية لليهود بهذه المنطقة.

يذكر الباحث التونسي عز الدين عناية في مقالته "يهود البلاد العربية: قراءة في سفر الخروج الحديث"، المنشور في مجلة التفاهم، أنه بموجب الصراع العربي الإسرائيلي المستفحل طيلة القرن الفائت والممتد إلى عصرنا الراهن، بات المخيال العربي المعاصر تحت وطأة أشكال شتى من التداخل والتضارب تجاه اليهود واليهودية، ما جعل النظر إلى أوضاع تلك الجماعة يأتي مشوباً بتلك الأجواء، إذ ترافقت القطيعة التي حصلت بين الشعوب العربية وشرائحها الاجتماعية اليهودية، مع تردٍّ لافت للنظر إلى أتباع تلك الديانة وإلى أصول تلك الديانة، استعاض فيها الفكر بأحكام مرتبكة، غالباً ما أتت مسكونة بالهاجس السياسي.

لقد ناهز عدد اليهود في البلاد العربية عشية تأسيس دولة إسرائيل 850 ألف نسمة؛ حيث بلغ العدد نحو 210 آلاف في المغرب الأقصى الواقع تحت الاحتلال الفرنسي، و50 ألفاً في مراكش الإسبانية وطنجة، و140 ألفاً في الجزائر و110 آلاف في تونس، و40 ألفاً في ليبيا، و130 ألفاً في العراق، و80 ألفاً في مصر، و50 ألفاً في اليمن، ونحو ع20 ألفاً في سورية ولبنان، بينما توزع نحو خمسة آلاف يهودي بين حضرموت والبحرين والسودان، لكن تبقى أعداد أخرى من اليهود أغفلها الإحصاء تقدّر ما بين 15 و25 ألفاً، إلى جانب تجمع هام من اليهود استوطنوا فلسطين بلغت أعدادهم مع انتهاء فترة الانتداب البريطاني 625 ألفاً.

مثّلت وعود عالم الأنوار الغربي لليهودي العربي أملاً كبيراً في الخروج من وضعية "الذمي" التي طالما أرهقته، وقد تفاقم ذلك التناقض الاجتماعي لتلك الشرائح مع بنية الاجتماع العربي ببسط الاستعمار الغربي نفوذه على مجمل الأقطار العربية، مما زاد من تأزم البناء الاجتماعي ورسّخ عجزه عن استيعاب شرائحه.

ففي مستوى أول شكل تولي القنصليات الأجنبية مهام حماية اليهود في الدولة العثمانية، وما تبعه من منح امتيازات لفائدتهم، أملتها الدول الغربية، سبباً في إحداث شرخ بين اليهود وباقي مكونات المُجتمعات العربية؛ فضلاً عمَّا تبعه – في مرحلة لاحقة – من إلحاق تلك الجماعة بالدولة الاستعمارية، بعد منح أفرادها جنسية الدولة المستعمِرة، فكان كلما احتدَّ الصراع بين الدول الاستعمارية والدول الرازحة تحت نيرها؛ طلباً للاستقلال والحرية، ازداد عمق الهوة بين الأكثرية المسلمة وجموع الذين هادوا، بسبب انخراط اليهود في تحالف مصيري جنب المستعمِر، شايعوا فيه سياساته وأقروا له بالدور الفاعل في تحضير الأقليات وتحريرها، وذلك شبيه جداً بالتحالفات التي تمّت بين عرب الشام مع عرب نجد والحجاز في فترة الفتوحات الإسلامية والتي قدم إليها عرب الشام المسيحيون بأنفسهم طمعاً في التحرير من طغيان الروم.

