مقاصد الشريعة بمذاق الفنون الجميلة

وليد العبري

ما نجده من شروح في المصادر القديمة لمقاصد الشريعة يدور في أغلبه حول الحفظ من جهة الصيانة، لا من جهة التحصيل، وبأسلوب الزجر والعقاب، لا بأسلوب الترغيب والثواب، ونادرًا ما نجد شرحًا لتلك المقاصد من جهتي التحصيل والصيانة، وهذا ما أثاره الباحث إبراهيم البيومي غانم في مقاله "الفنون والجماليات في خدمة مقاصد الشريعة" والمنشور بمجلة التفاهم.

وأضاف الغانم أن الأمثلة الشارحة لكيفية "حفظ" العقل، أو النسل، أو حفظ المال مثلا، لا يكاد يتجاوز: جلد شارب الخمر، وجلد الزاني والزانية إن كانا غير محصنين، وقتلهما رجما إن كانا محصنين، وقطع يد السارق، أو تعزيره بحسب الشروط والضوابط التي بينها الفقهاء.

ولا نكاد نجد شرحا لأي من تلك المقاصد جهة التحصيل؛ أي بناء القدرة العقلية بالتربية والتعليم والتثقيف وضمان الحق في ذلك كله لكل إنسان؛ كي تتوافر فرص متساوية لبناء العقل على نحو يكون معه قادرا على التفكير والابتكار، وكذلك بالنسبة لصون النفس صيانة تكون معها في طمأنينة وسلام وراحة بال؛ بحيث تنعكس آثارها الإيجابية على من حولها.

وإذا فتحنا باب النظر إلى مقاصد الشريعة من جهة كيفيات تحصيلها ابتداء؛ فسوف نكتشف أن نظرية المقاصد بالغة الثراء والاتساع، وسوف يتبين لنا أنّ "الفنون الجميلة" داخلة بالضرورة في خدمة المقاصد العامة للشريعة؛ فبصر الإنسان إذا كان لا يقع غالبا إلا على مشاهد جميلة، وسمعه إذا كان لا يستمع إلا الطيب من القول؛ فإنّه سيتمتع على الأرجح، بصحة عقلية ونفسية تجعله أكثر إيجابية وأكثر إقبالا على الحياة ومحبة لغيره.

أمّا إذا حدث العكس، ووقع بصره غالبا على مشاهد قبيحة النظر، واستقبل سمعه ما يسترذل من القول؛ فإنه سيعاني غالبا من اعتلال في صحته العقلية، واختلال في صحته النفسية.

وسؤالنا هنا هو: هل يمكن تحقيق المقاصد العامة للشريعة دون توظيف "الفنون الجميلة" في خدمة هذه المقاصد؟ وهل يمكن ثراء الحضارة الإسلامية وازدهارها الذي ترافق مع إبداعات الفنون الجميلة بعيدا عن نظرية المقاصد العامة للشريعة؟ الإجابة هي: لا. وأزيد على هذا فأقول أيضا: إن بعض النظم الشرعية الإسلامية قد أسهمت - بشكل مباشر، أو غير مباشر- في إبداع كثير من أشكال الفنون الجميلة.

أقول ذلك رغم معرفتي بأنّه يكتنف علاقة الفنون الجميلة والآثار، بالمقاصد العامة للشريعة، غموض وشك ونفور في الوعي الإسلامي المعاصر بصفة عامة، وفي وعي جيل الشباب بصفة خاصة، وفي الوقت الذي يجد فيه هذا الجيل فرصة كبيرة للانفتاح، على مختلف ألوان الفنون والآداب العالمية والمحلية، عبر الوسائط المتطورة لنقل المعلومات، يجد نفسه أيضا لا يمتلك رؤية واضحة لوظيفة هذه الفنون، ولا لأهميتها في الحياة، ولا كيفية التفريق بين النافع منها والضار؛ ناهيك عن علاقتها بقيم المرجعية الإسلامية ومقاصدها العامة.

وقد يكون من الأسباب الرئيسية التي تفسر سمات الغموض والشك والنفور من الفنون؛ أنّ أكثر ما تبثه مؤسسات التربية والتنشئة الفكرية والثقافية في أغلب مجتمعاتنا الإسلامية - عن علاقة الفنون بمقاصد الشريعة - يستند في أحسن الأحوال إلى رؤى تقليدية منقطة الصلة بالواقع من جهة، أو يختزل تلك العلاقة في عدد محدود من النماذج والأمثال الشارحة مقطوعة الصلة بالواقع المعاصر من جهة أخرى.

والأكثر من ذلك هو التجاهل والإغفال لهذه العلاقة من أساسها؛ وهو ما يغذي الشك تجاه مختلف الفنون والآداب، لدى السواد الأعظم من المواطنين، ويصل الأمر إلى حد النفور منها ورفضها باسم التدين أو الالتزام، أو باسم المحافظة على الأصول والتقاليد لدى أبناء التيارات الإسلامية، خاصة أولئك الذين يشاركون في المجال العام ويتطلعون إلى النهوض بمجتمعاتهم.

