هنية الصبحية
يناقش الباحث المغربي وأستاذ فلسفة الدين والسياسة الحديثة محمد الشيخ في مقاله – المنشور بمجلة "التفاهم"- "النقاشات الفلسفية القارية المُعاصرة حول مسألة مستقبل الإنسان ومسألة القيم في عصر الثورة البيو-تقنية"، وقد تضمن تناوله الفلسفي النبوءة بمستقبل الإنسان بين نيتشه وهايدغر، ومستقبل الإنسان على ضوء الثورة الجينية بين سلوترديك وهابرماس.
يُعد الفيلسوف الألماني نيتشه والمهتم بتنبؤات مستقبل الإنسان الخالد، إذ يصف عصر الحداثة بأنه وهن الوهن؛ حيث وضع صورتين متعارضتين للمستقبل وهي صورة البلوغ بالحداثة إلى حدودها القصوى والتي لقبها بالعهد السوقي لطريقة حياة الأمة الصينية، وحسب رؤيته يقول بأنَّها تسعى إلى تثبيت النوع البشري وجموده، وتتميز بمنتهى العدمية، مشيرا إلى إفرازها قيما أرستقراطية جديدة تتجاوز الحداثة، والصورة الأخرى تتجاوزه إلى ما بعد الحداثة، كما يؤكد نيتشيه أن ذلك يتشكل عند الأمة الأوروبية الآن بحيث تصبح تبع العصور الحديثة وهي المادة التشكيلية التي يقودها السادة والإرستقراطيون من أجل تحقيق الإنسان الأعلى. لذلك يرفض نيتشه الشعار الحديث لاسادة ولاعبيد؛ مبررا أن كل تعزيز للإنسان وتربيته يفرض عليهما توجهاً جديد للاستعباد، فيلاحظ تعدد الجوانب التي انتحاها واضطراب التوجهات التي أجبرته على أن يعي بنفسه وعياً حاداً.
ويذكر الشيخ أنَّ نيتشه أوضح في كتابه هكذا تكلم زرادشت وهو عبارة عن رواية فلسفية بطلها "زرادشت" مؤسس الديانة الزرادشتية المنتشرة في إيران، أن الإنسان الأخير أو العادي أو العدمي مثال للإنسان الصيني سواء أكان قردا متفوقاً أو قرداً أعلى وأن الإنسان الأعلى يناقض نفسه بنفسه، ويؤكد أنَّ العهد الحديث عهد وضعي ونفعي يتسم بكونه نموذجا تنميطيا، وأعتقد نيتشه أن الإنسان الصيني لن يكون هنالك أعلى منه كونه إنسانا بلا وقار وبلا آراء مُسبقة –أي بلا أخلاقيات قيمة حسب رؤيته- وهكذا أصبح الإنسان الأوروبي إنسانا باحثا عن الثروة. وقد تنبأ نيتشه بظهور طريقة حياة صينية أوروربية قائمة على ثلاث أساسيات وهي عقيدة بوذية ضعيفة، ومساواة على الطريقة المسيحية، ومُمارسة للحياة بحذر. وجدير بالذكر أنَّه وصف الإنسان الأخير بأنه مسالم ويعيش حياة هادئة، وآماله صغيرة، ويُصغِّر من قيمة كل شيء حوله، ولذلك سيعيش طويلًا، وسيظن أنه اكتشف السعادة، كما لن تكون هناك أفكار مزدهرة، وسيكون الإبداع مكبوتًا.
وقد تعددت ترجمة العرب لمفهوم الإنسان الأعلى لنيتشه فمنهم من ترجمه بأنه الإنسان الخارق أو الأرقى أو الأسمى أو فوق العادي، إذ يمتلك قدرات روحية وعقلية وبدنية خارقة وتفوق باقي البشر، ويعد المفهوم أحد المفاهيم التي تبناها الفاشيون والنازيون باعتباره الزعيم والقائد الذي يجمع في شخصه بعبقرية نادرة كل ما هو ثقافي وفني وسياسي وعسكري، والمتحرر من القيود الأخلاقية والأفكار الدينية القديمة. لذلك الأديان لن تصبح لها أدنى أهمية بعدما كانت مصدر الأخلاق وإنما ستصبح مجرد ميثولوجيا أسطورية مُملة..
ويرى نيتشه أن التاريخ البشري ينقسم إلى قسمين هما: قسم تاريخ الإنسان الذي ينتهي بموته، وقسم تاريخ ما بعد الإنسان الذي يُعبِّر عن العهد الحداثي الجديد، وتعد سمته الأساسية النزعة التجريبية الإبداعية والتشريعية، وعلى الإنسان أن يشرع للقيم القادمة التي ستُصبح قيما تجريبية مُؤقتة، وعليه أن يجبر الأفراد على الانقياد لمسارات جديدة مع ضرورة إعلامه بأن المستقبل هو من يديره ويتحكم به. ويُؤكد على ضرورة إعداد برامج ومشاريع وتجارب جماعية للتربية والتنشئة.
