محمد الشحي
لقد اغتنى التراث العربي الإسلامي في مُناقشاته المتنوعة لمختلف نواحي الحياة، مستفيدًا مما أنتجه الشرق (الفُرس) والغرب (اليونان) من قبله، آخذا بقصب الحضارة، مطلعا -بوعي- على مخرجات تلك الحضارات في شتى الميادين، ناقدا ما أنتجته حينًا، ومطوِّرا لتلك النظريات والرؤى أحيانًا أخرى. ومن تلك المناقشات الثرّة، الدالة على مرحلة الترف الفكري التي وصل إليها الفكر العربي الإسلامي، مُناقشات المفكرين والفلاسفة ورجال الدين للعلاقة بين الدين والعمران. وقد أطلعنا على جانب من هذا النقاش أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي أحمد محمد سالم في مقاله المنشور في مجلة التفاهم بعنوان "العمران والدين: قراءة في مدونات الأخلاق الإسلامية".
استهل المقال بعرض مشكلة تعرض بشكل متكرر في الأبحاث الأنطولوجية المؤرخة لأي ظاهرة مدروسة، نعني مشكلة الأسبقية؛ فمما هو مُقرر، ومشهور، في الأدبيات العربية أن لابن خلدون قصب السبق في الحديث عن علم العمران، وعن دور الدين في العمران البشري. إلا أن الباحث يسعى في مقاله إلى إقرار وجود من سبق ابن خلدون في تناول هذا الموضوع وعرضه ونقاشه؛ مع إقراره بتباين وجهة نظر ابن خلدون الرائدة لعلم العمران، من حيث كونها أقرب إلى روح البحث العلمي لأنها تدرس الظاهرة كما هي، بينما ما سيعرض له من أدبيات ونصوصٍ عرَضَت لهذه المسألة من وجهة نظر ما ينبغي أن يكون العمران عليه. وهذا، في الحقيقة، فارق جوهري، ومنعطف يُحسَب لابن خلدون سلوكه قبل غيره، وإنْ أُثبت الحديث حوله من قِبل غيره.
دارت أسئلة المقال البحثية حول ماهية كل من العمران والدين، وما حدود أثر الدين في بناء العمران؟ وكيف تناولت كتب الأخلاق الإسلامية في مدوناتها مسألة العمران ودور الدين في صناعته؟ وكيف ارتبط تناول العمران في هذه المدونات بتناول مسألة الدولة والمُلْك وصناعة المَلِك (الرئيس)؟ مقاربًا هذه الأسئلة في المدونات الأخلاقية الفلسفية عند الفارابي والعامري وابن مسكويه، معقبًا عليهم بما أورده الماوردي الذي يعد مُنَظِّرًا إسلاميًّا ممثلًا لمدونات الأخلاق العربية الإسلامية. وفي نظري، فإنَّ هذا التقابل الذي أوجده المقال فيما بين المدونات الفلسفية والإسلامية لهو تقابل شكلي، لعل منشأه تصنيف أولئك المفكرين إلى محسوبين بين زمرة الفلاسفة، ومحسوبين بين زمرة الفقهاء ورجال الدين، إلا أن نظرة فاحصة للنماذج التي أوردها المقال لكل منهم تُفصِح عن التباس المقدمات الدينية عند جميعهم، وإنْ اعتمد الفارابي والعامري وابن مسكويه على مقولات لأفلاطون؛ إذ إنهم في منهج مقاربتهم يسعون لإيجاد مقاربة وسطى فيما بين الحقل الديني (الميتافيزيقي) والفلسفي (العقلاني)، وهذا خلاف قديم مُتجدد لسنا بصدد الحديث عنه.
علل المقال إدراجه للفارابي والعامري وابن مسكويه في خانة واحدة كون هؤلاء الثلاثة يجمع بينهم جذعُ الفلسفة، وهو الرابط فيما بينهم، وأنَّ مدوناتهم ذات أصول أفلاطونية وأروسطية وأن تفسيراتهم تعتمد أولاً على العقل، وأن اهتمامهم بالعمران وعلاقته بالدين جاء من خلال أهداف أخلاقية.
