أفكار ميشيل فوكو وصراعها مع الحداثة

عبدالله الشحي

لقد عمل الأستاذ نصر الدين بن غنيسة في مقالته "من سلطة الحداثة إلى سلطة ما بعد الحداثة" المنشورة في مجلة التفاهم، على تسليط الضوء على مفهوم السلطة عند ميشيل فوكو، مخبراً أن ما طرحه فوكو لم يكن يشبه ما طرحه غيره من الفلاسفة عن السلطة، وموضحاً الفكرة العامة والمشتركة التي كانت موجودة في مسيرة فوكو كلها، على الرغم من تنوع الحقول المعرفية التي دخلها(علم النفس، التاريخ...) وكانت كلها حول السلطة. يتابع المؤلف الحديث عن الأنماط الثلاثة للسلطة التي تتجسد فيها داخل الحقائق، وعن العلاقة بين المعرفة والسلطة ويوضح أخيرا مساعي فوكو لإعطاء حلول للخروج والتغلب على السلطة.

لا يستنكف الفلاسفة من تقليب أية فكرة وتفكيكها وإعادة تجميعها وفحصها من كل الأوجه والزوايا في محاولة منهم لتوسيع الفهم البشري في كل المجالات وبدون أي استثناء، مستخدمين أشكالاً مختلفة من التحليل لأي قضية يواجهونها وحسب مناهجهم الفلسفية التي تبنوها أو اخترعوها كديكارت مثلا والكوجيتو الخاص به، أو إيمانويل كانط ونقده للعقل وهلم جرا. ولم تخل حقبة من الحقب منذ أيام سقراط من فيلسوف أو متحدث في قضايا فلسفية على أقل تقدير، وفي القرن الماضي برز اسم الفرنسي ميشيل فوكو عبر وضعه جملة من نتائج الحداثة تحت النقد والبحث والتأمل والمساءلة، كنقده وإعادة تعريفه لمفهوم السلطة وإشارته لظاهرة قولبة مهنة الطب والمعرفة الطبية بشكل يعتبره فوكو حيادا عن المسار السليم، بالإضافة لقيامه بمراجعة مفهوم التاريخ ورفضه اعتبار التاريخ مجرد أحداث سردية فقط محفوظة في الكتب.

إن المتأمل لسيرة فوكو وقصة حياته يمكن أن يجد علاقة واضحة بين ما مر به وبين الإشكالات التي طرحها، ففي سياق الصحة وعلم النفس فقد تعرض هو نفسه للعلاج في مصحة نفسية في إحدى مراحل حياته مما جره لاحقاً نحو الاعتراض على طريقة التعامل مع المجانين والموسومين بالمرض النفسي. أما فيما يتعلق بالتاريخ فعلى الأرجح أنه قد تأثر بكتابات نيتشه. لذلك اتخذت فلسفة فوكو مساراً مختلفاً قليلاً عند معالجة المشكلات وتحليل الظواهر، فهو قد عايش تجارب متنوعة مما جعله يقدم فلسفة من عمق التجربة ومن صميم الأحداث.

على أنه من الضروري أنْ أبين أنَّ فهم فوكو لم يكن أمرا سهلا بالنسبة لي، فهو طالب بالنظر لأمور عادية نظرة نقدية تكسر تأثير وطابع الحداثة فيها، بالإضافة لكونه اخترع أحيانًا مصطلحات خاصة به، وصعوبة ترجمة بعض كتاباته حسب ما اطلعت عليه في أحد المقالات المترجمة التي تقتبس منه. ولذلك أقول بأن على من يريد فهم فوكو أن يطالع أعماله كلها وينظر في تطور فلسفته وينظر في الظروف التي واجهها، وربما تكون هذه الإجراءات مهمة عند دراسة أي فيلسوف لكنها أكثر ضرورة عند دراسة فوكو.

