المتدينون والدولة.. جانب من العلاقة بينهما وطبيعتها

عبدالله الشحي

في المقال الذي حمل عنوان "موسكو والجوامع: اختيارات المسلمين في روسيا بوتين "يتحدث الباحث روبرت كروز عن وجود المسلمين في روسيا، ويذكر جملة من الأحداث التاريخية والحالية وتأثيرها ومساهمتها في صناعة رأي المسلمين حول الحكومة الروسية. ويذكر بعض التحديات المتعلقة بالموقف الرسمي من المسلمين.

يعتبر الإسلام من أكثر الأديان انتشارا في العالم وللمسلمين تواجد في مختلف أرجاء المعمورة كأقلية في أحيان وأغلبية في أحيان أخرى. وهم كأقلية يتعرضون لما تتعرض له بقية الأقليات بطبيعة الحال كالتضييق كما يحصل في بعض دول شرق آسيا، أو أن يتم محاولة استمالتهم واستعطافهم كما يحصل في روسيا والذي سنعرض مثالا عليه في هذا المقال.

لن نتحدث هنا عن الصراع بين الدول الإسلامية القديمة (ما قبل العثمانية) وروسيا التاريخية، لأنّ هذا بحد ذاته مبحث واسع بالرغم من ضرورته لفهم الوضع الراهن الناتج عن سلسلة الأحداث التي شكلت روسيا اليوم، مثل اختيار الأمير فلاديمير الديانة المسيحية على الإسلام، ويصح أنّ نقول إنه بذلك صاغ وبشكل رسمي الهوية المسيحية لروسيا.

ما نريد التركيز عليه هو طبيعة وجود الأديان والمتدينين في روسيا خصوصا ودول العالم على وجه العموم بتناول المسلمين كمثال، من حيث تفاعلهم سواء كمؤثرين (أي تأثيرهم في روسيا وبالذات في الساحة السياسية) ومتأثرين أي من جهة وضعهم في ما يتعلق بممارسة شعائر الإسلام والحصول على حقوق تكفل لهم الحفاظ على خصوصية المجتمع المسلم.

قبل استعراض النماذج التي طرحها الكاتب ومناقشتها، لنوضح بعض المسائل، أولها افتراض أن أي دولة لا يجب أن تتعارض مع أي دين، وبالتالي فإنّ الجماعات المتدينة لا تشكل تهديدا أو خطرا إلا في حالات نذكر اثنين منها، وهما مع الجماعات المتدينة التي قد تتبنى حراكا أو ممارسات تتجاوز العبادات الشعائرية والطقوس الخاصة، والحالة الثانية عندما تتبنى الدولة إيديولوجيا معادية للدين، أو إيديولوجيا دينية متطرفة.

فعندما يتعلق الأمر بالجماعات الدينية؛ أقصد بها الجماعات التي يتبع أفرادها دينا معينا ويشكلون جمهورا يتحرك ككتلة واحدة، تقلق الدولة بشأن هؤلاء إذا ما أخذوا زمام مبادرة حركية كمحاولة منع نشاط ما لإنه تعارض مع قيمها كالأنشطة الاقتصادية التي تبيع منتجات محرمة عند أتباع الدين، وبعض الأنشطة الثقافية غير المقبولة عنده، أو الرغبة في سن تشريعات تتناسب مع الأحكام الدينية في الأحوال الشخصية والمعاملات.

أما التدين الشخصي المتعلق بالفرد وممارساته وطقوسه فهو لا يشكل أدنى تهديد غالبا، بل إن الدولة قد تفتخر به وتتغنى بوجوده.

المسألة الثانية تتعلق بالإيديولوجيا المتبناة من قبل الدولة، وهنا حالتان نريد النظر فيهما، الأولى هي تبني الدولة لإيديولوجيا معادية للدين كالشيوعية أو أن تكون علمانية متطرفة، الحالة الثانية أن تكون الدولة دولة دينية متطرفة تقبل دينا بنسخة واحدة وتحارب كل ما عداه.

فإذا كانت الدولة تحارب الأديان، مثل ما حصل ويحصل مع الدول الشيوعية أو بقايا الدول الشيوعية بشكل واضح، بالطبع قد استغلت الشيوعية الأديان في بعض الحالات لنشر أفكارها، لكن الطابع العام كان يغلب عليه الصراع والتنكيل، والأمثلة على ذلك كثيرة كما حصل خلال القرن الماضي في الصين والأقاليم المجاورة لها بالنسبة للمسلمين، إضافة للاتحاد السيوفيتي سلف الدولة الروسية الحالية.