وعلى ما يبدو، فإنَّ هؤلاء الفلاسفة ينطلقون من رؤية غائية في تحليلاتهم للظواهر التي يتناولونها في مُدوناتهم؛ إذ ينقل عنهم المقال أنهم يتفقون على أن الهدف من العمران البشري هو تحقيق السعادة و"الكمال"، معللين ذلك بأن الكمالات لا يبلغها الإنسان مفردًا دون معاونة ناس كثيرين له، مُعيدين ذلك إلى طبيعة الإنسان في حاجته إلى الارتباط بغيره من الناس، وهذا ما جعل الناس يتجاورون ويجتمعون ليشكلوا عمرانًا. وتنظر هذه النظرةُ الغائيةُ إلى الظواهر التي تناقشها نظرة حدية تحدها بين كون أحد أطرافها وسيلة وشرطًا لوجود طرفها الآخر.
وكما هو مألوفٌ في الكتب التراثية العربية، فإنِّها تزخر بالمفاهيم التي تفتقر إلى التحديد المنضبط لها، والذي يجعلها تقصر عن كونها مصطلحات يُمكن اعتمادها في تناول الظواهر في البحث العلمي. إذ يقرر الفارابي والعامري وابن مسكويه أنَّ الغرض من العمران البشري إنما هو لتحقيق "السعادة" و"الإسعاد" و"الخيرات"، بينما النقاشات العلمية تسعى للنظر في هذه المفاهيم نظرة سلوكية يُمكن معها قياس مدى تحقق هذا المفهوم/المصطلح من عدمه، في محاولة لتقليل الفجوة الناشئة من النظرة الذاتية غير الموضوعية للمقصود منها، مما يستدعي منّا إعادة قراءة ذلك التراث بعيون حداثية في محاولة لإعادة إنتاج ما يصلح منه للنظر في قضايا العالم المعاصرة.
ثم يوازن المقال بين ما يراه الفارابي من أن هدف العمران هو تحقيق السعادة كقيمة أخلاقية للبشر، وبين ما يراه ابن خلدون من أن الهدف هو إشباع الحاجة من الغذاء. ويقرر أن ابن خلدون يُعلي من شأن النظرة المادية ولا يعطي النظرة المثالية حظًّا من رؤيته، بينما الفارابي ينطلق من وجهة نظر مثالية تسعى للكمال البشري، بل ويعرض المقال لموقف ابن خلدون من أن بعض السوقة وأصحاب التفكير العملي قد يكونون أوفر رزقاً وأكثر سعادة من أهل المعرفة والمنطق، قالبًا بذلك النموذج التفسيري الذي أتى به الفارابي للهدف من العمران البشري.
ولمّا كان المَلِك (الرئيس) أحد أهم عناصر العُمران المدني، اهتمّ به الفلاسفة المذكورون؛ فاستفاضوا في الحديث حول ضرورة وجود المَلِك واصفين علاقته بالرعية بعلاقة الأب بأبنائه، وعلاقة الرأس بالجسد. وقد قال الفارابي بإمكانية أن يكون الرئيس أكثر من واحد، الأمر الذي رفضه العامري قائلا إنما الرياسة للرأي، ومن لا رأي له فلا رياسة له. ولعل رأي الفارابي هذا يصطبغ بصبغة تقدمية لا تنتمي إلى عقلية ذلك العصر، والذي لا زلنا نعيش في ظل ذيله، من أنَّ الرياسة للقوي (في الرأي أو غيره)، بينما نستطيع عدّ رأي الفارابي ممثَّلا في أنظمة الحكم الغربية الحالية من حيث إن الحاكم الفعلي فيها هو مجلس النواب مثلا.
أما السبيل الواصلة إلى ازدهار العمران من وجهة نظر ابن مسكويه فهي الترف وفنونه، وأنَّ عمارة الأرض لا تتعلق بالعيش فحسب، ولكن بجودة العيش، وهو ما لا يتأتى إلا بالمُخاطرات الكثيرة، وركوب الأهوال، واحتمال المشاق، والتعرض للمخاوف، ولو زهد الناس كلهم لبطلت العمارة وذهبت ريح النظام الحسن والزين في العالم.
***
لا شك أنَّ العمران من المواضيع التي تحتاج منِّا إعادة نظر لمحاولة كتابة التراث العربي الإسلامي الذي ناقش الجمال، وأفرده بمدونات عديدة، لنجعل بوصلة مُجتمعاتنا متجهة صوب الحياة ومحبتها، وناحية الجمال وأسراره، كاشفين عن البنى المعرفية المنتجة له، دارسين أثر ذلك في الحضارة العربية الإسلامية.
