التسامح في أفق الحداثة

نوف السعيدي

يُحلِّل الدكتور الحسين الإدريسي في مقاله "ثقافة التسامح القرآنية في أفق الحداثة"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، بواعث السلوك العنيف لدى بعض الأفراد من المسلمين، رغم أنَّ قيمة التسامح هي قيمة جوهرية من صلب الدين الإسلامي، ويجد أن قراءة النص المقدس التراثية قد تكون أسهمت بشكل ما في إذكاء هذه المشكلة، ويقترح في النهاية إعادة قراءة النص القرآني لإحلال قيم الإبداع والإنتاج والتواصل محل الراديكالية والعدوانية والتعصب، مُطالبا بضبط منهجي في عملية القراءة بما ينسجم مع متطلبات الحداثة، وتجاوز الطبقة الكثيفة للتراث في قراءتنا للنص القرآني، والتي تراكمت على مدى أربعة عشر قرنا أبعدتنا عن روح العصر.

 

ويُسلط الكاتب في مقاله الضوء على الجرائم الإنسانية التي ارتكبها المسلمون بحق الأعراق الأخرى، وفيما بينهم أيضا خلال صداماتهم الداخلية، أو صدامات المجتمع مع السلطة. ويحذر من جر النص القرآني لشرعنة الشرور وتبريرها، وتوظيفها بحيث تخدم المصالح الاقتصادية، والذاتية لصاحب القراءة. ويشجع على تعدد القراءات التي ستسهم في إغناء معنى النص، واستنطاقه وفق الشروط الحديثة للحياة المعاصرة.

 

فقه العبيد والإماء

نجدُ أنَّ الإسلام بشكل عام قد ضيَّق مصادر الرق، وفتح باب العتق. وقد يظن أي عقل سوي أن الإسلام بهذا يرسم الاتجاه المستقبلي فيما يتعلق بحرية الإنسان، أي محاولة القضاء على العبودية، والسعي نحو المساواة الكاملة. إلا أنك تتفاجأ بتخصيص الفقهاء أحكاما للعبيد تتضمن إسقاط بعض الواجبات عنهم مثل: الحج، والزكاة، والعمرة، والجمعة. ورفع الحدود عنهم في أمور الدية والزنى. وبالمقابل سلبهم مجموعة مهولة من حقوقهم الأساسية، كقدرتهم على التملك وحقهم في الوراثة والتوريث. أو مزاولة أنواع من الأعمال (خصوصا مما يتطلب حكما عقليا رفيعا، أو ما يأتي مع قدر من السلطة) مثل الحكم، والإمامة، والقضاء. وإسقاط أهليتهم في الشهادة، والولاية، والوصاية. وربط القرارات المتعلقة بشؤون حياتهم بموافقة أوليائهم في أمور مثل صوم النافلة، والزواج. وفي حال حدوث حمل نتيجة معاشرة الأمة فلا يلحق الوليد بالأب إلا بعد إقراره بالمعاشرة.

إنَّ المتأمل في هذه الأحكام، يرى بوضوح كيف أنها تصبُّ في مصلحة المستعبد، فهي لا تكتفي بسلب الحقوق، بل تصل لإسقاط الواجبات الدينية والحدود الشرعية التي قد تشغله عن مزاولة واجبات سيده كالصوم أو الانقطاع عن العمل لأداء الحج. إن وجود أحكام فقهية كهذه خطيرة لأنها ترسخ قيما سعى الإسلام جاهدا لمحاربتها تتعلق بالحرية، والمساواة. وهي تُشرعن الاستعباد، والظلم، وسلب الحقوق. وتشجع على إبقاء هذا المسار حيًّا.

وإذا ما حصل وعارض الفقه – الأخلاق والقيم الجوهرية في الدين، فعلينا البحث عن مقاربات أخرى. فكما يقول عدنان إبراهيم: "قبل الفقه، ومع الفقه، وبعد الفقه، تأتي المقاربة الأخلاقية الروحية... وكثير من المشاكل التي نعاني منها الآن ناجمة عن المغالاة الفقهوية"، فلا ينبغي تجاهل الرؤيا الكونية، والتصور المثالي والنهائي للمجتمع، فقط من أجل معالجة أمر ثانوي.

