بسام الكلباني
يتساءل حسام الدين دوريش في مقالته بمجلة التفاهم تحت عنوان "الترجمة بوصفها أنموذجاً إرشادياً للهيرمينوطيقا" عن مدى إمكانية أن يكون فعل الترجمة أنموذجاً إرشاديّاً للهيرمينوطيقا من خلال استفتاح مقالته بجملة لبول ريكور: "أن تفهَمْ يعني أن تُترجِمْ". وبوضوح وإيجاز اعتّد من خلالها - العبارة - عن إمكانية أن تكون الترجمة أنموذجاً هيرمينوطقياً إرشاديّاً ثالثاً بعد نموجي الرمز والنص.
"الترجمة هي ظاهرة عالمية تقوم على قول الرسالة نفسها، بطريقة أخرى، وفي الترجمة ينتقل المتكلّم إلى العالم اللغوي لنصٍّ أجنبيِّ، وفي المقابل، هو يستقبل في فضائه اللغوي كلام الآخر" هكذا عرّف بول ريكور فعل الترجمة في كتابه (le paradigm de la traduction). ولتوضيح نموذجية فعلِ الترجمة بالنسبة إلى الهيرمينوطيقا؛ يقتضي إثارة أهم المسائل التي تتناولها هذه الهيرمينوطيقا، والتي تتمثّل عموماً في: الفهم وسوء الفهم أو عدمه، وأخلاق الحوار والتواصل، والعلاقة الجدلية بين الأنا والآخر، وبين المألوف والغريب، وبين فهم الذات وفهم الآخر.
ولتوضيح هذا النموذج الإرشادي؛ وجب اكتشاف التوازي والتداخل بين فعلي الفهم والتأويل من جهة، وفعل الترجمة من جهة أخرى، وسنقوم في البداية بعرض موجز لتحليل ريكور لفعل الترجمة، قبل العمل على إظهار السمة النموذجية الإرشادية لهذا الفعل بالنسبة إلى هيرمينوطيقا الحوار، والتدليل على الأطروحة القائلة بأنّ الترجمة تمثل النموذج الإرشادي الثالث للهيرمينوطيقا الريكورية، بعد نموذجي الرمز والنص.
الترجمة هي نموذج للِّقاء مع الغيريَّة، مع ما هو غريب أو أجنبي. وقد وضع ريكور الصعوبات المرتبطة بالترجمة تحت العنوان الذي اختاره أنطوان بيرمان لكتابه "امتحان الغريب". إنّه ينبغي أن يؤخذ مصطلح الامتحان أو المحنة هنا بمعنيين: أوّلهما: عذابٌ مُعانى، وثانيهما: مدّة الامتحان، وما هو موضع امتحان أو محنة هو الرغبة أو الدافع إلى الترجمة. ويكمنُ الامتحان في تحقيق الوساطة بين ما هو غريب أو أجنبي – العمل، الكاتب، لغتهما وثقافتهما- والقارئ ولغته وثقافته. وتشكّل هذه الوساطة محنةً، بقدر ما يقوم فعل الترجمة كما يقول ريكور: "على خدمة سيّدين: الأجنبي داخل عمله، والقارئ في رغبته في التملُّك" ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن القيام بهذا العمل المتناقض؟ ولماذا يبدو صعباً أو مستحيلاً القيام به؟
تمثّلُ الترجمة – بوصفها محنةً في العلاقة مع ما هو غريب – تحدياً؛ لأنّها تواجهُ مقاومةً مزدوجة من جانب اللغة المستقبِلة ومن جانب اللغة المستقبَلة (بفتح الباء) أو الأجنبية، وتعبّر المقاومة التي تقوم بها اللغة المستقبِلة عن نفسها فيما أسماه ريكور "عمل الذاكرة" و "عمل الحِداد". ففي مواجهة عمل الترجمة، ثمة مقاومة وكفاح ضد خسارة اللغة المستقبِلة (بكسر الباء) لقداستها ولاكتفائها الذاتي. ومن دون القبول بهذه الخسارة التي لا يمكن تجنّبها في عمل الترجمة، لا يمكن الفوز بالرهان أو التحدي الذي يمثله عمل الترجمة. وفي المقابل نجدُ مقاومة موازية من جانب اللغة الأجنبية، وتظهر هذه المقاومة بداية في شكل استيهامي أو خيالي متمثّل في وهم أو حلم الترجمة المثالية الكاملة. ووفقاً لهذا الوهم، ينبغي أن تكون الترجمة مطابقة للأصل وتكراراً له بلغةٍ أخرى. ولا تقتصرُ مقاومة اللغة الأجنبية لعمل الترجمة على هذه الصيغة المثالية الخيالية؛ وإنما تنبعُ أيضاً من صعوبة - أو استحالة – التوفيق بين الحقلين الدلاليين المختلفين للغة الاستقبال واللغة الأجنبية.
