وليد العبري
يواجه المتصدي لدراسة تاريخ اليهود في مصر - وخاصة الفترة الحديثة - مشاكل عديدة. تبدأ بتنوع مصادره ومظانه البحثية؛ لأنّه ليس من اليسير الكلام في بضع صفحات عن تاريخ يهود مصر، ولا شك أن الإغراء يشتد في التصميم أو في الاكتفاء بالأحداث البارزة، بينما يتسم تحليل التاريخ بالدقة والتدرج، حيث قال عبدالحميد ناصف في مقاله، المنشور بمجلة "شباب التفاهم" لعلنا سنجد خلال تلك الفترة الطويلة من تاريخ اليهود بمصر عديداً من مناطق الظلال بسبب الغياب القاسي للوثائق التي يمكن بجدية الاستناد إليها، على أنه من حسن الحظ أن إلقاء الضوء على وثائق الجنيزا تتيح لنا التقدم بخطوات ثابتة في التعرف على تاريخ يهود مصر.
إذا تعد علاقة اليهود بمصر علاقة من نوع خاص؛ إذ إنهم قد ارتبطوا بها منذ زمن، وكانت علاقة اتصال منذ عصور موغلة في القدم، وفي فترة الحكم العثماني لمصر، وصل اليهود إلى المناصب العليا في الدولة، واستمرت أعدادهم في الزيادة مع هجرة يهود آخرين من الأندلس وتطور وضعهم إلى وضع أفضل كثيرا.
وفي فترة لاحقة شجع محمد علي حاكم مصر المتنور التسامح دينيا، وعمل على استقدام الأجانب، وبدورهم وجدها اليهود فرصة للعمل في المؤسسات المالية والاقتصادية مع هؤلاء الأجانب، وامتد الأمر حتى قامت الطائفة اليهودية ببناء مدارس ومستشفيات ومعابد ومؤسسات خاصة بها.
ومن الطبيعي أن يكون للمستشرقين اليهود والباحثين الأجانب اليد الطولى والأسبقية في دراسة تاريخ يهود مصر، وهو أمر بالغ الخطورة؛ لأن ذلك يترك لهم مجالاً واسعاً أمام التوظيف السياسي للتاريخ وتطويع أحداثه والخروج بنتائج تصب في اتجاه التأكيد على وجود متميز وقديم للجماعة اليهودية بمصر ككيان منفصل قائم بذاته، له خصوصيته وتفرده وثقافته وحضارته المستقلة بمعزل عن محيطه الاجتماعي العام.
ويعتقد أنّ التاريخ اليهودي يعاني من أزمة في المصادر أو أنّ هناك مشاكل عائقة، لمصادر التاريخ اليهودي، من حيث التنوع والتعدد، وأنّها مسألة أحادية المصادر؛ أي كونها مصادر يهودية في معظمها، الأمر الذي يعرض الموضوعية التاريخية للخطر، وأخيرا قضية لغة المصادر اليهودية، فكل طائفة منهم في كل بلد كانت تكتب بلهجة مختلفة عن لهجات البلد الذين يحيون فيها.
ولا شك أن في بقاء أوراق الجينيزا الخاصة بالمعبد اليهودي بالفسطاط إلى مطلع القرن الـ20 دليلا ضمنيا على مدى التسامح الديني الذي منحته الحكومات الإسلامية التي تعاقبت على حكم مصر للجالية اليهودية بالقاهرة وباقي أقاليم مصر. كما تؤكد أوراق الجنيزا على غلبة مظاهر الحضارة العربية الإسلامية على الجالية اليهودية التي عاشت بمصر، فأغلب هذه الأوراق مكتوب بالأحرف العربية وليس بالعبرية، وحتى الذي كتب منها بالعبرية كتب أيضاً بالعربية، بل إنّ لفظ الجنيزا في حد ذاته دليل آخر على غلبة الثقافة واللغة العربية على الجالية اليهودية في محيط القاهرة؛ لأنه محرف من اللفظ (الجنازة) قياساً على أن هذه الأوراق كانت تدفن على نحو ما يدفن الموتى.
وهناك حوالي 7 آلاف وثيقة وأجزاء من الوثائق الخاصة بتاريخ اليهود في مصر وفلسطين ومجمل حوض البحر المتوسط، وتعود أقدم وثيقة إلى عام 750م، بينما يعود أحدثها إلى القرن العشرين، غير أن أغلب النصوص يرجع إلى القرون من العاشر حتى الثاني عشر الميلادي.
