إشكاليات الثقافة العربية وتحديات الحداثة.. نموذج جاك بيرك

وليد العبري

يُغطِّي نتاج جاك بيرك -المليء بالتجارب المحلية- المجالَ العربيَّ، ويتبلور عبر الحوار الثابت الذي يقترحه بين الماضي وعظمته من ناحية، وبين الوقت الراهن من ناحية أخرى، وهذا ما أثاره الشاعر الفرنسي آندريه ميكيل في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، والذي ترجمه أحمد عثمان.. وسنُلخص المقال على النحو الآتي: قادت المواجهة مع التاريخ جاك بيرك ليس فقط إلى فحص النصوص الأرشيفية، وإنما إلى قراءة وترجمة كتب الأدب العربي الكبرى عاملا على فك شفراتها: قصائد الشعر الجاهلي أو مختارات -طُبعت بعد وفاته- من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.

 

إنَّ هذا الرجل كان مُعلِّما، استطاع أن يكوِّن جمعا من الباحثين الشرقيين والغربيين، وأن يحمل لواء الحوار في العديد من البلاد؛ سواء العربية أو غيرها، مناديا دوما بحقوق وواجبات شركاء البحر المتوسط، ومشاركا في الأنشطة السياسية، بمقالاته وندواته، والمؤتمرات التي نظمها. وإذا عرفنا بسهولة أعداء الثقافة، فإننا نرتبك حين نريد أن نعرف أصدقاءها. وإذا تعلق الأمر بتعريف الثقافة، يتزايد الارتباك أيضا، وفي هذا الشأن يعطي عالم الإتنولوجي لهذا المصطلح تعريفا واسعا؛ إذ يراها عبارة عن تبادل ميكانيكي بين الطبيعة والمجتمع. يتبدى هذا التبادل في النتاجات والتطبيقات. يستدعي خاصيتها، بعد أن بلغ ذروة القيم، والقيمة الجمالية من بينها، وانتهى إلى تأسيس الوعي والفن.

ويُصبح أي تعريف خاطئا بوسط شطط النسبية. ودون شك، يستعيد غالبية الممارسات والمواقف، غير أنه لا يختص بالنتاج عامة، وأيضا بالروائع؛ حيث يلقي الضوء على الآفاق القريبة، وقد انتمى إلى المطلق. ومع ذلك نعرف ما يمكن التحصل عليه لأجل روح الفنان. هذه الثقافة تقاوم التقاليد الألفية، تقاليد قصائد المناسبات والحفلات الجماهيرية. نستطيع القول: إنَّ الهجوم عليها نجح؛ بل وتخلص من كافة آثار "الأدب الرفيع" رغم أنَّه يحض على توتر جدير بالثناء. وبما أن الهجوم الذي صحب معه أشكالا هجومية أخرى -جمعت بين رفض التراكيب القديمة والتبعية- يقود ليس إلى هجر الشخصية وإنما إلى إصلاحها.

ويتمثَّل مشكل العربي الأساسي في الاندماج مع الشعوب خلال مسيرة الاستقلال، والاتحاد معها والتوجه نحو نهضتها في آن واحد، وعلى قدم المساواة مع العودة للأصالة. لكن كيف نربط بين التواصل والقطيعة، بين التبادلات والإصلاح؟ إذا كان خطاب التقنية يتواجد بسهولة بين شعوب الاتصالات الواحدة، تتأتى الصعوبة من الذوق الأدبي أيضا، وبالأحرى من أذواق فنية أخرى، كما الذوق الموسيقي على سبيل المثال، وكذا من الطرق الخفية التي تتسلل دوما إلى أعماق الإنسان. ها نحن أولاء عبر هذه الفكرة -فكرة اختلاف المستوى- نرجع إلى درجات تدليلها، التي تدرج من الخارج ومن الداخل على حدٍّ سواء، حتى إنَّ العربي في الماضي كان يمدح المرأة أنها ذات "جمال ودلال" وأيضا نستطيع -خلال التظاهرات الثقافية- المرور من الجمال إلى دلالته. آنذاك يروم التفسير -من خلال الثقافة والمرجعية العربية في العالم المعاصر- إلى التوصل للعام والإيجابي؛ أي إلى الثاقب والنوعي المطلق، وربما التوصل -عبر إشارات متواضعة- إلى نغمة بيت شعري، تغيِّر الإيقاع والصوت والرائحة. ربما كانت رائحة السمسم المألوفة، التي نشمها في أي ركن من أركان الشارع، كما في الحكاية الخرافية، تمكننا من فتح باب المغارة واكتشاف الكنوز.

