هنية الصبحية
إنَّ معظم القيم والقواعد الإسلامية هي قواعد لضبط العلاقات الاجتماعية والتعامل بين الناس وفي المقابل نجد غالبية المسلمين يعطي طقوس العبادات أهمية بالغة بحيث تتجاوز القيم والمعاملات حجة بأن الدين جاء لتحقيق الطقوس العبادية فقط، في حين أن تلك القيم والمعاملات هي المعنية بالدرجة الأولى. اعتمدت الكاتبة في دراستها على ثلاثة مفاهيم رئيسية تمثلت في الدين الإسلامي والمجال العام والتجربة الكلاسيكية. هذا ما ناقشته أستاذة الفلسفة بجامعة حلوان منى أبو زيد وتسليط الضوء عليه في مقالها – المنشور بمجلة "التفاهم"- ، "علائق الدين بالمجال العام في التصور الإسلامي والتجربة الكلاسيكية الإسلامية".
فالدين في اللغة يعني الورع والسلطان والقهر والطاعة وغيرها من المفردات، وعرفه التهانوي اصطلاحًا "بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل" أي أن الدين يهتم بصالح الإنسان في الدنيا والآخرة.
وقد قسمت الكاتبة تعاليم الدين الإسلامي إلى أربعة أقسام مرتبة كالآتي: القيم والأخلاق التي تمثل فلسفته، والمعاملات الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والتشريعات المدنية، بالإضافة إلى طقوس العبادات، وأخيرا قصص الأولين كشواهد ذات دلالة، كما أوضحت أهمية هذا الترتيب لكون الطقوس العبادية ليست الغاية وإنما السبيل إلى العمل بالقيم المثلى وحسن المعاملة للوصول إلى السعادة البشرية. حيث إن الدين الإسلامي دعا إلى العديد من القيم منها: العدل والمساواة والإيثار والصدق والأمانة وغيرها من القيم.
وفي سياق المفاهيم أشارت الكاتبة لتعريف المجال العام بأنه مصطلح فكري انتشر في العصر الحديث إلا أن تطبيقه جاء مبكرًا في المجتمع الإسلامي بمسميات ومجالات متعددة ويعني كل مؤسسات المجتمع المدني المستقلة استقلالا تامًا عن الدولة والقطاع الخاص بحيث يعد مجالاً خصباً للمُجتمع، والذي من خلاله تتضح الأفكار والرؤى التي تساعد المجتمع على أن يفكر بشكل جمعي ليحقق المصلحة العامة لأفراده، وبذلك يستطيع قياس فكرة وجود مستوى الفعل الاجتماعي واتصاله بين السلطة والمُجتمع المدني.
وقد زاد الاهتمام بفكرة المجال العام في فترة التسعينيات بعد رسالة الأستاذية التي نشرها الألماني وعالم الاجتماع السياسي جورجين هبرماس بعنوان التحول البنائي للمجال العام وأشار من خلالها إلى أن غالبية الفاعلين في المجال العام من الطبقة الوسطى المتعلمة.
أما مفهوم التجربة الكلاسيكية فتعني في كل ما أنتجه العلماء المسلمون من إنتاج فكري عملي يخدم المجال العام بشكل فردي أو جماعي في فترة العصور الوسطى. كما حاولت البحوث الحديثة النظر إلى مدى الاهتمام بالمجال العام وما صاحبه من تطورات في المجتمع الإسلامي الذي فتح آفاق الدراسات التاريخية والمقارنات لنظرية مفهوم المجال العام.
وبحثت الكاتبة في تلك القيم والمبادئ، وكيف استطاع قادة الرأي تحويلها من أنساق نظرية إلى أنساق تطبيقية تخدم مصالح المجتمع. إن العلماء المسلمين يعيشون داخل المجتمع - على عكس الرهبانية -، وحاولوا تقديم القيم والمبادئ على هيئة نظرية وتطبيقية في آن واحد بحيث تفيد المجتمع وتخدمه، ومن بين القيم التي تحولت إلى مؤسسات تطبيقية تخدم الصالح العام اختارت أبا زيد ثلاثة نماذج تمثلت في الآتي: نموذج قيمتي البر والإحسان ونظام الوقف الإسلامي، ونموذج قيمة العدل وديوان المظالم، وأخيراً نموذج مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومؤسسة الحسبة.
