العلاقة بين استراتيجية المشتركات القيمية واستراتيجية دار الإسلام لتحقيق السلام العالمي

هنية الصبحية

تعددت المشكلات والقضايا التي تعاني منها البشرية فمنها: تفشي النزاعات الدولية من خلال الحروب الداخلية والإقليمية التي تجتاح العالم، وتهديد البيئة الطبيعية بالتلوث والتصحر، وارتفاع درجات الحرارة، والانحراف في تسخير العلم والمعرفة؛ فأصبحا يسخران لتصنيع وسائل الدمار الشامل، والتدهور المفرط للقيم الروحية والإنسانية التي من بينها الاعتداءات على حقوق الإنسان الفردية والجماعية. وبالنظر إلى أزمات الواقع العربي والعالمي، والتي يمكن بلورتها في هذا التساؤل؛ لأجل تحقيق سلام عالمي، فهل يمكن للنسق القيمي القرآني ودار الإسلام تجاوز كل العوائق والتحديات التي تواجه الحضارة المعاصرة؟، كل ذلك تطرحه استراتيجية المشتركات القيمية واستراتيجية دار الإسلام. هذا ما ناقشه الباحث والمفكر المغربي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال المغرب، وتسليط الضوء عليه في - مقاله المنشور بمجلة (التفاهم)- "استراتيجية المشتركات القيمية واستراتيجية دار الإسلام".

يوضح المفكر المغربي بأن السياق المفاهيمي للمشتركات القيمية يعني: مجموعة القيم الأساسية التي يمكن أن توحّد بين الناس من مختلف الخلفيات الثقافية والسياسية والدينية والفلسفية. فثمة مجموعة قيم إنسانية مشتركة بين كل الفضاءات الثقافية والدينية في العالم، ينبغي استثمارها والتركيز عليها؛ لتكريس وحدة الإنسانية ووحدة الجوهر الإنساني. ويرى الناصري بأنه ينظر إلى القيم بأنها مشتركة حينما تكون القيمة نفسها عند الجميع أو معظم الناس أي أنها تحتمل احتمالين هما: القيم المشتركة هي القيم التي تكون لعدد كبير من البشر في حالات وأماكن مختلفة لها المعنى نفسه تقريبا من حيث التقدير والرفعة والاحترام ويبدو ذلك في أقوالهم وسلوكهم. بينما الاحتمال الثاني فيتمثل حينما تكون القيمة مشتركة عند جميع الناس الذين يمتلكون الاعتقاد أو المسوغ الكافي بأنه يستحق هذه القيمة.

كما يؤكد أن قيم المساواة والعدل والحرية والتعاون ورفض الظلم والعنف وغيرها من القيم جزء لا يتجزأ من إنسانية كل إنسان، ولذلك نجد الجوهر الإنساني حاضرا في كل التقاليد الثقافية والدينية للشعوب عبر التاريخ الطويل للإنسانية. كما يشير المفكر المغربي بأن القيم المشتركة أو الإنسانية لا تعني أن المشتركات لا بد أن تكون شاملة لجميع الناس في كل ظروفها وأحوالها وإنما تؤكد بأنها مشتركات أو عموميات كثيرة فيما بيننا ويمكن البناء عليها لتجاوز الأزمات العالمية الكبرى وصناعة حياة أفضل للأجيال القادمة.

وعلى ضوء ذلك يحدد المفكر المغربي ثلاثة معالم لاستراتيجية المشتركات القيمية، يتمثل المَعْلَم الأول في: الالتزام بثقافة المسالمة واحترام الحياة والتي تعني الالتزام بحل الخلافات بطرق سليمة تضمن العدل لكل الأطراف والسعي لتنشئة الأجيال على روح المسالمة تضمن للآخر الاحترام، كما تسعى لمنع تعذيب الإنسان بأي صورة سواء كانت نفسية أو جسمانية مما يتطلب منا الالتزام باحترام الحياة والاهتمام بها. أما المَعْلَم الثاني فيتمثل في: الالتزام بثقافة التضامن والنظام الاقتصادي العادل والمساواة، ويقوم هذا الالتزام على اعتبار الملكية الخاصة حقا يستلزم أداء واجبات تجاه الآخرين بحيث إنه يراعي حاجيات المجتمع رغم وجود مصالح ذاتية، كما يسعى لتربية النشء على قيم الرحمة والرأفة والعناية بالضعفاء والفقراء، بل ينبغي تجاوز نطاق التكافل إلى مستوى إعادة بناء مؤسسات الاقتصاد العالمي بما يحد من الاستهلاك الربحي المفرط بحيث ينقل السلطة الاقتصادية من التنافس على السيطرة إلى خدمة الإنسانية؛ لتحقيق العدالة بين الأمم. كما يقتضي الأمر احترام قيمة المساواة بحيث تضمن للأجيال القادمة ووجودها يشكل أساسا لاستراتيجية التنمية المستدامة. وأخيرا المَعْلم الأخير فيتمثل في: الالتزام بثقافة التسامح والاحترام المتبادل وبالصدق في الحياة، فيناشد هذا المَعْلم بترك أصحاب الديانات تحقير العقائد المخالفة وتشويه مقاصدها واختلاق الحقد والتعصب تجاهها، كما يطالب السياسيين والإعلاميين والكتاب أن يتجنبوا أشكال التحريف والتضليل والاحتيال فيما يقولون ويكتبون، وعليهم أن يقوموا بتربية النشء على الصدق في القول والفعل والفكر؛ فالتسامح قيمة لا يمكن الاستغناء عنها لإقامة العلاقات السليمة، وعند تحولها إلى احترام متبادل تصبح نوعية العلاقات إيجابية ومن خلالها يمكن إقامة مجتمع تعددي.

