زهرة السعيدية
كتب معتز الخطيب بحثاً نُشر في مجلة التفاهم بعنوان (المقاربة الفقهية للقرآن: مدخل لتأريخ النظر الفقهي) يناقش فيه أثر القرآن والرأي في نشوء وتطور المُقاربة الفقهية، والتي غلبت على العقل الإسلامي تاريخياً، فمن بين عدة مقاربات (المقاربة النحوية، والمقاربة الإخبارية، والمقاربة الفقهية) تغلب المقاربة الفقهية عند التعامل مع النص القرآني لما للتشريع واستنباط الأحكام من أهمية عند المسلمين.
المقاربة الفقهية هي دراسة النص القرآني تاريخياً ولغوياً واستخراج آيات الأحكام العملية أو الأحكام الدنيوية، ربما توجد عدة تسميات ترادف في معناها المقاربة الفقهية ولكن ليس بالمعنى الدقيق، فقد سماها المعاصرون التفسير الفقهي، وهو التفسير الذي يعنى بتفسير آيات الأحكام وبيان كيفية استنباط الحكم من الآية، لكن المقاربة الفقهية تخرج من نطاق التفسير والاستنباط لتصبح منهج تفكير يحيل إلى إقامة الأدلة وإسناد الفروع الفقهية، أما ما أطلق عليه الأقدمون "أحكام القرآن" فهو نتاج منهجية المقاربة الفقهية. وتجمع هذه المقاربة بين التفسير والفقه، فمن جهة الفقه فهي تجرد آي الأحكام عن باقِ النص وتوليها عناية خاصة، فتستخرج ما يجب العمل به من حلالٍ وحرام وأمر ونهي، مثلما فعل ابن مقاتل في كتاب "تفسير الخمسمائة آية في الأمر والنهي والحلال والحرام". أما من جهة التفسير فهي تدرس الألفاظ وتبين دلالتها على الأحكام لتُفهم من هو متهيئ لفهمها.
آيات الأحكام هي مدار اشتغال المُقاربة الفقهية، وهي الآيات التي تعنى ببيان الأحكام الشرعية والدلالة عليها، وقد اختلف الفقهاء المنظرون في فقه القرآن في عدد هذه الآيات، ويمكن إجمال هذا الاختلاف في أربع مقولات. المقولة الأولى تحصرها في ٥٠٠ آية، وأول من حددها من غير صراحة هو مقاتل بن سلمان من خلال تسمية كتابه آنف الذكر "تفسير الخمسمائة آية في الأمر والنهي والحلال والحرام"، أما أول من جزم بها صراحة فهو الغزالي وتبعه بعد ذلك آخرون. أما المقولة الثانية فتقول إنها أقل من ٥٠٠ آية، حيث قال البعض إنها ٢٠٠ آية، فيما ذهب البعض إلى القول بأنها ١٥٠ آية. والمقولة الثالثة تقول بأنها أكثر من ٥٠٠ آية، مثلما حصرها المستشرق كارسون في ٦٠٠ آية، وقسمها إلى نوعين، الآيات القانونية البحتة وهي ٨٠ آية، أما باقي الآيات فقد أرجعها إلى الفرائض والشعائر الدينية. أما المقولة الرابعة فهي مختلفة قليلا، فالقائلون بها يميلون إلى الاعتقاد بأن آيات الأحكام لا يمكن حصرها في عدد معين، وأسندوا ذلك إلى اختلاف أذهان وقرائح المجتهدين. وأرجع الكاتب أسباب الاختلاف في هذه الآراء إلى ثلاثة أمور، أولها: الاختلاف في مفهوم الحكم، فمن وسع مفهوم الحكم وجدها لا تنحصر (كابن العربي)، ومن ضيقه في الحلال والحرام فقط وجدها محصورة، ثانيها: الاختلاف في مفهوم الآية، فالآيات بالمعنى الاصطلاحي قليلة، ثالثها: اختلاف فهم الدلالة، حيث إنَّ للدلالة أنواع، منها الدلالة الأولية وفهم المعنى من خلال أول ما يتبادر للذهن عند قراءة الآية وهي قليلة، وأخرى دلالة المعنى الضمني للآية وهي كثيرة.
