زهرة السعيدية
كتب محمد علا مقالاً بعنوان "الثنائيات في القرآن الكريم وجوانب التدافع والتكامل"، في مجلة "التفاهم"؛ ناقش فيه نماذج الثنائيات الوجودية التي ترتبط بالكون والوجود، والثنائيات الاختيارية المرتبطة بنزوات ودوافع الإنسان. كذلك تحدث الكاتب عن الثنائيات التي صنعها التاريخ وتعاقب الحضارات، واقترح أخيراً مبدأ التكامل والدافع بين أطراف الثنائيات المعقدة كثنائية الأصالة والمعاصرة، الواقع والمثالية، التجديد والواقع، لحل أزمة الفكر العربي.
ويُقصد بالثنائيات هنا الألفاظ والدلالات التي يرتبط بعضها ببعض لما يجمع بينهما من علاقات ومتقابلات؛ سواء كانت مادية أو معنوية. ذكر الكاتب في مقاله أمثلة لا نهائية على الثنائيات في مكونات الكون، منها: الذكر والأنثى، الخير والشر، النور والظلام، الروح والمادة...وغيرها. وقد اقترح أن هذه الثنائيات تعتبر المحدد الأساسي لمسار التاريخ والتقدم الحضاري وذلك بسبب دأب البشر على تحصيل الأطراف الخيّرة من هذه المتقابلات "(الآخرة، الخير الإيمان، النور …)"، وتجنب أطرافها السيئة ”المتّسمة بالمحدودية والانقطاع (الدنيا، الشر، الكفر، الظلام …)". ويُواصل الكاتب ويقول إن الإنسان وطبيعته تتكون من كلا طرفي الثنائيات، حيث لا يمكن أن يعيش حياة يسيرة إلا إذا ذاق مرارتها، ولا يمكن له أن يكون اجتماعياً إلا إذا كان منفرداً، ولا سعيداً إلا إذا عانى الهم والكرب. ما يقصده الكاتب هنا أن على الإنسان أن يعيش ويجرب الشيء وضده حتى يقترب من المثالية.
الثنائيات في القرآن
ويقول الكاتب إنه مما لا شك فيه أنَّ القرآن يقرّ بالثنائية في العديد من الآيات، منها "ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين"، فقد صور القرآن وجود الإنسان وحياته ومصيره بعد الموت في إطار ثنائي صارم ذي شقين لا يقبل أي عامل ثالث. نرى هذا التصنيف في كل تفاصيل القرآن بدءاً من ثنائية الحياة والموت مروراً بتصنيف البشر إلى فريقين، فريق المؤمنون الذين يتصفون ضرورةً بالرقة والعزة وصفاء القلوب، وفريق الكفار الذين يصفهم القرآن عادة بالضلال والذلة والقسوة وموت القلوب، وبالطبع ثنائية الجنة والنار في الحياة ما بعد الموت.
الثنائيات في القرآن تنقسم إلى نوعين أساسين؛ الأول أسماه الكاتب الثنائيات الوجودية وهي التي وجدت مع وجود الإنسان الذي لا علاقة له في إحداثها ومن هذه الثنائيات نموذج الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، أما النوع الثاني فهو الثنائيات الاختيارية وهي تتعلق بالإنسان وقيمه. يقول الكاتب إن نزوع الإنسان وتوجهاته "لم تسلم من تقسيم ثنائي صارم" لا يستطيع معها أن يوفق بين أطرافها أو يجمع بينهما. منها الثنائيات التي تتعلق بالأخلاق مثل الكذب والصدق، والصواب والخطأ. إنَّ الإشكالية في هذا النوع من الثنائيات هي أن الميل إلى أحد أطرافها يعتبر أمرا نسبيا يتعلق ببيئة الإنسان وثقافته والمبادئ التي نشأ عليها، فما أعتبره أنا صوابا ومنطقيا قد يعتره الآخر باطلا. لذلك يقترح الكاتب أن تكون المرجعية الدينية هي المحدد الأساسي لقيم الإنسان واختياراته.