وفي ضوء رؤيته يرى نيتشه أنَّه على الإنسان أن يسعى لاكتشاف القوة الكامنة في أعماقه، مشيراً إلى أن الإنسان يبقى واهناً وضعيفاً مادام يبحث عن التفوق العلمي أكثر من بحثه عن اكتشاف مواطن القوة في ذاته، فالإنسان كائن ضعيف، ويمكن له أن يتغلب على هذا الضعف إذا نظر إلى هذا الأمر بجدية أكثر، وسعى كل السعي لاكتساب القوة البدنية؛ بحيث يصبح الإنسان الأعلى يفرز قيما جديدة تُساعده على الإبداع والاستكشاف.
في حين يعرفه هايدغر أن الإنسان هو نفسه أو أن الإنسان هو نفس ما، أي أن جوهر فلسفته قائمة على عدم تقليده للآخرين، إذ يمكن القول أن فلسفته قائمة على فكرتين مركزيتين هما الوجود والعدم للإنسان، فالوجود يمثل حياة الإنسان والعدم يمثل الموت وكلاهما يشعرانه بالقلق تجاه مصيره؛ لأن نهايتهما حتمية تتمثل في الموت.
وقد وضع الفرنسي جون بوفريه داعما فلسفة هايدغر، عنوانا لقواعد بشرية من أجل تأصيل الحديث البشري تضمن توصيفه تشبيه تلك القواعد بجرأة، حيث شبهها بحظيرة الحيوانات، بعدها جاء سلوترديك للتذكير بفلسفة أفلاطون إلى نيتشه، حيث غيب فيها تاريخ الفلسفة؛ بفعل تعميق الفلسفة الإنسانية والتي ترفض أية مقارنة بين الإنسان والحيوان بل تركز على النظائر والأشباه لا على الاختلافات والتباينات، ولا تقف عند كرامة الإنسان وأفضليته وشرفه على الحيوان. ويؤكد الكاتب أن هذا التقليد ما كان إلا تقليد الحديث عن الإنسان، وذلك باستخدام ثلاثة مفاهيم هي: مفهوم تربية الإنسان وتعني فلاحته، ومفهوم استيلاف الإنسان، ومفهوم تدجين الإنسان، حيث استخدمت هذه المفاهيم والتي غلب عليها الفكر وتاريخه. ويقترح سلوترديك أن يتم إحياء هذه المفاهيم المغيبة على ضوء الطفرة التكنولوجية.
ولخص الباحث أطروحات سلوترديك في أطروحتين أحدهما مألوفة وتعني الناظر في تاريخ الإنسان السالك به في طريق عن مسلك سائر الحيوانات. أما الأطروحة الأخرى غير مألوفة وترى أن التأثيرات البيولوجية فعلت فعلها في وضع الإنسان الثقافي لكن على نحو عفوي تلقائي غير مشعور به، أما اليوم ومستقبله فجديد الثورة البيوتقنية، والتي فرضت تدخل العلم في تطوير الإنسان على إسهامات واعية ومقصودة في العملية التطورية أي بمعنى إنشاء حظيرة لاستئلاف الإنسان وتطوير مهاراته، ويختصرها في القول بأن الحظيرة البشرية تستند على مفهوم الفسحة التي تعني انفتاح الإنسان على الوجود وعدم انغلاقه عليه.
ونبه عالم الاجتماع هابرماس في كتابه المعنون بـ"مستقبل الطبيعة البشرية" إلى خطرين أشار إليهما هما إمكانية إحصاء الأفراد الذين تم التدخل في تعديل إرثهم الجيني وإمكانية ألا يتم إحصاؤهم بحيث يتم النظر إليه من جنس المولود حسب قوله إن كان معدلا جينيا أم لا.
من هنا يشير الكاتب إلى أوجه التشابه والاختلاف بين سلوترديك وهابرماس، فيوضح أن كليهما نظرا إلى الإنسان إلا أنه من زاوية مختلفة فهابرماس نظر إلى الإنسان من منظور الفكر ما بعد الميتافيزيقي حيث طرح وضع الإنسان في زمن التكنولوجيا الجينية، في حين سلوترديك نظر إلى الإنسان من منظور الفكر ما بعد الإنساني. كما أن كليهما فكر في مصير الإنسان في عهد التكنولوجيا الحيوية إلا أنَّ هابرماس نظر إليها كمسألة حق بحيث يفكــر في القضية مــن حيث إمكــانياتها وأخطارها وتبعاتها، في حين سلوترديك نظر إليها كمسألة واقع يفكر فيها من حيث إنه أمر حتمي قائم لا يمكن إنكاره أو الاعتراض عليه وإنما يمثل مسألة تنظيمية. كما أن كليهما تدبر في التكنولوجيا إلا أنَّ هابرماس رفض تقننة الطبيعة البشرية وتغييم الحدود بين النمو الطبيعي والإنماء الصناعي بينما عبر الآخر عن ذلك بالخوف من التقنية في ثقافتنا، وأكد على إحياء البرامج الدينية القديمة.
