عبدالله الشحي
يتحدث حاتم الطحاوي في مقالته المعنونة بـ"الإسلام وأوروبا والصين: العلاقات التجارية والثقافية حتى القرن السادس عشر الميلادي" عن نماذج من العلاقات التي أقامتها دولة الإسلام عبر العهود مع كل من أوروبا والصين، ويوضح كيف استطاعت هذه العلاقة خلق تأثيرات على مختلف الأصعدة.
أحدث الاتصال المُستمر بين المسلمين وغير المسلمين تأثيرات متنوعة وكثيرة، حيث تأثر المسلمون بغيرهم وأحدثوا تأثيراً على غيرهم. وكان أبرز العوامل لذلك قيام الحروب والتبادل التجاري والاتصال الثقافي المُباشر.
جدير بالذكر أنَّ التأثيرات كانت متبادلة بين الطرفين لكننا نركز هنا على التأثير من طرف المسلمين حصرا. وسوف نتناول بعض النماذج من أوروبا لكل عامل من العوامل الثلاثة السابقة، لكن قبل ذلك علينا ملاحظة أمر مهم بخصوص أوروبا، وهو أنها أكثر من أثر وتأثر بالحضارة الإسلامية؛ حيث كانت هناك مساحة واسعة للتفاعل على مختلف المستويات.
ومن البداهة القول بأنَّ سبب ذلك هو القرب الجغرافي من بلاد الإسلام، ويُمكن أن نضيف أن أوروبا أرض قامت عليها دول مسيحية كالدولة البيزنطية، وهو دين إبراهيمي مثل الإسلام، فكانت الحوارات الدينية والتساؤلات والردود تطرح بشكل مستمر. السبب الثاني هو الاهتمام المشترك لكل من المسيحيين والمسلمين بالقدس، والحروب التي قامت من أجل بسط النفوذ عليها.
تاريخ الحروب بين المسلمين والمسيحيين طويل، وللحروب التاريخية بشكل عام قضيتان مهمتان عندما نتحدث عن التأثير بين الحضارات، هما فتح البلدان وقضية الأسرى.
إنَّ التوجه العسكري في احتلال أو فتح البلدان-تسميتها احتلالا أو فتحا يعتمد على زاوية نظرك- يؤدي إلى نشر ثقافة الفاتح في البلد المفتوح، فتفرض لغة الفاتح ودينه وأسلوب حياته، ولا يشترط حدوث ذلك بالقوة بل قد يأخذ وقتاً من التفاعل والاندماج.
ومن أمثلتها التي تناولها المقال الأندلس؛ حيث قدم الدارسون الأوروبيون لنهل العلم وتعلم اللغة العربية منها، وأن أحد البابوات وهو سلفستر الثاني كان قد طلب العلم هناك.
من البديهي أن يؤثر الفاتح في البلاد المفتوحة لكن العكس قد يحصل أيضًا، يخبرنا الكاتب أن الصليبيين الذين احتلوا بيت المقدس قد تعلموا اللغة العربية ونهلوا من العرب وأخذوا من علوم الطب لديهم.
وقد قال ابن خلدون إنَّ المغلوب مولع بتقليد الغالب، ونستطيع أن نضيف أن الغالب قد يقلد المغلوب أحياناً كما رأينا، نظرًا لما قد يجد من خصائص ومزايا في المغلوب تجذبه إليه.
مثل تأثير الحروب فإنَّ الاتصال الثقافي المباشر بين أمتين يخلق تأثيرا مشابها، وما أقصده هنا هو الاتصال الذي لا يكون نتيجة حرب أو تجارة، بل للقرب الجغرافي، ويظهر دائما في مناطق الثغور والمناطق الحدودية. ويذكر الكاتب أنطاكية كمثال لكونها كانت تطل على الحضارة البيزنطية. بالطبع فإنَّ المناطق الحدودية تعتبر حلقة وصل وهي مطلعة على ثقافة الحضارتين، وتأخذ من العناصر الثقافية الخاصة بكل منهما.
