جذور الانفصال البائن فيما بين الكنيسة والدولة

محمد الشحي

إذا اعتمدنا مقولة هيجل التي تقول بأن "تاريخ المشكلة هو مشكلة التاريخ"، فإننا سنقفُ مرة بعد أخرى إزاء مشكلاتنا التي تؤرقنا؛ لننظر في التاريخ الذي أسلمنا إليها، أو أسلمها إلينا، بُغية الوقوف على العوامل التي أسهمت في ظهورها واستمرار بقائها مؤثرةً في حيواتنا. وبنظر هيجل، فإن فهم الواقع، والوعي به، متوقف على فهم التاريخ، تاريخ أي مشكلة، وهو بذلك يكون المشكلة الأولى للوعي بالزمن بأكمله. وبهذا الصدد، يستعرض جوستين مييرز اللاهوتي الأمريكي، لمحة تاريخية حول "تطور الفصل بين الكنيسة والدولة في الولايات المتحدة الأمريكية"، في مقاله المنشور في مجلة "التفاهم" تحت العنوان نفسه. ويهدف الكاتب في مقاله إلى مقاربة تأثير لاهوت جون كالفن في المستوطنات الأمريكية، ومدى حضوره في الواقع.

بدأ الكاتب استعراض الأحداث التاريخية التي مهّدت لما يسمى الإصلاح الديني في أوروبا، والذي قاده القس مارتن لوثر في ألمانيا، ليعم من بعدها أوروبا بأكملها. مؤكدا أن أهم ثمرات هذا الإصلاح هو ذلك التعدد الجديد الذي يمس صلة الكنائس والحكومات المدنية بعضها ببعض. لكنه، أي الكاتب، يشير إلى انفصالٍ موازٍ لحراك مارتن لوثر، وكان الشرارة التي أشعلت فصل السلطة الدينية عن المدنية، وإن لم تكن بهذا القالب المباشر.

ونقصد هنا الطلاق الذي حدث بين الكنيسة الإنجليزية، أيام الملك هنري الثامن، والكنيسة الكاثوليكية الرومانية. كان ذلك بسبب رفض الأخيرة تطليق الملك من زوجته والسماحَ له بالزواج من متعاطفةٍ مع الإصلاح اللوثري. وبالإضافة إلى عقد الشراكة الذي تم فيما بين مجلس مدينة زوريخ من جهة، ورجال الدين من جهة أخرى، الذي تم في عهد هولدريش زوينغلي، ليعملا بشراكة عوَضًا عن حكم الفرد الواحد أو المؤسسة الواحدة. كان هذان الحدثان شكلا متطورا للعلاقة فيما بين الدولة والكنيسة، فبعد أن كانت الهيمنة للكنيسة خالصة، أضحت شراكةً فيما بينهما، يعملان سوية جنبا إلى جنب.

إلا أن الحدث المهم، الذي شكّل منعطفا في تطور العلاقة فيما بين الكنيسة والدولة، هو ما فعله ماتر بوسر بنظام حكم الكنيسة؛ إذ وضع تصورا رباعي الأقطاب لحكم الكنيسة متكوّنًا من: قساوية (رجال دين)، وأساتذة (مدرسين)، وشيوخ، وشمّاسين. وكان هذا المقترح الذي هرب به جون كالفن من ستراسبورغ إلى جنيف، والذي نستطيع أن نقول أنه الشكل الذي تدار به الكنيسة في أمريكا الحالية، بحسب الكاتب.

ليأتي عام 1541 عندما عمد جون كالفن إلى إجراء سلسلة تعيينات كنسية عديدة وافقت عليها الحكومة المدنية، وضعت حكم الكنيسة بين يدي مجمع ديني مكون من رجال الكنيسة وغيرهم من الشيوخ وممن لم يكن في دائرة رجال الدين. وبذلك أصبحت الدولة بمنأى عما يصدر عن الكنيسة، وصارت الكنيسة بمنأى عما يفعله الساسة.

قد أدرك كالفن إمكانية أن يخضع المرء إلى سلطتين شرعيتين منفصلتين ومتوازيتين، اعتمادا على قراءته الخاصة لما ورد في النص التوراتي (رسالة إلى أهل رومية): "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله..."، وما يشابهه في النص الإنجيلي: "أدّوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"؛ فلكل ضرب من الحكومة -الروحية والسياسية- دوره الخاص ورسالته الخاصة.