الثنائيات التاريخية
نشأت الثنائيات التاريخية على غرار الثنائيات الوجودية والثنائيات الاختيارية، نتيجة "عوامل وظروف حضارية ومعرفية"، كان سببها تصادم التوجهات والأفكار المختلفة والاحتكاك بالحضارات والفلسفات الأخرى. أسهمت هذه العوامل في إذكاء الصراع بين هذه المتضادات التاريخية، من قبيل الدين والعلم، الدين والدولة، الأصالة والمعاصرة، الإسلام والعلمانية. يقول الكاتب إن الفكر العربي الحديث قد أفرط في زج هذه الثنائيات في مختلف مجالات المعرفة إلى درجة أصبحت فيها الحياة الفكرية مكسوة بصبغة متطرفة لا ترى من الصورة الكلية إلى جزءا بسيطا، ونتج عن ذلك أن أصبح العلم مثلاً مناقضا للدين، والنقل مناقضا للعقل، والعلمانية مناقضة للإسلام وما إلى ذلك. يواصل الكاتب ويقول إن الانفصال بين هذه الثنائيات لن يجد له معنى إلا في الفكر الذي "تجزأت معارفه"، ويقترح أن يكون هنالك منهج قويم تتكامل فيه هذه الثنائيات حتى نتمكن من بناء معرفة علمية وعملية.
عوامل ظهور الثنائيات التاريخية
هُناك ثلاث لحظات أساسية أدت بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى ظهور هذه الثنائيات في الفكر الإسلامي، كان أولها موت النبي محمد وانقطاع أخبار السماء؛ مما اضطر الصحابة إلى البحث عن طرق أخرى لحل الإشكاليات التي واجهوها فعمدوا إلى الرأي وهو "اختيار حُكم بناء على القواعد العامة للدين"، حدثت بعدها خلافات وأحداث تاريخية فظهرت حينها ثنائية الأثر والرأي.
أما اللحظة الثانية، فقد ظهرت مع بداية الاحتكاك مع التراث اليوناني الذي حدث في القرن الثالث الهجري حينما بدأت حركة ترجمة الفلسفة والعلوم اليونانية في الازدهار، وانتشرت إلى مختلف المدن الإسلامية على أيدي الفلاسفة وتلامذتهم، وتوسعت حتى شملت مجالات شتى، وفي أثناء ذلك حدثت "صراعات سياسية واجتماعية وحركية كلامية (نسبة إلى علم الكلام) خصوصاً في جانبه العقلي"، وبدأت ملامح الحضور اليوناني بالظهور جلياً في الفكر الإسلامي، حيث اهتم الفلاسفة المسلمون كثيراً بتوضيح مواقع الاتفاق والاختلاف مع الفلسفة اليونانية، وقد أعجب الفقهاء بالمنطق "إلى حد شرحه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية". برزت حينها ثنائية العقل والنقل، أو الحكمة والشريعة وأهم معالمها هي محاولة ابن رشد في الموافقة بين الشريعة والفلسفة في كتاب "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال"، ثم ظهر بعدها العديد من الكتابات التي تناقش هذه الثنائية.
بعد الحداثة الأوروبية وما انطوت عليه من منجزات علمية وتكنولوجية وعسكرية، وكذلك سقوط العالم العربي ضحية للإمبريالية وصدام مجتمعاتنا التقليدية مع الأفكار الحداثية. ظهرت ثنائيات التراث والتحديث، الأصالة والمعاصرة والعلمانية والإسلام التي أدت إلى إشكاليات وصراعات فكرية حتى هذه اللحظة. يعتب الكاتب على محاولات بعض المفكرين العرب في استيراد التجارب الأوربية التي عاشتها تلك الدول خلال القرون الوسطى نتيجة الصراع بين الدين والدولة دون وجود "مسوغ تاريخي أو مبرر سياسي" في العالم الإسلامي. لا أتفق شخصياً مع وجهة نظر الكاتب في هذا الشأن، فهذا الصراع بين الفريق الذي يدعو إلى الأصالة والمحافظة والفريق الذي يدعو إلى التجديد قد يكون نتيجة طبيعية ومرحلة لا بدّ منها في طريق الوصول إلى التكامل والتدافع (إذا كان ذلك ممكناً من الأساس). وكذلك لا أتفق مع الكاتب في أن الصراع بين الدين والدولة ظهر في العالم الإسلامي مع صدمة الحداثة الأوروبية، فقد عرف الإسلام هذه الصدام منذ زمن طويل جداً حينما ولى معاوية ابن أبي سفيان نفسه على السلطة السياسية. ما يمكن قوله أخيراً هو أن اقتراح محمد أركون بـ"إعداد نظرية شاملة للروابط بين الدين والسياسة من خلال النموذج الإسلامي" هو الحل الأكثر عملية لمعضلة الثنائيات التاريخية.