أود القول: إن الفهم/الإدراك الحيلي لهذا الجمهور لم يمس إدراكه السليم بعد، ولا نعرف لما هو سليم؛ ربما من الحضارة الصناعية التي استدعاها كثيرا. تحطمت الكوزموبوليتانية قليلا في أرجاء العالم، على كلِّ الأصعدة، ولكن دون أن تستبدلها بحماية أخرى. هذا يدلُّ على أن هذه القصيدة العربية المستقاة من العصور القديمة -ذات الروح الأرمينية- قصيدة راقية. في القرية تسود توليفة معينة من مختلف القوى المتنافسة، تلك جغرافية جبلية خالصة، صادقة؛ لكنها ترحب بالتجارب القادمة من بعيد، وهذه التجارب الجريئة تطرح أحيانا صراعات مع أشكال الوعي والمجتمعات. هذه الصراعات مُؤلمة أحيانا، ودموية أحيانا أخرى، صراعات غير مفهومة لدى المواطنين أنفسهم؛ بيد أني لا أريد رؤية نقيض الثراء العظيم.

وبالتماثل مع الانطلاقة الروحية واللغوية، تنمُو انطلاقة سياسية، اقتصادية واجتماعية. تُوْصِلنا اليوم إلى أبحاث جديدة، وأيضا تواصل الروح والأسلوب. وإذا -رغم نزعة المقاومة الدوغمائية- كان أغلب العرب ارتبط بها بُغية تغيير عام، فقد طرأت تفاوتات جديدة؛ فبعضهم يرغب في تدفق الإبداع ضمن نماذج "محترمة" تابعة للعصر الذهبي، وآخرون يحررونها من كافة النماذج السابقة، وآخرون يرفضون نقاشات اللغات والأشكال ويرغبون في غلبة الجمالية.

نبدأ بعرض المعركة: ليست معركة الحداثة ضد الماضوية ولا معركة الطلائعية ضد الكلاسيكية ولا معركة التاريخية ضد الأسلوبية، وإنما معركة الاستجواب ضد التواصل، ومعركة الإفراط في النقد ضد الواقعية. مما سبق، اتَّضح أن عددًا من التوترات أثارت الحيرة حول الشخصية العربية، إلا أنها مطابقة تماما للحيرة المماثلة في بقية أنحاء العالم.

وفي الوقت نفسه، انهارتْ حقائق ناطقة أخرى، مُنذ بدأ العرب ينتقدون الإفراط في "اللفظية" أخذوا على قيمهم الجماعية العتيقة والبطريريكية توافقها مع الرجعية، وأخذوا على إرثهم الجمالي نزعته الشكلانية وبراعته التصويرية. اليوم، رأينا محاولة شعراء وناثري العربية في إثراء المضمون، دون التعرُّض لتقريع الفقر. للأسف، كل شيء معتم عند التوضيح.

هذا العالم لا يرغب في تحويل تظاهراته إلى تقييم بسيط لما هو ذاتي؛ إنه يريد حركة تاريخية، وبذا أخذ يضع نهاية، أو اتجه فعلا صوب إنهاء الرؤية الأرسطية في العالم.

وافق العربي على التخلي عن كونه أميرا شريطة أن يصبح مواطنا صالحا في الزمن القادم، وذاك لن يتأتى دون تمزقات وتفردات. هذا الإنسان المتحدر من وطن قديم؛ حيث يرتجف لسانه من ضخامة صوت النبي إبراهيم -عليه السلام- يمضي يوم عمله أزرق اللون؛ أي يمضي يومه مرتديا "العفريتة" يتعارك مع الآخر، ولكن مع ذاته أيضا، إذ يتبدى أن حماية هويته مرتبطة بهاتين المعركتين. وبكل غرابة، ينتظم في مسيرة العالم باحثا عن التميز والتفرد. نستطيع التساؤل: هل يصعب التعارض المطلق والتوافق المطلق مع أي مسيرة؟ فالشرق -الذي أثبت وجوده بالنظر إلى الحضارة الصناعية- ظل ميتافيزيقيا صلبا. هذا الوضع استحالة تاريخية، دون شك؛ ولكنه صدق متعال، مليء بالعبر.

تستطيع الثقافة العربية أن تتميز بواسطة الانتشار والضم، وهما مظهران يتكشفان، يترابطان حينا وينفصلان حينا آخر، وأداؤهما يمتد إلى وحدة أسست بمساعدة الغير ووحدة أخرى أسسناها بأنفسنا في آن واحد. غير أننا نستكمل أو نمحو هذه النظرة البنائية بواسطة نظرة تاريخية متماسكة؛ إذ إن التاريخ الحقيقي يرتدي "لحم" الأسطر والأعداد. قلب الإنسان يخفق بين ضلوعه، قلب وإرادة الإنسان؛ لأن هذا العالم يريده ويريد نفسه. ومن ثم، أصل إلى رؤياي الأولى، أجد في واقعة محللة تأكيدا جديدا لأهمية العلامات. هذه علامات مميزة حينا ومتفردة حينا آخر، تصور الضم حينا والأصل حينا آخر، الوفاق حينا والشقاق حينا آخر.. وذاك يوضح لماذا عانت هذه الثقافة أزمة دلالية ضخمة، وبكل دقة: أزمة تبليغ!!

أخبار ذات صلة