ويرى الناصري أنه لإكساب استراتيجية المشتركات القيمية فعالية، فإنه لابد من اتباع نهج ثلاثي من أجل تأسيس بعد أخلاقي لإدارة شؤون مجتمعنا العالمي. فيشير النهج الأول إلى إعلان وتشجيع الالتزام بالقيم الأساسية المتعلقة بنوعية الحياة والعلاقات وتعزيز الإحساس بالمسؤولية المشتركة. أما النهج الثاني فيشير إلى التعبير عن هذه القيم من خلال الأسس الأخلاقية لمجتمع مدني عالمي تقوم على الحقوق والمسؤوليات المحددة التي تشارك فيها كل القوى الفاعلة العامة والخاصة والجماعية والفردية. والنهج الأخير ينتهج إلى تجسيد هذه الأخلاقيات في النظام المتطور للمعايير الدولية، حيث يسعى المجتمع الدولي لبلورة مفهوم القيم المشتركة من خلال العديد من المبادرات والمؤتمرات الدولية.

كما يشير المفكر المغربي أن دار الإسلام تعيش في محيط دولي تتعايش فيه مع دول أخرى وبذلك تحكمها علاقات فيما بينها بحيث تتأثر وتؤثر عليها، وبهذا فإن الشريعة الإسلامية جاءت بالعديد من القيم التي يجب على دار الإسلام أن تلتزم بها. وعليه فإن السلام الإسلامي تربطه تلك العلاقات التي تحكمها قيم العدل والمساواة والحرية وهذه القيم تأتي من قيمة كبرى تدعى الوحدانية التي تتبنى جميع القيم الأخلاقية الأخرى، فعلاقة دار الإسلام ورؤية القرآن للعالم تنبع من أصل عقائدي وهو التوحيد الذي يعتبر جوهر الإسلام والقاسم المشترك بين مختلف الأديان. وعليه يشير الناصري إلى أن الفهم السلمي والتعارفي لطبيعة علاقات المسلمين ببقية الأمم تبنى على ست ثوابت قيمية تدعو إلى التعايش السلمي والتواصل الفعلي والتعاون العملي، فهذه القيم توضح علاقة دار الإسلام بغيرها من الأمم والحضارات، وهي: المساواة، والكرامة، والرحمة، والعدالة، والتعارف، والخير العام.

وأخيرا يرى ضرورة تعزيز الوعي بثقافة السلام لتحقيق السلام والأمن والعدالة والتعاون الإنساني، وأنه لا غنى عن تعزيز ذلك من منطلق التأكيد على المشتركات القيمية التي تجمع بين مكونات المجتمع الإنساني على اختلاف الأديان والثقافات، باعتبارها استراتيجية كفيلة بأن توحد بين الناس، وأن تدفعهم نحو التفكير في حلول جماعية لتجاوز أزمات واقعهم في الحاضر والمستقبل. ولديننا ولحضارتنا وأمتنا أدوار كبرى في هذه المجالات التي تؤهلنا لها منظومتنا الأخلاقية وأعراقنا الحضارية التي يتضمنها ديننا. وما على المسلمين سوى الشراكة مع العالم والإسهام في تفعيل استراتيجية المشتركات القيمية، فالأصل أن كل ما هو إنساني فهو إسلامي، والرحابة كل الرحابة إنما تأتي من الشراكة مع مختلف مكونات المجتمع الإنساني حول تلك القيم والإسهام في صياغتها وتفعيلها، وهو ما ينقذ دار الإسلام من التشدد غير المسوَّغ، والتنازل غير المقبول في الوقت نفسه.

 

 

أخبار ذات صلة