وقد سمّاهما كالفن بالقضاء الروحي والقضاء الزمني، فالأول شأنه العناية بأمور الروح، ويأخذ بعين الاعتبار تلك الأمور الضرورية للحياة برفقة الرب رفقة أبدية، وهو قضاء داخلي. بينما القضاء الزمني يهتم بالعلاقات الاجتماعية والسياسية، ويأخذ بعين الاعتبار القوانين التي يحتاج إليها للعيش بين بني البشر عيشا كاملا شريفا، وهو قضاء خارجي. وعلى الرغم من إقرار كالفن بالارتباط فيما بينهما، إلا أنهما -في النهاية- أمران منفصلان رغم صدورهما كليهما من الرب.

كان المحرك الذي صبغ عمله صبغة المشروعية هو ما رآه من إمكانية الفساد الحاصل في النظام القائم لحكم الدولة للكنيسة، إذ أشار إلى أمرين قد يحوّلان إدارة الدولة للكنيسة إلى إدارة فاسدة؛ وهما: "من جهة أولى، يسعى الحمقى والأجلاف من بني البشر إلى قلب النظام الذي أقامه الرب إقامة ربانية، بينما -من جهة أخرى- لا يتردد المتملقون إلى الأمراء -إذ يمدحون سلطتهم مدحًا غير معتدل- أن ينصبوا أنفسهم ضد حكم الرب نفسه. وما لم يتم التحكم في هذين الشرين، فإن الإيمان الخالص سوف يندثر". وعلى الرغم مما قد يُلاحظ بأن ما يقرر كالفن لم يكن فصلا تاما بين الكنيسة والدولة، إلا أنه -بلا شك- مهّد لذلك تمهيدا مباشرا، وكان سببا واصلًا للنتيجة التي نراها الآن؛ ففي كلامه المقتبس السابق دلالة على وجوب حصول التوازن فيما بين المؤسسات بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى، وهذا عين الدولة المدنية الحديثة القائمة على المؤسسات.

ثم صار أن انتشرت أفكار جون كالفن، لتعم المعمورة الأوروبية، ومن أجل تهيئة الكلام حول ما حدث في أمريكا، ركّز الكاتب على الحالة الهولندية والإنجليزية؛ فالأولى حافظت على تطبيق معتدل للاهوت كالفن، ويُعدّ إقرار الدولة بالسماح للمواطنين بعدم التبعية لإحدى الكنائس ما لم يشكلوا خطرا على الدولة -تقدما في مجال الفصل ما بين الكنيسة والدولة، كما رفضت الدولة دينا بعينه يكون له الاحتكار فيها. إلا أن الثانية، إنجلترا، شهدت تطبيقا حماسيا وصادما للاهوت كالفن؛ فكان من الطبيعي أن يجدوا حملة مضادة وسمتْهم بالطهرانيين كعلامة قدحية، ليكوّنوا في نهاية المطاف في أمريكا (إنجلترا الجديدة) الكنيسة البروتستانتية التي عارضت بقوة إقامة مراسم الزواج بمباركة أحد رجال الكنيسة، واكتفوا بقاضي الصلح الذي لا يمثل أي كنيسة، كما حافظوا على الفصل الدائم ما بين الكنيسة والدولة بسبب المعاملة السيئة التي لاقوها من مركب الكنيسة/الدولة في إنجلترا. وبذلك تم الفصل البائن ما بين الكنيسة والدولة في أمريكا.

إن هذه المقاربة التي قدمها جوستين مييرز، وإنْ بدت مثل التأريخ الموضوعي لما وصلت إليه الكنيسة من تطور، إلا أنها -من وجهة نظري- لم تختلف كثيرا في دوافعها لتكريس الاحتفاء بالدين. وعطفا على ما سبق في المقدمة، فإن مشكلة الدين ليست في تاريخيته بل في قابليته الازدواجية التي حافظت على بقائه وإنْ بأشكالٍ مشوِّهة له.

أخبار ذات صلة