يمكن لوهم الترجمة الكاملة والذي ينبغي التخلّص منه أن يظهر في عدّة أشكال وصيغ. وقد أشار ريكور إلى شكلين من هذا الوهم أو الحلم أو الأمنية بشكلٍ خاص، يرتبط الشكل الأول بالتوجّه نحو العالمية، ويتمثّل في السعي إلى تأسيس مكتبة شاملةٍ وكاملةٍ، تضمُّ كل الترجمات لكل الأعمال، وفي كل اللغات. وهذا حلم تأسيس كتاب كلِّ الكتب، حيث يستبعد كل إمكانية لعدم القابلية للترجمة. أمّا الشكل الثاني لحلمِ الترجمة الكاملة؛ فيتّسمُ بطابع انتظار المسيح المخلّص – على حدِّ تعبير ريكور – والمنشود من هذا الشكل هو لغة صافية، "تحمل كل الترجمات عنها، في داخلها ما يشبه صدىً مخلصاً"، ونجد في كلِّ صيغ الترجمة المثالية الكاملة أمنية تحقيق ربحٍ دون تكبّد أي خسارة، وينطوي التخلي الضروري عن هذه الأمنية على حداد على هذه الأمنية المستحيلة التحقيق.
وبانتقاله - ريكور- إلى النموذج الإرشادي الثاني لأبحاثه الهيرمينوطيقية (النصوص)، أي من هيرمينوطيقا الرموز إلى هيرمينوطيقا النصوص، لم يغادر ريكور الحقل اللغوي؛ فالنص هو أكبر وحدةٍ لغوية، ونجد في هذا النموذج أنَّ التعددية هي سمة سائدة، سواء على مستوى دلالات النصوص أم معانيها ومرجعيّاتها، أم على مستوى فهم أو تأويل هذه الدلالات، فانفصال الدلالة الموضوعية للنص عن القصد الذهني الذاتي لمؤلفه يفسح المجال أمام بناء أو تكوين هذه الدلالة أو الدلالات بطرقٍ متعددة، ولقد أبدى ريكور دائماً اهتماماً خاصاً وكبيراً بهذه التعددية في الدلالات، وبصراع التأويلات المرتبط بها، وأكّد أنه يوجد دائماً إمكانية لظهور تأويلات متعددة ومتنوّعة ومختلفة، ولظهور أكثر من طريقة أو أسلوبٍ في بناء أو فهم نصٍ ما. وما قلناهُ عن النص ودلالاته وتأويلاته ينطبق على الفعل ودلالاته وتأويلاته؛ فدراسة ريكور الهيرمينوطيقية للفعل تأسّست على نموذج النص، وتم اعتبار الفعل موضوعاً هيرمينوطيقياً بامتياز؛ لأنه مماثلٌ للنص أو شبيهٌ به.
أخيراً: إنّ التحليل الريكوري لفعلِ الترجمة يفسحُ المجال - بشكلٍ جليٍّ وقويٍّ- أمام الأطروحة القائلة بأنّ هذا الفعل يمثّل نموذجاً إرشاديّاً، ليس لهيرمينوطيقا بول ريكور فحسب؛ بل وللهيرمينوطيقا بشكل عام أيضاً، فـ "الفهم هو ترجمة" كما أكّد ريكور مع جورج شتاينر؛ كما تحدّث ريكور نفسه مراراً عن الترجمة بوصفها نموذجاً إرشاديّاً. كما يمكن مقاربة أو مقارنة مفهومه عن الترجمة الداخلية بمفهومي التفسير والتأويل؛ فالتفسير ترجمة، لأنه محاولة قول الشيء نفسه بكلمات أخرى، والتأويل ترجمة، بقدر ما يتضمّن قول المعنى نفسه، بصيغة أخرى، وفي المقابل، الترجمة لا تتضمّن التأويل أيضاً؛ لأنّه من الممكن دائماً ترجمة كلامٍ ما، بطريقة أخرى. فمع الترجمة، مثلما هو الحال دائماً مع التأويل، نكون دائماً في حقل الممكن لا الضروري، في حقل المفاضلة بين خيارات، لكلٍّ منها معقوليّته النسبّية والجزئيَّة. يبقى أن نسأل: هل يمكن لأي ترجمة أن تتخلّص من بعدها السيكولوجي؟ ذلك حلم ريكور أيضاً.
