ابن خلدون.. أنموذج تفسير التاريخ الإسلامي بين الموضوعية والذاتية

هنية الصبحية

تتجلَّى الأهمية التاريخية لتاريخ حياة الإنسان منذ الوجود الإنساني كخليفة على هذه الأرض؛ باعتبارِها نسقًا حضاريًّا مُنفردا يدلُّ على دينامية الإبداع الإنساني في كلِّ زمان ومكان. تضمَّنتْ الدراسة محوريْن رئيسييْن؛ هما: المحور التنظيري الذي اشتمل على تعريف التاريخ لغةً واصطلاحا، وهل يُمثل التاريخ الشخصيات أم الحضارات؟ والتاريخ بين الموضوعية والذاتية وتفسيراته. أما المحور التطبيقي، فقد احتوى على ملامح التفسير الإسلامي للتاريخ ونموذج فكري تجسِّده شخصية العلامة الفيلسوف ابن خلدون.. هذا ما ناقشه باحث الحضارة الإسلامية محمد مصطفى طه، الذي سلط الضوء عليه في مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- "تفسير التاريخ الإسلامي بين الموضوعية والذاتية".

فالتاريخُ في اللغة: الوقت، ويُدعى بلهجة قيس أرَّخته تأريخا، أما اصطلاحا: فقد اتفق غالبية المؤرخين على أنه "بحث ودراسة واستقصاء لأخبار الناس وحركتهم، والنظر في حياتهم الماضية. أما موضوعه، فهو الحياة الإنسانية في امتدادها الزمني على الأرض منذ بدء الخلق إلى اليوم وفي المستقبل المنظور واللامنظور، وما يحكم هذه الحياة من عوامل وأسباب".

ويطرح الباحث عِدَّة تساؤلات صريحة يُلخِّصها في: هل المؤرخ يؤرخ التاريخ للشخصيات أم للحضارات؟ والتي من شأنها أن توضح لنا الإجابة بموضوعية ومصداقية تامة عن الواقعة التاريخية؛ نظرا لأنها قد تكون تزييفا لأهواء ذاتية ومصالح شخصية. ويميل الباحث فيمن يؤرخ التاريخ للحضارات بدلا من الأفراد، معللا ذلك بأنه أجدى وأنفع من المنظور الديني والحضاري؛ فالتاريخ لا يتأثر بالسياسة حسب تقدير المؤرخين، ولا تعد أهم مظهر من مظاهر الحضارة، وإنما قد يتقدمها الدين والعلم بكل جوانبه.

ويُؤكِّد طه أنه على الباحث الحقيقي الذي يقوم بدراسة وتحليل آفاق وملامح الإشكالية الحضارية، أن يدرسها دراسة موضوعية مجردة من أي حكم مسبق، لا سيما في عصرنا الراهن الذي يتميَّز بالانفجار المعرفي. وعليه، تشكل قضية تاريخ المؤرخين أبرز القضايا الفكرية الكبرى؛ حيث يمكن للباحث أن ينقيها من الأهواء الذاتية والتزييف الحاصل لها، ولو بشيء نسبي. ويشير الباحث إلى أنه لا توجد أية حقيقة مطلقة إلا حقيقة الذات الإلهية، وما ارتبط بها من الرسل والرسالات السماوية التي أراد الله لها البقاء والاستمرارية الحضارية، ويمثلها في ذلك الدين الإسلامي. كما قال الله تعالى: "صِبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون" (البقرة:138).

فالسياق التفسيري للرؤية التاريخية ينبغي أن يكون بصورة واضحة ومجردة من التزييف. يُقسِّم المؤرخ عملية التاريخ حسب منهجيته إلى ثلاثة مستويات؛ المستوى الأول: كتابة وتفسير التاريخ بطريقة تسلسلية؛ حيث يتبنى صحة التاريخ حيثيات محددة في الغياب والحضور. ويمكن القول إن عالِم التاريخ يستطيع التمييز بين تاريخ الأفكار وتاريخ الأفعال، حيث يلجأ للواقعة المحددة المرتبطة بالعوامل المشكِّلة للحدث التاريخي، معتمدا على الاستنطاق والاستجواب في بناء تاريخ مواز للفعل مع ما أرخه المؤرخ. أما المستوى الثاني: فتأريخ المؤرخ للحدث التاريخي بشكل متسلسل، ويمثل تاريخ تراث المسلمين الأنموذج المناسب لما قدمه المؤرخون؛ كونه بناءً متكاملا للوقائع التاريخية حتى يومنا هذا. ويمثل المستوى الثالث: محاولة تفسير الوقائع التاريخية حسب فلسفة التاريخ التي تعنى بتعليل التاريخ وفقا لأحداثه ووقائعه المجسدة في أفعاله لا أفكاره التاريخية؛ بهدف مواجهة الفكر بالفعل لتعليل فلسفة أزمات التاريخ ومنعرجاته الكبرى.