 

إعادة تعريف الأمة

قد تكُون هذه هي النقطة الأهم التي يطرحها الكاتب. أنه يدعو إلى إعادة قراءة النص القرآني، واستكشاف أوجهه التي تتماشى مع الحياة المعاصرة، وإعلاء القيم الإنسانية. فيقول -على سبيل المثال- إنَّ تركيب "أمة واحدة" لا يقصد بها الأمة الإسلامية بل يقصد بها وحدة الإنسانية، القائمة على التنوع والاختلافات العرقية وحتى الدينية.

الشُّعور بالتفوق والأفضلية على الأعراق الأخرى يؤدي للعنصرية، ونبذ التعددية. تسعى أديان مختلفة لوضع أتباعها في منزلة أعلى، مما قد يعني ضمنيا أنهم أحق بالامتيازات، أو أحقيتهم حتى بالحياة. أما البديل فيكون بنقد خطابات كـ"الفرقة الناجية"، والخطابات التي تركز على الفوارق الدينية والمذهبية بين الناس.

إنَّ القرآن يقف في صف الـ"إحياء" والذي يسعى -قدر المستطاع- للحفاظ على الروح البشرية؛ الأمر الذي يحفظ ضمنيا الحق في الاعتقاد والاختلاف وصون الحريات والعيش المشترك، ومنع كل أنواع القمع والإرهاب. يقول الكاتب إن الجهاد في الإسلام لا يهدف للإجبار على تغيير العقائد، وإنما وجد لأسباب دفاعية.

التسامح

يتَّفق كاتبُ المقال مع رأي ماكس فايبر، الذي يرفض النظر إلى الأديان باعتبارها نظما من المعتقدات، بل باعتبارها أنساقا لتنظيم الحياة، تعطي اهتماما خاصا للسلوكيات العملية للأفراد وللمعنى الذي يعطونه لأفعالهم.

ويقول الكاتب إن التسامح لا يمكن أن يقف عند حدود الكلام، بل يجب سن القواعد والقوانين التي تضمنها. ولا يجب أن يقف الأمر عند القبول بالآخر وحفظ حياته، بل جعله مساويا في الحقوق.

مسألة التراث الفلسفي أيضًا

لكنَّني أعيب على الكاتب اقتباسه لإيمانويل كانط: "إن الناس ليسوا متساويين في الكرامة؛ غير أنه ينبغي على المرء أن يعاملهم كما لو كانوا متساويين". فكما ينبغي محاكمة التراث الديني، يجب أيضا محاكمة ونقد التراث الفلسفي. ليست الدعوة إلى القيم الإيجابية وحدها ما يهم، بل أيضا الأساس الذي تُبنى عليه؛ فالإيمان بعدم تساوي الناس في الكرامة أساس هش، لا يشير إلى الاحترام الذي لابد أن يتوفر لتحقيق التسامح؛ إذ إنَّ التسامح يشترط وضع الطرفين على قدم المساواة دون تنازل أحد أو تضحيته من أجل قبول الآخر.

إنَّ بإمكان اللغة وحدها صناعة فارق لا يستهان به. بإمكانك أن تدعو على الكافرين بالإذلال، وتدمير أعداء الدين، أو بإمكانك الدعاء لوحدة الإنسانية، والترويج للحب الذي يقبل كل صورة على حد تعبير محيي الدين بن عربي، لتتساوى أديرة الرهبان وألواح التوراة، مع كعبة الطائفين ومصاحف القرآن. لماذا الاستفتاح بالكراهية وإذكاء نزعة التفوق وحب الانتصار، إذا كان بالإمكان الدعوة إلى القبول والاحترام المتبادل والمساواة الكاملة.. والأهم من ذلك، تقدير التنوع الإنساني الذي لا غنى عنه لصناعة الحضارة.

أخبار ذات صلة