محمد الشحي
يؤكِّد الباحثون على ضرورة العودة بين الفينة والأخرى للنظر في التاريخ، والتأمل في سيرورته من أجل فهم الطبيعة البشرية، ومحاولة إعادة النظر في البواعث التي أسهمت في النقلات المجتمعية الكبرى، والتي كان لها كبير الأثر فيما نعيشه اليوم من أفكار وفلسفات. وخلافًا لدعاة القطيعة مع التاريخ، يعاود الباحث محمد علي محمد عثمان النظر في الحروب الدينية في أوروبا على مشارف العصر الحديث؛ بهدف فهم التركيبة المعقدة للعلاقة المشبوهة بين الدين والدولة للحضارة التي تقود الأمم في العصر الحديث، نعني بذلك الحضارة الأوروبية الحديثة، معيدًا بهذه المقاربةِ أسئلةً تؤرق العقل العربي منذ ظهور ما يسمى بالإسلام السياسي بداية من هزيمة 1976.
ويبتدأ الكاتب مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- بمعالجة طبيعة هذه الحروب من حيث سماتها، فأقرَّ غياب مفهوم التسامح الديني، وبروز التعصب مكانه، مؤكدًا عودته بعد نهاية الحروب الدينية وبداية عصر التنوير، ليعلو صوت الهوية الضيقة، ويخفت صوت التنوع المُثري. وفي هذه الجدلية، يغيب العقل لصالح الجمهور الذي تدغدغه العواطف، وتسيّره الرموز التي تستغله لمصالح شخصية.
أولى هذه الحروب التي عالجها الكاتب الحرب البابوية البوهيمية (1415)، والتي كانت بواعثها التغييرات في مجالات أوروبية متعددة؛ منها: التغييرات التي طرأت على الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ دبَّ إليها الطابع العلماني بفعل الانفتاح الذي حَدَث نتيجة التفاعل بين رجال الدولة ورجال الدين، تحت مظلة التأثيرات الفلسفية لفلاسفة ذلك العصر. إضافة إلى الفساد الذي أخذ يستشري في جسد الكنيسة؛ إذ أصبح رجال الكنيسة ينافسون رجال الدين في الترف والإسراف والانحراف، كما أخذوا يعيِّنون أقاربهم في المناصب الدينية العليا، وانتشرت عمليات بيع القضاء الكنسي وصكوك الغفران؛ مما أدى لانتشار الجهل والانحطاط الخلقي والإهمال والتسيب؛ الأمر الذي أشاع بين الناس الشعور بالسخط على الكنيسة.
ومع بروز الروح النقدية لدى عدد من المفكرين الأوروبيين الأحرار، أمثال جون هَس (1415-1470)، الذي تحرر من سطوة الكنيسة، بدأ ينادي بإعادة النظر في المآل الذي صارت إليه الكنيسة من فساد ظاهر، فنادى بضرورة إصلاح الكنيسة من المفاسد التي علقت بها.
راحَ هَس يصب جام نقده على بابا الفاتيكان، وضرورة عدم إطاعته، مستنكرا بشدة الفواحش والموبقات، وكان على قناعة بأن أيدي رجال الدين ملوثة بالدماء، وضمائرهم ملوثة بالفساد، واتخذ من جامعة براغ منبرا لنشر أفكاره الثورية، وغضبه الدفين ضد الكنيسة. وسرعان ما انتشرت أفكاره بين طبقة المتعلمين، لتجد سبيلا لها بين جماهير براغ، ثم أوروبا أجمعها.
وكان لهذه المغامرة الكبرى التي خاضها هَس تبعات، فدُعيَ إلى مجلس كنَسي في كونستانس عام 1414 بعد أن حصل على عهود الأمان من إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الجرمانية، إلا أنه قد غُدر به، فأُلقي القبض عليه وحوكم بتهمة الإلحاد والهرطقة، وأُحرق حيًّا عام 1415.
لقد كان لحرق هَس أثرٌ عكسيٌّ، خلافًا لما كان يظنه الساسة؛ إذ اندلعت ثورة في بوهيميا، اتسمت بالعنف واستهدفت إقامة كنيسة بوهيمية على أسس قومية، والخروج السافر على طاعة روما، وتطلعت إلى استقلال بوهيميا سياسيًّا عن الدولة الرومانية الجرمانية المقدسة، وقاد هذا إلى نشوب أول حرب في سلسلة متلاحقة من الحروب الدينية، فاشتعلت أوروبا تحت لواء النصرانية.