السؤال الذي شغلني فانشغلت به هو: ما علاقة الفنون الجميلة بنظرية المقاصد العامة للشريعة الإسلامية من جانب؟ وكيف تجلت هذه العلاقة في تراث الحضارة الإسلامية ونظمها المعمارية وثروتها الأثرية من جانب آخر؟ إنّ نقطة البدء في الإجابة على هذا السؤال بجانبيه هي: أنّ التوجيهات القرآنية والنبوية بشأن الجماليات والفنون المختلفة قد شجعت على ظهور ألوان كثيرة من الإبداعات، حتى أنّ بعض المهندسين المعماريين حاولوا محاكاة الأوصاف الجمالية القرآنية للجنة، وقصر الحمرا بغرناطة من أشهر الأمثلة على ذلك!.

وتجلت تلك الإبداعات أيضا في النظم المعمارية، وفي كيفية تخطيط المدن والحواضر؛ إضافة إلى أنّ بعض النظم الشرعية - مثل نظام الوقف- قد اقتضى تطبيقه إبداع كثير من ألوان الفنون الجميلة - كما تحدثنا عنه في المقال السابق- ومن ثم أسهم في تكوين ثروة أثرية عملت في خدمة المقاصد العامة للشريعة بطرق مباشرة وغير مباشرة. ورغم كثرة البحوث في قضايا الفنون الإسلامية ومشكلاتها النظرية والعملية، فإنّ السؤال عن علاقة الفنون بالمقاصد العامة للشريعة لم يحظ بما يستحقه من الدرس والتأصيل، ولا تزال أغلب البحوث في الفنون الإسلامية معنية بالجوانب التاريخية، أو الفقهية (الحلال والحرام)، أو المعماريّة والهندسيّة، أو بعلاقات التأثير والتأثر بين الفنون الإسلامية وغيرها من فنون الحضارات الأخرى، أو هي معنية بمسائل وموضوعات مفردة مثل: فن الرسم، وفن التصوير، وفن التمثيل، وفن الشعر والغناء وغيرها من الفنون الأخرى، دون محاولة اكتشاف علاقة كل هذه الفنون بالمقاصد العامة للشريعة.

إذا نظرنا إلى المدارس الغربية الحديثة في مجال الفنون الجميلة من حيث فلسفتها ووظائفها وأنماطها المختلفة، فسوف نجدها بالغة الثراء، وسنجد أنّ فيها ما لا يجافي الرؤية الإسلامية ويتفق معها حيناً، كما أنّ فيها ما يجافيها ويتناقض معها أحيانا، ولا يصح أن نتجاهل "جماليات" الرؤية الغربية بحجة أنّ لها قبائح؛ مثلما لا يصح أن نتهاون بشأن قبائحها بحجة أنّ لها جماليات.

هناك من علماء الغرب وفلاسفته المعاصرين من ذهب إلى أنّ الشيء الجميل، هو ناتج عن الممارسة الاجتماعية التاريخية، ويعدّ هيجل من أشهر القائلين بذلك، وهناك من لاحظ بحق أنّ ظاهرة الانسجام - وهي أساس الشعور بالجمال والسلام- وكذلك "عدم الانسجام" -الذي هو أساس الشعور بالقبح والعنف- ترجعان إلى تاريخ طويل في حياة الإنسان.

ومنهم من ركز على علاقة الفن بالحياة، وبالدين، والعلم، وخلصوا إلى أنّ الفن أداة ربط اجتماعي، ووسيلة تطهير للنفس الإنسانية، وضمانه للتماسك والتجانس بين أبناء المجتمع الواحد، وهناك علماء وفلاسفة آخرون ربطوا بين الجمال والأخلاق ونبهوا إلى الدور التربوي لكليهما، بل وأقاموا علاقة وثيقة بين "الخير، الحق والجمال".

للفنون، إذًا مهمات لا غنى عنها في كل حضارة من الحضارات؛ وإن اختلفت مرجعيتها الفلسفية، أو تباينت غاياتها النهائية، وتكاد أغلب الرؤى الحضارية والفلسفية تشترك في أن أهم مقاصد الفنون تتمثل في: تنمية العاطفة والوجدان، وتنمية مهارات الحواس وتدريبها على الإجادة والإتقان، وحفز الإنسان على الإبداع والابتكار وتأكيد الذات، وضبط الانفعالات وترويض النزاعات الجامحة ووضعها في حالة اتزان، وتقدير العمل اليدوي ومهارات الصناعة، وفتح المجال أمام الخيال، واستثماره في خدمة الإنسان والعمران، وكلها مقاصد تندرج تحت الإطار العام لمقاصد الشريعة.

وأخيرا عند النظر في أحوال مجتمعاتنا، نجد أن ما يقدمه مبدعو الفنون الجميلة يتسم بالهزال والركاكة، ولا ينطوي على ابتكارات جديدة، وتغلب عليه ملامح التبعية لمدارس الفنون الغربية، وقد أسهمت بعض الرؤى السلفية المتشددة في تكريس هذه الحالة الفنية المتردية، مثلما أسهمت بعض الرؤى المتغربة في ذلك أيضا، وهذا ما نراه من تشوه في الوعي، وتمزق في الوجدان، واختلال في عمليات التنشئة على المستويات الفردية والجماعية.

 

 

أخبار ذات صلة