من هنا تأتي الكاتبة لتبرز علاقة البر والإحسان بالمجال العام، حيث استطاعت أن تتدرج بشكل تدريجي لتوضح صورة تلك العلاقة. لقد تحققت قيمة البر والإحسان في نظام الوقف الإسلامي الذي يمثل أحد دعائم التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم، ويمثل ظهور هذا التنظيم قبل الأوروبيين الذي عرف عندهم باسم مؤسسات المجتمع المدني ومجموعات الترست بحيث تحث على تكاتف الأفراد بما يخدم جميع المصالح بعيدا عن تدخل الدولة. وتشير الكاتبة إلى تعريف المقصد العام من الوقف هو وجود مورد دائم ومستمر لتحقيق غرض مباح من أجل مصلحة معينة. وحثت الشريعة الإسلامية من القرآن الكريم والسنة النبوية على نظام الوقف تأكيدا على أهمية العمل الاجتماعي والخيري في آن واحد، قال تعالي: "لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". آل عمران:92.
وأوضحت الكاتبة أن نظام الأوقاف أصبح ظاهرة اجتماعية ليس لغرض ديني فقط وإنما شمل أغراضا عديدة؛ لأجل التقرب من الله تعالى فاشتملت على الجانب الديني والاجتماعي والاقتصادي بحيث تدعم قمية البر والإحسان من خلال وقف المدارس والمساجد والمستشفيات والمكتبات لتخدم الصالح العام في المجتمع دون أن تعتمد على الدولة والسلطة الحاكمة بما يسمى تكافلا اجتماعيا مستندا على تعاليم الدين الإسلامي ومبادئه. أما من حيث الجانب الاقتصادي فقد استطاع نظام الوقف أن يضبط إمكانيات توسع اقتصاد السوق الرأسمالي في المجتمع المسلم؛ لأن ذلك يوفر السلع والخدمات بأسعار رمزية من خلال إنشاء وتمويل مؤسسات ومرافق عامة تقدم خدمات متنوعة كتقديم مساعدات نقدية للفئات الخاصة. فالنظام الإسلامي جاء لتحقيق مجتمع إنساني إسلامي تدعمه الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية بحيث تتحرر من الربح والمنفعة الخاصة التي يسعى لها القطاع الخاص والسلطة الحاكمة.
كما أشارت الكاتبة إلى علاقة العدالة بالمجال العام، حيث إن السياقات الفكرية حولت قيمة العدالة إلى مؤسسة تخدم الصالح العام، وأكدت أنه مبدأ إسلامي ونظامي يحقق التوازن والاستقامة في الأمور الحياتية. وأكدها الله تعالى في كتابه العزيز، قال تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"، الحديد:25.
وأكدت الكاتبة تعدد جوانب ومجالات العدل في الإسلام فمنها السياسي كالعدل في الحكم ومنها الاجتماعي كالعدل مع الأسرة واليتامي ومنها الاقتصادي كالعدل في المعاملات التجارية والمالية ومنها النفسي كالعدل في القول والشهادة وغيرها من الجوانب والمجالات التي تبين مكانة هذه القيمة لتحقيق العمران البشري. من هنا نجد أن قيمة العدالة تحولت من دراسات نظرية إلى دراسات تطبيقية وعملية في مجال القضاء من خلال مؤسسة قيمية تخدمه، وهي مؤسسة ديوان المظالم الذي ينظر في شكاوي الأفراد ضد رجال الحكومة، كما وضع سمات خاصة لمن يتولى أمور الديوان.
وأخيرا ناقشت الكاتبة علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمجال العام والذي أشارت له بأنه من أكثر المبادئ التي أثارت تاريخ الفكر الإسلامي إلا أنه حظي باهتمام كبير في الدراسات النظرية عند المسلمين، وقد استخدموه عملياً في التطوع والحسبة. وأكد الدستور القرآني على هذه القيمة، فقال تعالي: " كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ". آل عمران:110، وجاء تجسيد المبدأ عند المسلمين في وظيفة الحسبة التي ابتدأت كمقصد ديني ومن ثم تطورت إلى نظام إداري. ويُعد نبي الله أول من احتسب ذلك حينما كان يمر في الأسواق ويقول للناس: "من غشنا فليس منا". وإن أهم ما يميز المحتسب الأمانة والعدل والاطلاع على أحكام الشريعة بحيث يستطيع التمييز في الأمور والأفعال التي يقوم بها الأفراد لأجل الصالح العام.
إن الحضارة الإسلامية قامت على تلك النماذج الفاعلة في حياة المسلمين الفكرية والاجتماعية، وكشفت لنا عن واقع تطبيق فكرة المجال العام والتي طبقتها كواقع اجتماعي وسياسي وقضائي لتنظيم الأمور الحياتية للمجتمع الإنساني المسلم.
