بسام الكلباني
إنَّ المتأمل في تاريخ العبادات الإنسانيّة يعلمُ أن تعدّد أشكال العبادات وطقوسها عبر التاريخ، من مظاهر عبادة الطبيعة وأرواح الأسلاف والحيوانات يعلم أن تلكَ العبادات ليست نزوة أو انحرافاً عابراً بقدرِ ما هي تعبير عن تجربة إنسانية وإحساس قديم بوجود قوّة عاقلة خلف هذه المظاهر قادرة على حماية الإنسان ومدِّ يد العون له عندما تجتاحه مشاعر الخوف والضعف، وأنماط العبادة هذه لم يكن أتباعها يقصدون بها الإساءة إلى أحدٍ بقدر ما كانوا يبحثون عن ملجأ يلوذون إليه على قدر وسعهم البشري.
يذكر الكاتب والباحث الأردني عامر الحافي في مقالته بمجلة التفاهم والمعنوَنة بـ"العبادات في الأديان الطوطمية إلى التوحيد" أن الإنسان احتاج إلى صورةٍ ماديةٍ ملموسة ينطلقُ منها، فكانت السماء الجهة التي توجّهَ إليها في عبادته، ظنّاً منه أنَّها مقرُّ عالم الآلهة التي أوجدت العالم. يقول دراز: "ليس هناك دين قد وقف عند ظاهرة الحس، واتخذ المادة المشاهدة معبودة لذاتها، وإنَّه ليس أحد من عبّاد الأصنام والأوثان كان هدفَ عبادتهِ في الحقيقة هياكلها الملموسة، ولا رأى في مادتها من العظمة الذاتية ما يستوجب لها منه هذا التبجيل والتكريم، وكل أمرهم هو أنّهم كانوا يزعمون أن هذه الأشياء مهبطُ لقوّةٍ غيبية، أو رمز لسر غامض، يستوجب منهم هذا التقديس البليغ".
لقد قدّمت العبادة الغذاء الروحي والعزاء النفسي للإنسان منذ القدم، وعمّقت لديهِ الإحساس بالضمير والرقابة الإلهية، مما دفعه إلى تقويم سلوكه وتهذيب أخلاقه، وقد أسهمت العبادات الجماعية في تنمية الشعور بقيمة المساواة بين الناس جميعاً، فهم في شوقهم وضعفهم وضراعتهم، ودعائهم وابتهالاتهم إنما يعبرون عن المشترك الجمعي فيما بينهم، ولهذا فقد وثّقت العبادة العلاقة بين عواطف العابدين ومشاعرهم وعمقت الإحساس بالمحبة والرحمة، فالعبادة هي وسيلة تطهير نفس الإنسان من البغضاء والعداء، وهي التي تؤدي بالبشرية إلى الوحدة الشاملة، ولا ينبغي الإغفال عن حقيقة أثرِ العبادات في تطوّر العلوم والمعارف الإنسانية، فعلم الفلك – على سبيل المثال – ما كان له أن ينشأ دون مراقبة السماء والتأمُّلِ فيها، فالبابليون هم الذين وضعوا التقويم السنوي، والأشهر الاثني عشر.
العبادات الطوطمية:
تعد العبادات الطوطمية من أقدم أشكال العبادات وعادة ما يكون الطوطم حيواناً، اعتقد الإنسان القديم بأنه أصل القبيلة وحاميها ومنقذها من الأخطار، وقد كانت تعكس الخوف الذي كان ينتابُ الإنسان من الحيوانات الوحشية، فالفهد – مثلاً – يحظى بعبادة خاصة لدى شعوب أفريقيا، كما تنتشرُ عبادة الأفعى على نطاق واسع.
عبادة المظاهر الطبيعية:
اعتقد الهندوس أن الآلهة تتجلّى في مظاهر الطبيعة، كما يمكن لها أن تتجسّد أحياناً في أشكال حيوانية أو بشرية وهم يرون البقرة محلّاً لحلول الآلهة عندهم، ورمزيّة المقدس المعبود غير مقبولة لدى غير معتنقيه، ويعبّرُ ميرتشيا إلياده عن هذه المشكلة بقوله: يصعب على بعض الناس أن يقبل تجلّي المقدس في الحجر أو في الشجر، مع أن الأمر لا يتعلق بتقديس الحجر أو الشجرة بحد ذاتها، الحجر والشجرة المقدستان لا تعبرِّان بما هما كذلك، بل لأنهما ظاهرات إليه، فهما تظهران شيئاً لم يعد حجراً ولا شجراً بل شيئاً مختلفاً كليّاً.
عبادة الزعماء:
شكّلت عبادة الزعماء والملوك – الأحياء والأموات- أهم صيغة من أشكال العبادة القبلية لدى العديد من الشعوب القديمة، ففي الديانة المصرية القديمة اعتبر الملوك الفراعنة أنفسهم أنهم أبناء إله الشمس (رع) وكانت العبادات المصرية تدور حول الفرعون، كما أنَّ كهنة بابل كانوا يؤكدون عبادة الملوك، خاصة وأنّها حققت لهم استقراراً في وضعهم السلطوي، وعند الرومان، فقد نال أول إمبراطور لهم مراسيم التبجيل التأليهي عند وفاته، وهو يوليوس قيصر، كذلك الحال عند من خلفه وهو أوكتافيان الذي نال لقب أغسطس، أي المقدس، وصنّفَ بعد وفاتهِ في عداد الآلهة.
