العقد الاجتماعي العربي

نوف السعيدي

يُناقش مقال "سيرورة بناء الدولة والشرعية والاندماج الوطني في بلاد المغرب" لكاتبه امحمد مالكي، المنشور في مجلة التفاهم إشكالية الاندماج الوطني في البلاد المغاربية بعد نصف قرن من الاستقلال. ويدرس تطلعات جيل الشباب الجديد ممن لم تعد تقنعه الآيدلوجيا الوطنية المبنية على التاريخ والنضال. ففيما آمن آباؤهم بالقادة الوطنيين، وفرصة الدولة الناشئة في تحقيق مقومات العيش المشترك، فإنَّ أبناءهم لم يرثوا سوى الخيبة، وأنظمة تكرس الحكم الفردي، وبالتالي دولة يشك في شرعيتها (نعني بالشرعية قبول الأغلبية العظمى من المحكومين لحاكمهم).

يرجع الكاتب أحد أسباب فقدان الاندماج الوطني (بين شرائح الشعب، والشعب مع الدولة) في بلاد المغرب إلى الكيفية التي اكتسبت عبرها هذه الحكومات شرعيتها. يفرق الكاتب في مقاله بين نوعين من الشرعية: شرعية الإنجاز، وشرعية الأصول. تعني شرعية الإنجاز أنَّ الأحقية في حيازة السلطة تأتي مسلمًا بها بفعل الإنجازات المقدمة، وليس بفعل الاختيار المبني على الدستور وهو ما تعنيه شرعية الأصول. أي اختيار السلطة الحاكمة وفق نصوص الدولة المدونة سلفا والمتوافق عليها شعبيا. "كل النظم غير المؤسسة على الشرعية العقلانية تجد في التلاعب بالحديث عن الإنجازات وسيلة فعَّالة لتجديد القبول وإعادة إنتاجه"، وهذا تماماً ما حصل في بلدان المغرب العربي. لقد نظر للنخب القائدة للنضال الوطني، باعتبارها المستحقة لحيازة السلطة، هذا الاتفاق الضمني، غير المبني على حق أصيل (أو بشكل أدق غير المبني على اتفاق سالف مكتوب)، أي أن الحاكم لم يحظَ بالسلطة وفقاً لطرق كان المجتمع قد حددها سابقاً في الدستور (الدستور الذي لم يكن قد ولد بعد على الأغلب)، نقول إن هذا الاتفاق يكشف مع الأيام عدم جدواه خصوصًا مع تماهي القوى الحاكمة مع الدولة، ومع استغلال هذه القوى لسلطاتها من أجل تثبيت وجودها. نقول إنَّ هذه الطريقة المرتجلة في اكتساب السلطة سريعًا ما تخبو شعبيتها، خصوصا حين تتحول مع الوقت إلى سلطات ذات طابع شبيه بما ثار الناس أساساً عليه.

إن الوظيفة الأولى للحكومات - وسبب تأسيسها في المقام الأول - هي صيانة العيش المشترك. أي تكفل الحكومات بتوفير المساواة والحماية للجميع، فيما يقبل المجتمع الإنساني بالخضوع لسلطة مركزية عبر نوع من الـ "عقد الاجتماعي". وحين تخل الحكومة بواجباتها، أو – أسوأ من ذلك – تقوم بنقيض الدور المنوط بها، فإنه يأتي دور المجتمع المدني في مواجهة تسلط الدولة، ودعم القضايا الحقوقية. حتى إذا ساءت الأمور أكثر لم يعد بالإمكان سوى إصلاح الأمور بثورة جديدة لا تضمن تبعاتها. وهو ما حدث لاحقاً، للحكومات التي جاءت ما بعد الاستقلال.

