عبدالله الشحي
يتحدَّث خالد المشرفي في المقال الذي يحمل عنوان "أحكام البغاة في كتب الفقه الإسلامي ودلالتها القيمية والسياسية" عن جريمة البغي، فيوضح معناها ويعرفها من أقوال الفقهاء، ثم يعرج على آية الحجرات والتي تعتبر الآية الأساسية لبحث أحكام البغاة. يوضح أيضًا أهمية سيادة الدولة وخطورة تجاوز الحدود ومحاولة زعزعة الأمن وعلاقة ذلك بالبغي، ويوضح الشروط اللازم توافرها في الخارجين أو المحاربين حتى تشملهم أحكام البغي وبعض إشكالات تلك الشروط والمشاكل التي تخلقها. يتناول بالإضافة إلى ذلك كيفية التعامل مع البغاة وقضية الحوار معهم وكيفية محاربتهم وكيفية التعامل مع أموالهم.
لا يخلو أي تجمع بشري من نوع من النظام الذي يحكم أفراده ويُحدد ما لهم وما عليهم، سواء كنظام اجتماعي أو ديني أو سياسي أو مزيج من كل هؤلاء. ويحظى النظام السياسي بالحصة الأكبر في التأثير نظرًا لامتلاكه القوة والسلطة مما يجعل من الطبيعي ظهور أفراد وجماعات لا تروقهم كيفية سير الأمور تحت إدارة النظام السياسي، هؤلاء يتدرجون بين مجرد ساخط من غير فعل إلى مقاوم بالسلاح والقوة. خلال تاريخ الخلافة الإسلامية كانت مختلف تلك الحركات يحتمل أن توصم بالبغي والفساد في الأرض، فمصطلح البغي تمت الإشارة إليه في الآية الكريمة من سورة الحجرات" فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ".
وفي المعجم الوسيط البَغْي:" الظلم والاستطالة على الناس" ويصطلح الفقهاء عموماً على تعريف البغي بخروج فئة على الإمام، ثم يضعون بعض الاشتراطات كشرط التأويل أي أن هذه الفئة تخرج بنية حسنة تريد رفع ظلم أو إحقاق حق أو يرون رأياً غير رأي الحاكم، وشرط آخر هو ضرورة وجود جيش وحركة مسلحة حتى تعتبر بغياً. فمتى ما كانت هناك حركة تملك العدة والعتاد والسلاح والقوة وتواجه السلطة القائمة بناء على رأي وتأويل في أنهم يحسبون أن الحق معهم -فهم لا يخرجون بهدف التدمير وإفساد الأرض- صارت فئة باغية من الضروري محاربتها والتصدي لها.
وأكثر الأمثلة وضوحا والتي يبدو أنها تبرز فيها ملامح البغي هي الخلاف بين معاوية وعلي -رضي الله عنهما- فعلي هو الخليفة لكن الذين حاربوه كانوا يُريدون الأخذ بحق عثمان بن عفان-رضي الله عنه- والاقتصاص من قاتليه، فهم قوم متأولون أصحاب رأي.
كثيرا ما يتم إسقاط هذه الواقعة التاريخية وغيرها من الوقائع المشابهة من التاريخ الإسلامي على الآية المذكورة آنفًا، وينوه الكاتب إلى أن سبب نزول الآية لا يشبه هذه الحوادث التاريخية ولا يصل لنفس التعقيد، فالآية نزلت في قوم حصل بينهم قتال لم يتجاوز استخدام الأيدي والنعال وليس معركة تحت تأثير دوافع سياسية بالضرورة. ولنا أن نتصور كمية التوظيف غير المناسب لهذا الإسقاط في هذا الموضع وفي كل مواضع الخلافات السياسية الأخرى.
يوضح الكاتب أن قضية الفتنة والخلاف بين علي ومعاوية واستخدام ذلك كمثال للبغي أحدث تلازمًا بينهما، هذا التلازم كانت نتيجته أن وضِع شرط التأول كما ذكرنا، ثم يرى أنه في حال افترضنا أن دولتين مُسلمتين تتحاربان فهل يمكن أن يطبق عليهما أحكام البغي. وربما أستطيع الافتراض أن مزيدا من التساؤلات قد تطرح في هذه الحالة، فإذا افترضنا أنها قضية بغي فكيف يتم تحديد الجماعة الباغية وخصوصاً في ظل التعقيدات السياسية في الأزمنة الحالية وكيف يمكن التصرف معهما.
لكن من جهة السلطة داخل الدولة الواحدة فإنِّه من الطبيعي جدا أن تقلق أي سلطة ممن يسبح عكس التيار ويريد أن يكون مغايرا، لاسيما وأن اقترن ذلك بممارسة حركية ذات طابع دموي وعنيف، فمن غير المقبول اليوم انشقاق جماعة من دولة ما ومحاولة الدخول في مواجهة مسلحة ضد الدولة والقوة النظامية فيها ويعتبر ذلك جريمة نكراء. لكن في الحالات الأقل عنفاً يحصل في المجتمعات الحديثة أن تجمع هذه الفئة وتتم مكاملتها مع منظومة إدارة البلاد حتى يستفاد من نقدهم وتعليقاتهم وتوجيهاتهم بما يخدم الصالح العام فلا يحصل صدام هدام.
هناك محاولة الافتراض بأن مفهوم البغي اليوم يقابل هذه الصورة، أي المعارضة بشكلها السياسي، مما يجر معه الإشكالات التقليدية عند الحديث عن أي موضوع له وجود في زمان ومكان مغايرين للاستعمال الحالي، أهمها توظيف المصطلح بدون مراعاة للمتغيرات المحيطة به. فأي مفهوم مستعمل تحت ظرف تاريخي ما لا يمكن اجتثاثه من سياقه وبناؤه على وقائع الزمن الحالي مباشرة، وأرى أنه لابد من فهم وتحليل المفاهيم والعوامل المتعلقة به والتأكد من مدى مطابقتها لعناصر العصر الحالي.
فإذا أخذنا مفهوم البغي حسب تعريفه الفقهي وجب قبل محاولة إسقاطه على وقائع اليوم التأكد من مطابقة شروطه كشرط التأويل الذي يصفه الكاتب بنظيره الحالي "الباعث السياسي" أي السبب الدافع، فإذا تحققت الشروط وتمت المطابقة نأخذ بعين الاعتبار المفاهيم الجديدة الفاعلة والتي يمكن أن تحدث تأثيراً مثل المفهوم الحديث للدولة ومفهوم ولي الأمر وصلاحياته. لأنَّ ذلك كله يلعب دورا ما إذا كان الفعل بغيًا أم لا.
يضاف للمشاكل السابقة أيضًا إمكانية إساءة استعمال الاتهام بالبغي، فيكون ذلك عبر تصدير الاتهامات لكل مخالف أو صاحب رأي، ولهذا فلايصح نسبة هذه الجريمة لأي شخص لمجرد كونه لا يتفق مع السلطة. واليوم ونتيجة التطور في المجال السياسي أصبح هناك سعة وتصنيفات جديدة وطرق مختلفة للتفاعل والتعامل مع المعارض.
البغي بالتأكيد شيء سيئ وجريمة قد تقود إلى نتائج فظيعة، لكن من المهم الحذر عند استنباط الأحكام المتعقلة به وبناء النتائج وفهم الأمثلة والشواهد التاريخية مع ضرورة وجود المرونة في إعادة النظر للأحكام المسبقة والمدونات التراثية حتى لا تظل هذه المفاهيم محملة بالآراء القديمة وغير المتجددة.
