ولـيد العبري
أذنت هجرة النبي صلوات الله عليه إلى يثرب عام 622م بالانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ففي عام 623م على الأرجح كتب كتاب المدينة أو عهد المدينة بين الذين اتبعوه من المُهاجرين، وقبائل المدينة "الذين سُمُّوا بعد ذلك بالأنصار" والذين تحالفوا معه، وإن لم يؤمنوا بدعوته من أهل المدينة عربا ويهودا، وهذا ما ناقشه الباحث رضوان السيد في مقاله المنشور بمجلة التفاهم وتحدث عن تفاصيل العلاقات الداخلية، ومقتضيات "الأمة الواحدة" الموقف الواحد تجاه الخارج المعادي أو المُصادق والمُحالف.
إنّ العلاقة بين الأمة الجديدة، والمسلمين خارجها هي علاقة دينية وليست علاقة سياسية، فالاجتماع السياسي بدار الهجرة هو الأساس، الذي جرى التعبير عنه فيما بعد باسم "دار الإسلام" فليس على مُسلمي يثرب أو أمتها واجب في الدفاع عن أولئك الذين بقوا خارج يثرب رغم إسلامهم، إلاّ إذا كانوا من المستضعفين الذين يتعرضون للاضطهاد والظلم بسبب دينهم، أو إذا كان الذين يتعرضون للاضطهاد بينهم وبين المسلمين تحالفٌ أو ميثاق بحسب القرآن. وقد كان في ذلك استحثاثٌ لعدم الانضمام إلى دار الهجرة، ودار الإسلام، فتكتمل الولاية أو الولاء بينهم وبين إخوانهم في الدين والأمة.
ومع أنَّ الأمر واضح فقد استمر الاشتباه على مدى الأزمنة الكلاسيكية بشأن الطابع السائد أو الأصيل للكيان الجديد. ويرجع الاشتباه إلى أنَّ أول رئيس للدولة هو النبي مُحمد الكريم. وأقصد بأنَّ هذا الاشتباه ما كان ينبغي أن يحصل بشأن طبيعة الكيان، وهل هو ديني (أو كهنوتي) أو مدني، يأتي من أن الأمة ما كانت ذات دين واحد في أفرادها أو جماعاتها. ثم إنَّ الأمة ما اختارت نبيها في حين كانت هي التي اختارت رئيسها أو تعاقدت معه. وهكذا فهناك فرق شاسع بين الأمر الديني والأمر السياسي. فالنبي مصطفى من الله سبحانه وتعالى، والرئيس اختيار المتعاقدين أو المقيمين أو المواطنين. وقد أوضح القرآن الكريم أن الطاعة في الشأن الديني لا حدود لها، أو أنَّ القرآن والرسول هما اللذان يحددانها؛ بينما أوضح الرسول الكريم حدود الطاعة في الشأن السياسي بقوله: "إنما الطاعة في المعروف". والمعروف أو المتعارف عليه يحدده الناس أو الجماعة، أو يكون عُرفاً لا يجوز خرقه أو الخروج عليه من الحاكم والمحكومين.
بيد أن الاشتباه استمر على الرغم من ذلك كله، فصحيح أن المسلمين اختاروا رئيسهم بمحض إرادتهم، وفي تفاوض سياسي مشهود في السقيفة بعد وفاة النبي الكريم، لكنهم سموا أميرهم أو رئيسهم "خليفة"، وخليفة رسول الله. واللقب أو الوصف قرآني، والقرآن أطلقه على النبي داود.
وبذلك عاد الاشتباه مرة أخرى، فداود كان نبيًا وزعيماً سياسيًا لبني إسرائيل. وفي أثرٍ انتشر في القرن الأول فيما يبدو، حاول أتباع "مدينة السلطة" إيضاح الأمر، بالقول إن بني إسرائيل كان يسوسهم الأنبياء؛ أي أن ملوكهم كانوا أنبياء وملوكا، بخلاف ما صار عليه الأمر في الإسلام؛ فإن الرسول الكريم هو خاتم الأنبياء.
وفي الآثار المنسوبة للصحابة (وليس للنبي كالأثر الأول) حاول هؤلاء إيضاح أسباب ذهابهم لاختيار هذا اللقب لأميرهم؛ بأنه محاولة لتجنب أنماط السلطة التي كانت سائدة لدى فارس والروم، أي الملك الكسروي أو القيصري. إنها سلطةُ رحمةٍ ورعايةٍ وإدارةٍ عادلة، والأمير أول بين متساويين.