ننتقل بعد ذلك للعنصر الاقتصادي المتمثل في التجارة، أي التأثير الذي يحدثه تواجد تجار من ثقافة ما في بلاد غير بلادهم. فهم يتحدثون بلغتهم ويبرزون أخلاق دينهم. ويقومون بتحريك العملات بين الأسواق.
إن هذه الأشكال من التفاعل حصلت بوجود دافعين اثنين، أولهما موجود في كل حضارة وهو رغبة الحاكم في التوسع وإدخال الجديد لبلاده وتخليد اسمه، والثاني هو خصائص الدين الإسلامي الفريد. إن أي حاكم ليطمح في بسط نفوذه فيقيم الحروب، ويريد الإفادة من التطور عند غيره فيقيم العلاقات الثقافية والتجارية، فيدفع عجلة التأثير والتأثر وفقًا لهذه العوامل. ثم هناك الدين الإسلامي نفسه والذي تميز بجملة من المزايا أهمها، أنه دين دعوة وتبشير، وحضه على الأخلاق الفاضلة، وبساطته وعدم تكلفه. فالإسلام يحض على نشر تعاليم السماء والدعوة إلى الله، بالكلمة الطيبة والجدال الحسن أولاً، ثم بالسيف مع مراعاة عدم البطش والتعدي أو التدمير من غير ضرورة، فحرص المسلمون منذ أيام الدعوة النبوية على نشره بأكبر قدر ممكن وتبليغه لكل بلاد استطاعوا الوصول إليها.
أيضاً المنظومة الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام كانت فريدة بحيث إنها عندما تتبع تسهم في جعل المجتمعات مكانا أفضل للعيش، نعم هناك وجود للأخلاق خارج الدين بحكم الحديث الشريف:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، لكن الأخلاق داخل الدين تملك قيمة موضوعية خاصة. بالإضافة إلى ما سبق فإنَّ الإسلام يتمتع بالبساطة واليسر، فلا يكلف الدخول به شيئا ولا ضرورة للمرور بطقوس معقدة أو نحوه، ولا تستلزم تعاليمه وساطة كهنوتية مسيطرة. كما أنه يتعلق بالممارسات اليومية والالتزام في كل الأمور، فليس ثمة انفصال بينه وبين الحياة.
فكل ذلك سهل على المسلمين الانخراط في مجتمعات غيرهم وإحداث تأثيرات متنوعة فيها. ولهذا التأثير دلالات عدة يمكن استنتاجها. كنا قد ذكرنا سابقا التأثر باللغة العربية ومفرداتها، ونضيف بعض ما أورده الكاتب من تأثيرات كالتغيير في العمران والبناء المشابهة لنمط العرب عندما أمر ثيوفيل ببناء قصر له مشابه لأحد القصور في بلاد الشام.
لنعرج الآن على أكبر دلالة مستفادة من هذا التأثير، وهي أن المسلمين في ذاك العصر قد تمتعوا بروح عظيمة من التسامح والتعايش جعلتهم مؤهلين لإقامة العلاقات القوية والانفتاح على حضارات غيرهم ومنجزاته. فعلى الرغم من الاختلاف في العقيدة واستمرار النقاش الديني، وعلى الرغم من النزاعات العسكرية والسياسية، فإن كل ذلك جرى إبقاؤه في سياقه الخاص بينما تم السماح للعلاقات الاقتصادية والتواصل الثقافي بأن يزدهرا.
إن بذرة التسامح موجودة في المجتمعات الإسلامية، أو بالأحرى في الإسلام نفسه بدليل الأمثلة التي طرحناها ونتائجها التي شاهدنا، وليس ثمة ما يمنع ظهورها وبزوغها مرة أخرى إن تم سقيها بالمفاهيم المناسبة وتلقينها الطريقة المنفتحة السمحة في تناول النصوص. علها تنبت شجرة الحضارة لتعود الأمة شامخة بين بقية الأمم.