وعليه، تُشير الأدبيات التاريخية إلى أنَّ علم التاريخ من اختصاص ثلاثة رجال؛ هم: المؤرخ الذي يقوم برصد الأحداث وفقا لسياقها الزمني دون التدخل فيها، أي يرصدها كما حدثت. وعالِم التاريخِ الذي يقوم بتقديم رؤية علمية تبلور لنا الوقائع التاريخية الماضية أو الحاضرة، محاولا فيها إيجاد الأسباب الخفية المكونة لتلك الوقائع، إضافة لتصوراته العلمية المستقبلية حول ملامح التاريخ البشري وفقا للمعطيات العلمية. وفيلسوف التاريخ الذي يحاول بث الروح في التاريخ؛ نظرا لأن فلسفته تبحث في العلل القريبة والبعيدة للوقائع التاريخية وتبرهن أسباب وقوعها.

... إنَّ مُفسِّر التاريخ أصبح أكثر عِلما بالأحداث مع مرور الزمن؛ فيزداد الرصيد المعرفي والحضاري لديه؛ حيث يتأثر ببيئته الثقافية والمعرفية، فتصبح الموضوعية من أخلاقيات الباحث والعالم التاريخي رغم صعوبة الفصل بين الذات والموضوع في آن واحد. وعليه، فإنه يستطيع معالجة الحدث بطريقة تفسيرية وتحليلية؛ حيث إنه أصبح يفسر أحداثا كبيرة غير مقتصرة على بقعته الجغرافية وإنما تعدت ذلك. وأشار الباحث إلى تنوع مفسري التاريخ؛ فلم يقتصر على المؤرخ وإنما شمل اختصاصات علمية مختلفة؛ منها: الجغرافيا، وعلم الطبيعة، والفلسفة. وقد كوَّن هذا التنوع مذاهب تُعنى بتفسير التاريخ والتي تنوعت بين الوضعية والدينية، ومن أبرز التفاسير الوضعية: التفسير المثالي لهيجل، والتفسير المادي لكارل ماركس، والتفسير البيولوجي لأوزفلد شبنجلر، والتفسير الحضاري لأرنولد توينبي. أما أبرز التفاسير الدينية التاريخية فهو التفسير الإسلامي.

وقد اختار الباحث التفسير الديني كنموذج تطبيقي لتفسير التاريخ؛ متمثلا في التفسير الإسلامي للتاريخ، معتمدا على مقومات التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان. ارتبط تطور التفسير التاريخي بتاريخ العلم والثقافة في الإسلام اللذين يمثلان نتائج سسيو-تاريخية واقتصادية وسياسة. وعليه، جسَّد القرآن الكريم التاريخ؛ كونه ذا بُعد روحي وأخلاقي مبني على علاقة الله بالكون، ودور الإنسان كونه خليفة الله في أرضه. وتأتي العديد من السور والآيات القرآنية تبرز الدور التاريخي لبعض الأمم التي قد تم عرضها كقصص قرآنية أو عرض مباشر؛ أي أنَّ هنالك بعض الأحداث والوقائع التاريخية التي تشكل حركة التاريخ. قال تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" (يوسف:111). وهنا تظهر الموضوعية الحضارية في التفسير القرآني للقرآن، وهذا ما تمثله الرؤية الإلهية المحيطة بوقائع التاريخ بأبعادها الزمنية الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، إضافة إلى بُعد رابع يمثل الحكمة والذكاء؛ لهذا نجد أن الواقعة التاريخية في مكانها الطبيعي للتاريخ البشري والكوني على عكس الرؤية الوضعية -من صُنع البشر- تقتبس من الماضي ما يناسب تدعيم وجهتها.

ويعتبر الباحث أبرز أنموذج فكري للتفسير التاريخي الإسلامي بين الموضوعية والذاتية، كما يعد فيلسوف الحضارة الإسلامية الأول ابن خلدون، وتشكل مُعطياته الفلسفية تأسيسا فكريًّا للعديد من العلوم الإنسانية، ومنها: علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ؛ حيث ارتبطتْ جميعها بتفسير التاريخ تفسيرا حضاريا وفقا للتصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان. وحملتْ المقدمة الخلدونية علمًا فريدًا يُدعى "علم العُمران البشري" الذي يُعنى بتمحيص الأخبار ودراسة الظواهر الاجتماعية، وقد حيّر العلماء والدراسين بتمييزه: هل هو علم الاجتماع، أم فلسفة التاريخ، أم علم في المنهج، أم فلسفة سياسية؟ كما وصفه الكاتب بأنه أول فيلسوف للتاريخ والحضارة في الفكر الإنساني.

علينا أنْ نتيقَّن من هذه العبارة: "إنَّ التاريخ ما هو إلا اللحظة التي نحياها؛ فموتى كانوا أحياء، مثلما نعيش نحن اليوم، نحن الذين سنموت غدا لنصبح مثلهم في ذكرى التاريخ". ونجعل القدوة التي ننتحيها في دراساتنا العلمية القرآن الذي يجسد الحقيقة التاريخية بكل مصداقية وموضوعية. ويمكننا أن نقول إن جميع البحوث العلمية تتطلب منا الموضوعية والحيادية في تفسيراتها، وعلينا أن نبتعد عن الذاتية والأحكام المسبقة في دراساتنا العلمية.

أخبار ذات صلة