لقد غيرت ظروف القرنين الأولين علاقة الأمة بسلطاتها؛ فتيار الشورى والتعاقد ظل في المعارضة على طول الخط تقريبًا. وبعد أن كان يمسك لفترة في القرن الأول بمفاصل مفاهيم "الشرعية": الشورى والعدالة؛ تضاءل تأثيره حتى قارب الزوال في القرن الثالث الهجري. وجرى التعزي أو تمثلت المخارج بظهور الفقهاء الذين فصلوا الشأن الديني عن الشأن السياسي، وتولوا هم الشأن القضائي والإرشادي والتعليمي والإفتائي؛ في حين صارت السلطة السياسية "حارسة الدين وسائسة الدنيا".
ولنا أن نفهم ذلك كما نشاء؛ لأن التردد والتنازع على التقاسم ظل سائدا على أطراف المجالين. وكان المخرج الآخر ظهور مؤسسات غير سلطوية، أبدعت فيها الأمة وتصرفت بحسب المصالح لفئاتها المختلفة في المواطن المختلفة.
عندما ظهرت الصيغة التي حددت مهام الإمامة بأنها "حارسة الدين وسائسة الدنيا" فإن ذلك كان ناجما عن أمرين اثنين آخرين: تحديد معنى "دار الإسلام"، وما آلت إليه السلطة أو مرتكزات الشرعية وآلياتها في تحديد دار الإسلام، برزت مسألة "الوحدات الثلاث" إذا صح التعبير: وحدة الدار، وحدة الأمة ووحدة السلطة.
فلا تكون الدار حقاً دار إسلام إلا إذا كانت السلطة واحدة ومسيطرة وحدها على الأرض، والدين الإسلامي مرجعيتها العليا، ومن في الدار ومن مسلمين وذميين ومستأمنين "آمنين بالأمان الأول". وقد تحقق ذلك كله في القرنين، فحتى الأمراء الأمويون الذين هربوا إلى الأندلس وأقاموا إمارة هناك، ما جرأوا حتى القرن الرابع على إعطاء أنفسهم لقب أمير المؤمنين، فضلاً عن خليفة الله.
مع ضعف الخلافة، وقيام السلطة بمهامها عبر قرون طويلة، بدأ كأنما تغير نظام الحكم، واستقر على نحو جديد ومختلف، فكان مصير الإمبراطورية الإسلامية، مثل مصير سائر الإمبراطوريات القديمة والوسيطة. يمضي الزمن الأول، فتسقط الإمبراطورية تحت وطأة فاتح جديد؛ بيد أن المصير الأكثر ورودا هو ضعف السلطة المركزية، وانقسام الإمبراطوريات إلى دويلات.
وبقدر ما يرتبط الوعي لدى الجمهور بالزمن الذهبي الأول، يكون هناك حرص مستشرس تتبناه وتفيد منه النخب العسكرية والإدارية للاحتفاظ بالسلطة، والاستعانة بالعصبيات الطرفية أو البازغة لحفظها بعد أن تكون العصبية أو العصبيات المركزية قد استنفدت قواها، وهكذا.
وفي حدود القرن الرابع الهجري، بدا كأنما لابد من حصول تحول، إذا كان يراد للدولة الإمبراطورية أن تستمر، إنما لكي لا تفقد السلطة معناها في نظر الجمهور وتتحول إلى "دولة قوة" مجردة كما ذكر الماوردي في "نصيحة الملوك". فقد ارتأى المنظرون بعد الماوردي أن تجتمع في السلطات الجديدة أربع صفات لكي تظل الشرعية متحققة: تبادل الاعتراف بين السلطان والخليفة (لتحقيق الاستمرارية الدينية والعربية)، والكفاية (القدرة على القيام بالمهام السياسية والإدارة الداخلية)، والشوكة (القدرة على مواجهة العدو الخارجي)، والعدالة، والتي يجتمع في اعتبارها أمران: تمكين هذه الدولة السلطانية، أو تلك من الاستمرار بالخطوة برضا الرعية (الملك السياسي) كما تحدث عنه ابن خلدون، وإظهار الارتباط مرة أخرى بنموذج الخلافة الراشدة.
هل يكون هذا "الوعي الجديد" هو الذي أنتج الحركات الجهادية؟ الحركات الجهادية فيما أرى ناجما عن مخاضات الحداثة، وعن السياسات الدولية، وقد بدت لأول وهلة حركات انتحارية، مثل فرق اليسار المتطرف في أوروبا واليابان من القرن الماضي. هي تريد إسقاط النظام العالمي الذي ترى أنه طغى على الإسلام، وأنها حركات انشقاقية في قلب الدين، لذلك سرعان ما ارتدت لتضرب في قلب ديار المسلمين، غير مفرقة بين نظام ونظام، ومجتمع ومجتمع؛ لكن هؤلاء الانقساميين المتطرفين، عمدوا أخيرًا لإقامة خلافة على بقعة من الأرض، فأشبهوا بذلك حركات إحياء الخلافة، أو تطبيق الشريعة، أو ولاية الفقيه، ولذلك تخلوا عن مشروع مشابه لمشروع أهل تطبيق الشريعة أو استحضار الإمامة.