عبادة القرابين:
القرابين هي الوسيلة الرئيسية في العلاقة بين الهندوسي وآلهته، وكانت لهم قرابين غير دموية: الشراب المقدّس، حليب البقر، زبد وعسل، أرغفة من الخبز، وكان تقديم القرابين يعدُّ إطعاماً للآلهة، وكان الهندوسي ينتظرُ مقابلاً لقربانه: "إليك بالزبدة، فأين هداياك، جئناك بالكثير من شراب السوما (حليب البقر) أيها البطل، ويدعوك الشاعر مرات كثيرة فلا تطل بقاءك بعيداً عنّا، أَوْهِ أيها الكريم".
عبادة الكواكب:
عبدَ الهندوس الشمس، واعتقدوا أنَّ مجموعة من الآلهة تتجسّد فيها، كما هو الحال مع الآلهة (سوريا، ميثرا، سافيترا، بوشان)، وكان البوشميون يمارسون نوعاً من العبادة المهنيّة، إذ يتوجّهون للصلاة من أجل التوفيق في الحصول على الصيد، فقد جاء في صلاتهم ما نصّه " أوه أيها القمر، هناك في الأعالي، ساعدني لأقتل غزالاً في الغد، أعطني لحم غزالٍ آكله، أعني لأرمي غزالاً بهذا السهم، أعطني لحم غزالٍ حتى الشبع.
يمثل الإله ميثرا تجسيداً لعبادة الشمس في العصور القديمة، فقد انتشرت عبادته في ظل الإمبراطورية الرومانية انتشاراً واسعاً تجاوز حدود إيران، كما يؤمن الكنفوشيوسيون بإله السماء، وآلهة الشمس والقمر والكواكب والسحب والجبال، كما عبد العرب القدماء قديماً الشمس (عرب حِمْيَر) وتسمّوا بها، كعبد شمس، وامرئ الشمس، وعبد الشارق، كما عبدوا أيضاً كوكب الزهرة، وهي التي عبدها الهنود باسم (مايا) والفرس باسم (ميثرا) والفينيقيون باسم (عشتروت) والآشوريون باسم (انايتيس)، وتعد الزهرة من أشهر المعبودات وأقدمها؛ لأنها – بحسب اعتقادهم- إلهة الحب والجمال.
عبادة الأسلاف
نشأت عبادة الأسلاف على أساس النظام الأبوي/ العشائري، فعند الشعوب الأفريقية القديمة كان يجري تصوير أرواح الأسلاف كمخلوقات، تقوم بحماية العائلة والعشيرة، وهذه الأرواح هي التي تطلِبُ القرابين وإبداء الخضوع، وهي قادرة على معاقبة الناس من خلال الأمراض والمصائب الأخرى، وقد عبَدَ قدماء الألمان أرواح الموتى، واتخذت عبادة الموتى شكل عبادة عائلية عشائرية للأسلاف، وكان كهنة هذه العبادة من رؤساء العشائر والعائلات، وتعد عبادة الأسلاف في الصين بمثابة المحتوى الأساسي للعبادة الكنفوشيوسية، وأصبحت المكوّن الرئيس للمعتقدات والطقوس الدينية، وكان لكل عائلة معبدها العائلي الخاص أو مصلّاها.
العبادة بين الرمزية والوثنية:
العبادة في جوهرها هي توجهٌ إلى مبدأ روحي غير مادي، فهي وإن كانت تبدأ من رمز أو جهة أو كائن طبيعي ما، فإنّها تنتهي إلى ذلك المبدأ الروحي، وعلى هذا الأساس فإنَّ الأصنام والصور التي قدّسها معظم أتباع الأديان لم يعبدوها لذاتها، بل استخدموها كوسائل فكرية للتأمُّلِ والتركيز، فلقد أدركَ الإنسان منذ القدم أن الله ليس صورة يرسمها فنان بريشته، ولا تمثالاً يصنعهُ بيديه، رغم أنّه أطلق عليه اسم الإله، وأنّه ليس محصوراً بجدران معبد، رغم أنه بيت الإله، فالرموز ليست موضوعاً للعبادة بحد ذاتها، فالهندوس لا يقصدون عبادة تمثال الإله اندرا أو شيفا أو وشنو عندما يتلون أمامها الصلوات والتضرعات، والمسيحيون لا يقولون بعبادة الصليب أو الصور والأقانيم، إنَّما وسيلة للتأمل وللوصول إلى المعاني الروحية السامية، وكذلك هو الإسلام برموزه الحاضرة، فالقبلة والكعبة والحجر الأسود هي وسائل يتعبَّدُ من خلالها المسلم ولا يقصِدها لذاتها، مصداقاً لقوله تعالى "ليس البر أن تولّوا وجوهم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين".