مرت دول المغرب العربي بصراعات متشابهة، من الاستعمارات، والانقلابات. خاض أفراد تلك المجتمعات ثورات ليجدوا أنفسهم في النهاية أمام أنظمة تكرس الحكم الفردي، تقيد الحريات العامة، أمام دولة تتماهى مع الحزب الحاكم، وتصبح في خدمته. وفي حين يمكن لذاكرة المجتمع أن تغفر حين تأخذ التاريخ القريب في الحسبان، إلا أن الجيل المعاصر الذي لم يشهد مرحلة ما بعد الاستعمار والانقلابات – والذي يشكل بالمناسبة ثلث التركيبة السكانية للوطن العربي – والذي لم تعد تقنعه الإيدلوجيا الوطنية، والإيدلوجيا التاريخية، والإيدلوجيا الدينية، راغب في صياغة عقد اجتماعي جديد بمتطلبات عصرية تأمل الانتقال من التقليدية، ومن الاتفاقات الضمنية، الانتقال من القيم الدينية المؤدلجة (نعني بذلك القيم السياسية المستندة إلى الدين)، إلى الموضوعية، وإلى القيم العقلانية، والاتفاقات المدونة.

يقول الكاتب " بلاد المغرب وإن اشتركت مع نظيراتها في المشرق في مجمل الإشكاليات السياسية والاجتماعية... فإنها ما زالت محتفظة بحد أدنى من تلاحم مكوناتها، ومحافظة على قدر يسير من ولائها للدولة" وفي حين أنه يصعب قياس الولاء، إلا أن ما أراه شخصيا فارقا في التجربة المغاربية هو أن تشريعاتها متقدمة بالفعل، وكلما كانت الدولة مواكبة لتطلعات الشعب، كان الشعب أقرب للإيمان بها والاعتراف بشرعيتها. فالجزائر مثلا لا تسمح بتأسيس الأحزاب على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي. الدستور المغربي يتبنى كافة حقوق الإنسان، كما هو مُتعارف عليها عالميا، بكل آليات حمايتها وضمان ممارستها. أعني أنها قد تكون أقرب الأمثلة على امتلاك مقومات الدولة الحديثة من ناحية تشريعية، ومن ناحية الحريات، خصوصاً أن الأفراد لهم دور فاعل، ولهم حق في التمثيل السياسي (التمثيل الحقيقي الذي يتضمن القدرة على صناعة القرار) لكنها في المقابل تُعاني غياب العدالة الاجتماعية، وسيادة القانون وترضخ تحت الفساد مقارنة بدول الخليج مثلاً.  هذا ما قد يجعلها فاشلة إلى الآن في توطين مفهوم الدولة الحديثة.

جيل الشباب الجديد جاهز لصياغة نوع جديد من العقد الاجتماعي، النوع الذي يضمن للجميع عيشا مشتركا، وفرصا متساوية، النوع المبني على قيم موضوعية وعقلانية، وعلى توافق مؤطر ومنصوص. ورغم أن الكاتب يشدد على الدور الذي لعبه الاستعمار في تفكيك المجتمع، ومحاربة اللحمة الوطنية، إلا أنَّ هذا أمر – إن صح – فقد انقضى عليه حوالي نصف قرن. ومن الواجب الاعتراف – في المقابل – أنَّ الوعي السياسي والمدني لدى الشعوب المغاربية، يعود – وإن لم يكن كليا، وإن لم يكن بصورة مباشرة – إلى الاستعمار، وأن اعتراف وقبول الجيل الجديد للحكومات يقرره أداء هذه الحكومات لضمان حقوق الشباب وتلبية حاجاتهم الأساسية، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بوجود الكفاءات الإدارية، هذه الكفاءات التي تأتي من صفوف الشباب أنفسهم، الشباب الذين يتمتعون بالتعليم والمهارات والخبرات، والقدرة على الانفتاح والتفاعل مع العالم. حققوا ذلك إما بفرص الابتعاث (إن تحدثنا عن الشعوب الخليجية)، أو الهجرة، أو ببساطة عبر التفاعل في الفضاء الإلكتروني.

 

أخبار ذات صلة