الهرمينوطيقا: من مركزية المعنى إلى لامركزية الفهم

بسام الكلباني

يعتقد أن مصطلح الهرمينوطيقا مشتق من هرمس في اليونانية، وهو الملاك الذي ينقل رسائل الآلهة من بعضهم إلى بعض، وفي الوقت نفسه يساعد البشر – حسبما كانت تقضي به بعض الأساطير اليونانية – على فهم الرسائل الرمزية للآلهة.

وعلى المستوى الإجرائي، يبقى أرسطو أول من وظّف مصطلح هرمينوطيقا في باب "منطلق القضايا" من كتابه "الأورغانون". أمّا في القرون الوسطى فقد استعمل المفهوم للتعبير عن معنى التفسير والتأويل المرتبطين بالكتاب المقدس؛ إذ يحيل إلى جملة من المبادئ والقواعد التي يتعيّن أن ينضبط لها المفسر لأجل الوصول إلى معنى النص الديني. وتبعاً لهذا فإن مصطلح الهرمينوطيقا – في أصوله البعيدة – مصطلح مدرسي لاهوتي تقترن دلالته بذلك العلم المنهجي الذي يهدف إلى فهم وتفسير نصوص الكتاب المقدس التي تتطلب فهماً، والتي يشعر المتلقي لذلك باغتراب إزاء معناها. بمعنى أنّ الهرمينوطيقا رامت منذ البداية أن تنفذ إلى عمق "الوجود النصي"؛ لذا لم تتورط في مفهوم الشكل أو البناء اللغوي المنغلق على ذاته أثناء عملية تفسيرها للنصوص، حتى إن "دلتاي" وهو أحد أقطاب الفلسفة الهرمينوطيقية يوكد في مؤلفه "نشأة الهرمينوطيقا" أنّ فن الفهم يتمركز حول تفسير بقايا الوجود الإنساني المحفوظة في الكتابة.

إنّ مهمة الهرمينوطيقا ليست مقتصرة فقط على فهم النصوص وتأويلها، وعلى الاجتهاد في تخريج معانيها أو محاولة الوصول إلى معنىً خفي حقيقي، أو الانتقال من المعنى المجازي إلى مراد المتكلم؛ وإنما ترى أن النص يحتمل معنى بصورة افتراضية، مبرّرة ذلك بكون القراءة ليست مجرد فك شفرة للنص أو سننه، كما كانت ترى المذاهب التأويلية القديمة، وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نبرّر أن وراء الانعطاف الأساس الذي عرفه مسار الهرمينوطيقا – واستناداً إلى ما سبق – إنّما تمثّل في الانتقال من إشكال: "ما هو معنى النص؟" إلى إشكال آخر ومغاير هو: "ما الفهم؟" وبلا شك هما إشكالان يحددان التمايز القائم بين اهتمامات الهرمينوطيقا في صورتها الكلاسيكية والهرمينوطيقا الحديثة التي نحن معنيون بها في هذه المقالة.

يعتقد الباحث العياشي ادراوي في مقالته بمجلة التفاهم والمعنونة بـ "سؤال الهرمينوطيقا في الفكر الإسلامي نقلة مفهومية أم نكسة منهجية" بأن الإطار المعرفي لأصل مفهوم الهرمينوطيقا هو إطار فلسفي في المقام الأول. وعلى الرغم من أن السياق الديني والفضاء اللاهوتي هما اللذان احتضناه وأكسباه امتلاءه الدلالي، من خلال إثارة بعض قضايا المعنى والتأويل ذات الصلة بقراءة وتفسير النصوص المقدسة اليهودية والمسيحية تحديداً، فالعمق النظري والبعد الفلسفي إنما تحددا عبر جملة من المحطات التي تمثلت في التطورات الحاسمة التي شهدها الوعي الفلسفي الأوربي؛ إذ هي التي رسمت تاريخ تطوره وتحولاته كما يعتقد الحبيب بو عبدالله في كتابه "مفهوم الهرمينوطيقا".

وللاستدلال على ما ذهبنا إليه كون النظر الهرمينوطيقي مديناً في تطوره إلى البحث الفلسفي وإن كان منبته دينياً، نكتفي بالإشارة إلى أن ظهور الهرمينوطيقا إنما ترافق مع تأويل النصوص الدينية المقدسة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كما أنّ الأسئلة التي طرحت آنذاك على تلك النصوص كانت مرتبطة في مجملها بمشاكل التوفيق بين العهدين، أو بين التشريعات الإلهية ونواميس الطبيعة، أو بين الخوارق والانتظام، بل وحتى بين الأساطير الإنجيلية والوقائع التاريخية. فيما ظهرت هرمينوطيقا الأنوار في صورتها الدينية لتحقيق مسعى التوفيق بين معاني النص الديني وصورة العالم الجديدة في عصر الأنوار، وكلها ذات طابع فلسفي بامتياز.