ويؤكد الباحث أن هذه الحرب تسربلت برداء الدين لتحافظ على مكتسباتها الدنيوية في بوهيميا، إلا أنها أخذت طابعا قوميا من قبل التشيك، كما كان الصراع في جوهره اقتصاديا، وفشلت فيه الكنيسة في إسكات صوت الثورة البوهيمية، فاهتزت صورتها في عيون كثيرين في أوروبا.
ثاني تلك الحروب التي أوردها الباحث، كانت الصراع المسلح بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا، خلال الفترة ما بين العامين (1547-1555). كان وراء اندلاع هذا الصراع المسلح فشل الكنيسة في إصلاح ما اعتراها من ترهل من الداخل، ومن قبل المفكرين الإصلاحيين من أمثال ويكلف وهَس ويوحنا روكلن وغيرهم. فانتقلت حركة الإصلاح إلى مرحلة الإصلاح من الخارج، ومحاولة فرضها فرضًا على الكنيسة والانفصال عنها وتكوين مذاهب جديدة على يد لوثر وكلفن.
ومع تطور اللوثرية، وتبنِّي الأمراء لها في بضع سنين، راح الأمراء الألمان البروتستانت يدافعون عنها بشراسة، وعقدوا العزم على الانفصال عن كنيسة روما، فتكونت تحالفات عديدة على الرغم من عدم موافقة لوثر نفسه على هذا التوجه.
ويُرجع الباحث بواعث هذا الصراع المسلح إلى العامل الاقتصادي، ويؤكد على أنه كان اقتصاديا بالمقام الأول، ثم ظهرت فيه الأطماع الشخصية بشكل واضح. فالاختلافات التي تنازعوا حولها كانت اقتصادية بالمقام الأول، ولم تكن دينية صِرفة، ولم يكن يبدو على الأمراء الذين قادوا هذا الصراع الاهتمام بالجوانب الدينية التي روّجوا لها.
وكان للطبقة الوسطى الدور الأبرز في هذا الصراع المرير؛ فقد شعروا بالمرارة للثروات التي فقدوها لصالح الكنيسة، وأي كنيسة، الكنيسة الرومانية، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها في الترويج لهذا النزيف البالغ الذي تنزفه ألمانيا لصالح دول أجنبية أصابتها التخمة والفساد نتيجة التوسع والإقطاع الكنسي.
وفي الجانب الآخر، كان أساقفة الأديرة يقاومون النزعة الاستقلالية لدى أولئك الأحرار، ويصدرون صكوكَ الحرمان تارة، ويلجأون إلى العنف تارة أخرى. كل ذلك كي لا يفقدوا نصيبهم مما ينالهم من العطاءات الجزيلة من الكنيسة الرومانية.
أما معركة مهلبرج (صوت المدافع)، فقد كان لها أثر مختلف عن بقية الحروب؛ لأنها تُبعت بصلح اعتُبر صوت العقل في زمن الطيش. فبعد انشطار ألمانيا شطرين: شطر بروتستانتي، وآخر كاثوليكي، واحتدام التشابك فيما بينهما، وسيلان الدماء من مختلف الأطراف، جاءت تسوية أوجزبيرج عام 1555.
تقرَّر في هذه التسوية حرية المعتقد الديني في المحافظات البروتستانتية، إضافة إلى حرية الانتقال بكامل الأموال إلى مناطق أخرى، تبعًا للمعتقد الذي يريده الفرد؛ الأمر التي يُعدّ تقدمًا كبيرا في شوط الحريات الفردية في شرط زمني معقد.
ختاما.. فقد عرض محمد علي عثمان أبرز الحروب الدينية التي عانتْ منها أوروبا طويلا، قبل أن تؤسس لمفهوم التعددية الدينية والتسامح الديني. ولم يكن ذلك بالسهل؛ إذ سالت الدماء وقُتِل مئات الآلاف في سبيل هذا الحق الإنساني الأصيل. وعلى ما يبدو من تحليل الكاتب، يحتل العامل الاقتصادي المكان الأول من بين العوامل التي أثارت الفوضى. والدرس الذي نتعلمه من هذا العرض التاريخي، أنه لن يكون الشعب رحيما بأي مؤسسة فاسدة متى ما مُسَّت لقمة عيشه، ولن تجدي محاولات الترهيب والتخويف.