يؤكد الخطيب على أنَّ المُقاربة الفقهية ظهرت بظهور القرآن، فقد كان صحابة الرسول مهتمين جداً بالأحكام العملية، فدائما ما كانوا يسألون الرسول (على حسب ما وصلنا) عن أحكام تُقيم عباداتهم ومعاملاتهم، فيجيبهم القرآن مُخبراً ومُفصِلاً. وشخصياً أرى أنَّ هذا ما أشعل فتيل التفاسير ودفع الصحابة ومن بعدهم التابعين ثم تابعيهم في الاشتغال على النص من أجل استنباط الأحكام. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إنَّ هذه الاجتهادات تطورت حتى ساهمت في نشوء المذاهب الفقهية وصراعاتها الفكرية. ومع أن مقاتلا هو أول من نقل ودون معاني آيات الأحكام في منتصف القرن الثاني الهجري، إلا أن الاهتمام تعاظم بظهور المذاهب إما من أجل برهنة الحجة أو من أجل دحض حجة الآخر.
كان القرآن دوماً قطب الرحى التي تدور عليها جميع علوم الدين والمصدر الأولى للتشريع، وجاء واصفاً نفسه في عدة آيات بأنه واجب التطبيق وبأنه "تبياناً لكل شيء"، وأنه "يهدي للتي هي أقوم"، وقد فسر مقاتل والعديد من بعده التبيان على أنه تبيان للمسائل العقدية، والإخبارية، ومسائل الأمر والنهي، لذلك يمكن القول بأن الأحكام العملية كانت مركزية في تفسير القرآن، ثم نما هذا الاعتقاد وتطور من القرن الأول حتى حكم العقل الفقهي تاريخياً، ودفعه لاستنباط الأحكام من القرآن. إلى هذا الحد أتفق مع الكاتب، فلا يُمكن أبداً إغفال أثر القرآن على نشوء الصنعة الفقهية وتطورها، وهذا وإن صح إلا أنه ناقص حيث لا يمكن فصل الأثر عن الرأي عند مناقشة الفقه، ففي حين يستحيل تكون الفقه بدون القرآن والحديث، فإنه أيضًا يستحيل بالقدر نفسه تكونه من غير الرأي وإعمال العقل، ولابد أن الرأي يحكم التفسير الفقهي، ذلك لأنَّ القرآن ليس حاسماً في الأحكام حتى أنه غالباً لا يتم ذكر الآية في الفقه وإنما الحكم المستنبط.
ختم الكاتب مقاله بمثال جميل اختزل تاريخ المقاربة الفقهية والجدل حولها، وتقول الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم…..} (المائدة ١٠٦ - ١٠٨)، وقد اختار هذه الآية لأنها النموذج الأكمل لتطور الوعي الفقهي. والغريب في الأمر أن مقاتلا لم يضعها ضمن الخمسمائة آية، في حين أن الجصاص وضعها ضمن الـ٨٠ آية، وهذا دليل على تطور فهم الآية في استنباط الحكم منذ زمن مقاتل إلى زمن الجصاص. وأوضح الكاتب من خلالها الفرق بين التفسير الفقهي والمُقاربة الفقهية، فتفسيرها سهل وسلس، حيث إنَّ المُفسر سيأتي على النص ويفسره مباشرة، ولكن إذا أراد مقاربتها فقهياً فعليه دراسة تاريخ الآية، والتفاسير السابقة أولا، ثم الانتقال من الظاهر إلى المتضمن، وغالباً ما يقع الإشكال حين المقاربة الفقهية لأنها أكثر تعقيداً وتركيباً، وكثيراً ما أوقعت علماء ومنظرين في مأزقها.