وبلا شك فإنّ هذا التفاعل بين الديني والفلسفي في نطاق الدرس الهرمينوطيقي – عبر تاريخه – مكّن من الانتقال من الهرمينوطيقا القديمة (علم التفسير) المرتكز على وحدة المعنى الصحيح ووحدة الحقيقة اليقينية، إلى الهرمينوطيقا المعاصرة التي فتحت الفهم الإنساني على تقبل فكرة تعددية المعنى ونسبية الحقيقة.

إنّ إحدى الإشكالات المربكة في الفلسفة الغربية تبقى تلك التي طرحها إيمانويل كانط، وهو يجتهد في حل مشكلة الميتافيزيقا بخصوص مدى قدرة العقل على الإحاطة بالظواهر، ومن هنا فإن تأكيده على أنّ العقل لا يدرك إلا عبر قنوات تسبق التجربة قد زعزع الثقة شبه المطلقة بالعقل التي كان قد رسخها ديكارت وعززها التنوير. إن أزمة العقل تتجلى أساسا في نظرية فهم النص التي وضع أسسها اللاهوتي والفيلسوف فريدريك شلايرماخر، والذي يعد مؤسس الهرمينوطيقا، على أساس أنه مارس نقداً جذرياً للهرمينوطيقا اللاهوتية التقليدية، والتي لم تكن في نظره سوى تجميع قواعد في التأويل بعيدة كل البعد عن أي تأصيل منهجي من جهة، ولافتقارها للنظرية العامة التي وفقها يستقيم التأويل والفهم من جهة أخرى. وانسجاماً مع ما أبداه شلايرماخر، يرى بيتر زوندي أنه "لمعرفة نظرية الفهم عند شلايرماخر ينبغي الاعتناء بالاعتبارات المتصلة بالتطبيق الفعلي للفعل، وبمشروعه في تأسيس هرمينوطيقا جديدة قائمة على ملاحظة مواد اللغة". أي أنَّ عملية التأويل عند شلايرماخر مرادفة لـ "إعادة البناء" والتي تتخذ ثورتين اثنتين متكاملتين: تأويل نحوي؛ يتوخى فهمُ خطاب معين انطلاقا من العناصر اللغوية وطبيعة العلاقات التي تنظمها، ثم تأويل تقني نفسي؛ ومداره تلك الخصوصية أو الكيفية التي ينبثق بها الفكر من داخل الإطار الكلي المميز لحياة المؤلف (واضع النص) النفسية والتاريخية. أو بمعنى آخر: إعادة بناء تلك الحدوس الأصلية للمؤلف الذي أنتج النص؛ بالتركيز على اتجاهه ونفسيته وأسلوبه من ناحية، وظروف حياته من ناحية أخرى. وعلى ضوء هذا ينقلنا شلايرماخر في مجال البحث من ضيق مجال معرفي قديم مؤسس على مركزية المعنى إلى أفق جديد وهو مجال لا مركزية الفهم.

إذا كان شلايرماخر قد ارتقى بالهرمينوطيقا إلى مرتبة الاستقلالية الأبستمولوجية، بجعلها فرعاً فلسفياً خاصاً يعنى بكيفية فهم النصوص وتأويلها، فإن هايدجر قد أدخلها في نطاق التقصي الفلسفي ذاهباً إلى أن الفهم ليس مجرد بنية معرفية؛ وإنما يشكل واحداً من البنيات الأساسية للوجود، ومن هنا فإن الهرمينوطيقا في اعتقاد هايدجر هي نظرية الفهم نفسها؛ فإن هذا الفهم له معنى خاص عنده؛ أي هو القدرة على إدراك إمكانات الذات للوجود في سياق حياة المرء، ووجوده في العالم. لذا يصير الفهم ليس شيئاً يمكن امتلاكه والتمكن منه، بل هو شكل من أشكال الوجود في العالم، أو عنصر مؤسس لهذا الوجود؛ بحيث يمكّن من ممارسة الفهم بالفعل على المستوى التجريبي، ومن هذا المنطلق، يكون الفهم - من الناحية الوجودية – أمراً ضرورياً من جهة، وسابقاً على أي فعل وجودي آخر من جهة أخرى. مع كل هذا يقرُّ هايدجر بأن ثمة بعداً آخر للفهم، وهو أنه مرتبط بالمستقبل مما يجعل النص والخطابات ليست مكتفية بذاتها أو كاملة في نفسها؛ وإنما هي قابلة لقراءات متعددة وحمالة لدلالات كثيرة، ينتقل وفقها التأويل من طور إلى آخر، وينمو المعنى تبعاً لذلك في صورة من صور إغناء النصوص وإثرائها بحسب مقتضيات زمن تلقيها والتفاعل معها، أي أن الفهم يمكن أن يكون فعلاً تاريخياً، وهو ما يؤكد بأن الفهم مرتبط دائماً بالزمن الحاضر ولا وجود له خارج التاريخ، وأنّ المفسر له فهم خاص يرتبط بعصره، يجب ألا ينفك عنه؛ ليقوم بتفسير النص وفقاً لفهم العصر السابق.

أخبار ذات صلة