الدولة العلمانية ليست ضد الدين كما تخبر الأدبيات العلمانية عنها، لكن الدولة التي بطبيعتها تحارب التدين تحافظ على طبيعتها العدائية هذه حتى مع كونها علمانية، ففرنسا مثلا عادة ما توصف بالعلمانية المتطرفة لأنها وبشكل عام لا تتقبل الأديان والحركات الدينية.

ونحن لا نقول بشكل مؤكد أن فرنسا دولة شيطانية تحارب مظاهر الدين جملة وتفصيلا، لأن في ذلك مبالغة غير محمودة، لكن الأحداث المختلفة والحراك الشعبي هناك يؤشر على وجود تنافر بين الدولة والدين بالعموم، وما ذلك ربما إلا نتيجة الثورة الفرنسية العنيفة التي تمخضت عن قمع ديني كنسي في غاية الفظاعة، فخلق ذلك في فرنسا حساسية تجاه الأديان.

ثم هناك الدولة الدينية المتطرفة، والتي قد يتوقع المرء منها أن تحسن معاملة الأديان والمتدينين، لكن العكس هو الصحيح والغالب مع الأسف، فالدولة التي تتبنى دينا كثيرا ما قمعت من يتبع غير دينها، كتعرض المسلمين للمنع من بناء المساجد أو رفع الأذان على الأقل، بل إنها قمعت أتباع دينها المختلفين معها في عدد من المسائل داخل العقيدة والتشريع، وهذا المشهد هو الغالب في أكثر الأحوال طوال التاريخ الطويل.

فقد حصل مرات عدة خلال تاريخ دولة الخلافة الإسلامية أن تبنى الخليفة رأيا دينيا وحارب كل مخالف له، كما حاربت الدولة البيزنطية قبل ذلك الوثنيين الرومان وشنعت بهم. مع التذكير بوجود حالات لدول متدينة عاشت تحت مظلتها عدة أديان، نظرا لرجاحة عقل قادتها وتسامحهم كما هو الحال في عهد الخلافة الراشدة.

ذكر الكاتب عددا من النماذج تتعلق بالوجود الإسلامي في روسيا منها الشيشان وعرج على ذكر بعض الحقائق التي تخبر عن الأزمة في تلك البقعة نتيجة الصراعات المطولة خلال التاريخ ومحاولات الانفصال.

أمّا بالنسبة لوجود المسلمين الحالي في عهد الرئيس بوتين فقد تبين أن العلاقة فيها نوع من المصلحة كما يرى الكاتب، حيث يحاول بوتين أن يرضي المسلمين لكي يدعموه ويقفوا معه ولا يعارضوه، وربما أتوقع أنه قد يستخدمهم لمواجهة التطرف، حيث من المفيد له وجود جماهير ومنظمات إسلامية تؤيده وتصفق له. بالطبع فإن المسلمين كأفراد وعلى الأرجح لا يشكلون اهتماما كبيرا لبوتين وحكومته، لكنه مهتم أكثر بالسيطرة أو على الأقل استرضاء المؤسسات الإسلامية التي تساعده في تشكيل القاعدة الجماهيرية بين المسلمين.

عندما تكتسب الدولة أتباع دين معين إلى جانبها فقد تقلص فرص حصول مواجهات بينها وبين الجماعات المتطرفة لنفس الدين، حيث أن الناس بالعموم لن يجدوا سببا للدخول في حرب مع الدولة ما داموا حصلوا على حقوقهم.

ختاما، فإن الطبيعة التي تحكم علاقة المتدينين بأي دولة أو سلطة سياسية تتحدد بجملة من العوامل، كطبيعة الجماعة الدينية ونشاطاتها ونمط تدينها، وفلسفة الدولة أو توجهها ونظرتها للمتدينين قد يكون الجانب الأكبر من جهة الدولة، فإن هي أحسنت مداراة المتدينين وأعطتهم حرية ومرونة فقد تنجح في خلق بيئة سلمية وتضعف وجود المتطرفين.

أخبار ذات صلة