ويبقى السؤال: لماذا كانت كمية وثائق الجنيزا التي وصلتنا ضخمة في العصر الفاطمي المتأخر والأيوبي عن باقي العصور الأخرى؟ وتكمن الإجابة في اضطرار يهود الأندلس إلى الفرار أمام حملات الإبادة الجماعية التي وجهتها حركة الاسترداد Reconquista المسيحي في الأندلس، والمعروفة بالـ Reconquesta إلى بقايا المسلمين واليهود في الأندلس، في الوقت نفسه تعرضت الجاليات اليهودية في كل مكان من إيطاليا وفرنسا وإنجلترا إلى عمليات وحشية للإبادة التامة، فكان أن اتجه اليهود إلى البلاد الآمنة في ذلك الوقت والتي منها مصر.
- وقد دخلت مصر -الموطن الأصلي للجنيزا- مجال المحافظة على تلك المصادر الهامة ودراستها فقد أنشأت بكلية آداب القاهرة مركزاً للدراسات الشرقية من بين شعبة الجنيزا، وأصدرت دليلاً لوثائق الجنيزا الجديدة التي تظهر لأول مرة.
غير أن البحث والعمل في وثائق الجنيزا ليس بالأمر السهل وذلك لاعتبارات وصعوبات منها:
- أنها ليست من سجلات المحفوظات الرسمية.
- صعوبة حل رموز بعض كتابات الوثائق الجنيزية.
- معظم الوثائق لا تحمل تواريخ.
- معظم المادة العربية في الجنيزا كتبت بحروف عبرية، والعارفون بها قلة من المؤرخين.
وفي إطار الحديث عن نتائج العمل والاشتغال في الجنيزا يجدر بنا بداية مناقشة مسألة تواكب جهود جمع الجنيزا مع تطور الحركة الصليبية، حيث يعتقد أن محاولة البعض إلصاق الجنيزا بالصهيونية تلوي عنق الحقيقة، كما أنها متهافتة؛ فالباحث المشتغل فيها يدلل بأدلة واهية مثل: أن مجموعات الجنيزا جمعت وتكونت في المكتبات العامة للدول الكبرى، التي تبنت فكرة قيام إسرائيل، فبالنسبة لأمريكا وصلها أول نصوص الجنيزا على يد "كيروس أدلر" عام 1891م، وأيضاً بمحاولة ربط استعمار إنجلترا لمصر ببداية التنقيب عن الجنيزا.
وغني عن القول أن أعظم هدية قدمتها الجنيزا هي الإدراك الودي لروح وأفكار أهل حضارة العصور الوسطى، فهي لم تزودنا فقط بخطابات خاصة، ولكنها زودتنا بخطابات أعمال لرجال مثقفين في مجموعاتهم، وهؤلاء التجار الذين كانوا بشرا بالفعل ومهذبين للغاية، كانت لهم أيضاً اتجاهاتهم الفلسفية ونظرتهم نحو المكسب والخسارة.
وبالنسبة لوثائق وأوراق الجنيزا الجديدة، فقد نشر دليل عام لها يحتوي على مضمون تلك الوثائق، لعله يساعد الدارسين في سبر أغوار تلك المصادر، وحيث صنفت تلك المصادر الوثائقية إلى موضوعات تخص: التعليم، والشؤون الدينية، والحياة الاجتماعية، والنظم الاقتصادية، أغلبها تنتمي للنصف الأول من القرن العشرين، وتنتظر الباحثين للعمل فيها، وإخراج دراسات جادة في تاريخ مصر والمنطقة العربية وحوض البحر المتوسط.
وأخيرا، فمن المحقق أن كُتاب الخطابات والحجج التي وجدت في جنيزا القاهرة كان معظمهم من اليهود، على أن ما لا يقل عن 80% من هذه الوثائق المحفوظة لم يكتب بالعبرية، ولكن كتب بالعربية، لغة حضارة ذلك الوقت، ولقد ذكر المسلمون والمسيحيون كثيراً في هذه الوثائق. الأمر الذي لا يعطي انطباعاً بأن اليهود في ذلك الوقت كانوا أقل حركة من أعضاء المجتمعات الأخرى. على أية حال، فإن القدر الهائل من حرية الحركة الذي تمتع به الناس، والذي عكست لنا صورته جنيزا القاهرة، كان من المستحيل أن يتحقق ما لم يكن لهذا الشعب حق قانوني في ذلك، وما لم يسمح بذلك مناخ السياسة العامة في الولايات المعنية، وأبلغ شهادة عن حرية الحركة هذه تأتي من الصمت عن تقلصها وتوقفها في آلاف خطابات الأعمال والخطابات العائلية الكاملة والقطع المتناثرة من هذه الخطابات.