إلّا أنَّه وإن حصلت بعض المشاركات المحتشمة من جانب اليهود، بالانضمام إلى التنظيمات اليسارية والنقابية العربية زمن الحقبة الاستعمارية؛ فإنِّها لم تعبر عنَّا لثقل الأكبر داخل تلك التجمعات؛ بل أتت معبرة عن خيارات ظرفية ومصلحية معزولة، على غرار ما حصل في المغرب حيث كان مؤسس الحزب الشيوعي يهودياً، إلى جانب ضم الحزب في صفوفه خلال عام 1948م خمسمائة يهودي من جملة ستة آلاف من أعضائه، ولكن في العموم لم يتحمس اليهود إلى ثورات تلك البلدان العربية وانتفاضاتها، عندما كانت تتطلع إلى نيل حريتها واستقلالها وهو ما جعلهم يرافقون المستعمر عند رحيله، ورغم ذلك لم تشهد البلدان نزوحاً تامًا ليهودها، وإن تقلصت الأعداد إلى بضعة آلاف.

على صعيد الصحافة، فقد لعب بعث الصحف وإنشاء الجمعيات دوراً بارزاً في بلورة الوعي السياسي، وفي نشر الإحساس بوحدة المصير بين يهود العرب، وشهد التحمس للحس القومي اليهودي وللفكر الصهيوني بين يهود تونس وليبيا تطوراً فاق نظيره في الجزائر، ويعود ذلك الخفوت في الجزائر إلى ربط اليهود مصيرهم بمصير الدولة الفرنسية، ما جعل الهيئة الحاخامية في جزيرة جربة في تونس تعرب عن تعاطفها مع الأفكار الصهيونية.

قبل حلول القرن التاسع عشر، كان مجمل يهود البلاد العربية ممن احتضنتهم الحضارة العربية الإسلامية، سواء أكان مأتاهم من الأندلس، أم ممن كان مقامهم في بلاد المغرب أو في المشرق العربي، أو في أرض اليمن، فعلى سبيل المثال، كان يهود دمشق في بداية القرن التاسع عشر ثلاث طوائف: الربانيون والقرائيون والسامرة، يتحدرون من أسر معظمها من أصول عربية، وما تبقى منها تعود في أصولها إلى مدن ومناطق عثمانية، أو نالت تسمياتها من الحِرف التي عملت بها، والقليل منها كانت من أصول سفاردية أو أشكنانية.

وبشكل عام كان يهود البلاد العربية بعد الاستقلال متنوعي المصائر متشابهي الحصائل. ولكن لا ينبغي أن نغفل أيضاً أن خروج اليهود من البلاد العربية ما كان حدثاً دائماً جراء تشكّل ثقافة طاردة، أو بموجب آثار الصراع العربي الإسرائيلي، كما قد يتبادر في الأذهان، بل حصل أيضاً في نطاق سعي جموع واسعة من الشرائح اليهودية لتحسين أوضاعها المعيشية خصوصًا من عامة اليهود وبسطائهم. فكانت الطائفة اليهودية التي تربطها أواصر دين وأوهام عرق جامع مع أبناء ملتها في الخارج أكثر قدرة على الإقدام لخوض غمار تلك التجربة.

لم يبق من يهود البلاد العربية – في الوقت الحالي- سوى بضعة آلاف يتواجدون في المغرب وتونس وبضعة مئات متناثرين بين عدة دول، إذ غدت أحياء الملاح في المغرب والحارات في تونس معالم سياحية لا غير بعد أن كانت تعجُّ بساكنيها، ولم يبق من جملة البِيَع اليهودية المنتشرة في المغرب سوى عشر منها تفتح أبوابها لروادها وتقام فيها الشعائر، وكانت إقامة المتاحف اليهودية المغربية من المبادرات الرمزية الفارقة في العناية بالثقافة اليهودية في البلاد العربية. هذه المبادرات التي اتخذها المغرب لم تشفع إلى حد الآن في استرداد ثقة اليهودي، أو في إغرائه بالإقامة الدائمة، وإن نجحت في دغدغة رغبة السياحة لديه. فما أحوج العالم العربي إلى استرداد كافة هوياته التي فقدها: على الصعيد الثقافي والتاريخي والجغرافي والتي لم يحسن التعامل معها ولم يدرك قيمتها إلّا بعد الفقد.

 

أخبار ذات صلة