يرى الكاتب أن فكرتنا التي نعتمدها حول العولمة لها تأثير على كيفية قراءتنا لفوكو وعلى مفاهيمه، فمن يتتبع فوكو ويرغب في دراسته عليه أولا، وبالإضافة لما وضحنا سابقاً، أن يحدد موقفه من العولمة ما إذا كان ينظر إليها نظرة تاريخية وحقبة زمنية أو إذا أراد النظر إليها كمفهوم حضاري وإنجازات متحققة، ويمكن أن نعتبر النظرتين ضروريتين بنفس القدر؛ من جهة أن الحدود المفروضة في نظرة منفية في النظرة المعاكسة. مثلاً، إذا قلنا إن الحداثة حلقة في التسلسل التاريخي نكون حكمنا على فوكو باعتباره محاولة للصراع مع مفاهيم عصره، لكن على النقيض نجد عن المفهوم الحضاري للحداثة بأن فوكو كان خطوة مهمة نحو منع أن تكون أفكارا ومسلمات محمية من النقد.

يحاول الكاتب توضيح تدخل السلطة في العلاقة بين المعرفة والحقيقة، فهو يرى أن فوكو ينكر النموذج الذي يتم فرضه لماهية الإنسان من قبل المتحدثين باسم العلم؛ حيث إن المؤسسات العلمية اليوم تصنع صورة للإنسان مبنية على أساس كون الإنسان شيئا يقبل الخضوع للبحث العلمي والتجارب وليس "إمكانية منفتحة على المستقبل". ربما يصح أن نقول إن وجهة نظر فوكو تبلورت أساسًا حول قضية التشخيص الطبي ورؤية الطب للإنسان المنحسرة باعتباره جملة من الأعضاء والأجهزة، وتبعاً لذلك فهناك حالة قياسية على الإنسان أن يكون ضمنها وإلا اعتبر مريضاً وشاذا عن الطبيعة ووجب علاجه. أتصور أن فوكو كان يقصد أن الإنسان قبل الطب الحديث كان ينظر إليه بعمومية وسياق أوسع مما ينظر إليه حاليًا، وهذا كلام سليم وناتج عن عدم وجود علم موحد للطب في العصور السابقة، فكان الطبيب غالبا فيلسوفا أو رجل دين ينظر للإنسان لا كمجرد مادة أو أداة للبحث والاستكشاف بل كان يوحدها مع نظرته الفلسفية الخاصة فيعطي تصورا أعمق وأكثر انفتاحا.

السلطة ليست محصورة بالضرورة في كونها قوة قمعية أو محاولة لفرض السيطرة بالجبر، حيث هناك أشكال مختلفة من السلطة وهي تتفاعل مع بعضها شدا وجذبا، فالأكاديمي المتعلم يملك بسبب معرفته سلطة تخوله أن يسخر سلطة الدولة للقيام بأمر ما، فالطبيب يستطيع أن يمنح موظفا إجازة أو يخفف حكما قضائيا عن شخص ما إذا قال عنه إنه مجنون. وعليه وكما يقدر الكاتب فإن السلطة لا تعني بالضرورة العنف والقمع، ويمكن أن أقول فيما أرى أن وصف الإعلام بالسلطة الرابعة صحيح تمامًا تبعًا للكلام السابق؛ فالإعلاميون اليوم يملكون القدرة على توجيه الشعوب وممارسة ضغوط على بقية السلطات(التشريعية والقضائية والتنفيذية).

إن ميشيل فوكو قد قدم مفاهيم تقليدية لكن بصورة غير تقليدية، وهذا ما يجعلني أؤيد أنه أي فوكو يعتبر حقاً ظاهرة تستحق الدراسة والبحث والنظر في أعماله وإعادة تدوير أطروحاته في أروقة التساؤل والتفكير، ولا أقصد فقط ترديد ما قاله فوكو وإعادة نشره والتذكير به، ولكن من الضروري محاولة الوقوف الجدي على المشكلات التي أكد عليها ومن ثم ربما تطبيق مقترحاته لحلها. أثق أن منهج فوكو عموماً يمكن تعميمه لاستخدامه بشكل مستمر خلال الأزمنة القادمة، هذا كله بهدف عدم السماح لأصنام فكرية بالاستيلاء على العقول بل إبقاء المجال مفتوحا نحو التجديد والنقد.

 

أخبار ذات صلة