مُحمَّد الشحي
إنَّ من أكثر حقول الفلسفة طرقا، وأكثرها تعقيدا، وأكثرها تحصينا ضد آلة الفكر العقل، وأكثرها عصيانا على المقاربة السهلة، وأكثرها تمنّعًا، ذلك الحقل الذي يشوك أقدام كل سالك في سبيله: الدين. إذ يعد الدين من الأسئلة المؤرقة لسيل غير منتهٍ من المفكرين والفلاسفة الذين سعوا، وما زالوا، إلى تفكيك بنيته، والتعرف على طبيعته التي يعمل بها، وإعادة بنائه بما يخدم الإنسان الحديث. يطالعنا الفيلسوف البريطاني، في مجلة "التفاهم"، بمقاله الموسوم بـ"كيف يتكون الدين؟ العقيدة والإنسان والمجتمع"، والذي يعد فصلا من كتابٍ له يحمل العنوان ذاته.
ينظر الكاتب إلى الدين بوصفه رابطا بين عدد من المفاهيم النفسية، لا سيما مفهوميْ الانتماء والمعنى؛ إذ يقول بأن الدين، في أشكاله الأولى، كان معززا لقيمة انتماء الفرد للجماعة والوعي بالوحدة الاجتماعية والمسؤولية الاجتماعية من خلال المقدَّس. وهو ما أضفى معانيَ عديدة للحياة. إن هذه المقاربة الأولية تحلينا إلى مدارس نفسية حاولت تفسير ظاهرة الدين، ولعل مفهوم الانتماء يذكرنا بهرم عالم النفس الأمريكي ماسلو للاحتياجات الإنسانية، وهو الدرجة الثالثة من الهرم بعد الحاجات الفسيولوجية والإحساس بالأمن. وأما ثاني المفاهيم، المعنى، فيذكرنا بمدرسة المعنى التي كان رائدها عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى"، الذي يقرر فيه أن الإنسان يمكنه العيش في أحلك الظروف وأصعبها إذا ما تمكّن من خلق معنى يستطيع العيش من أجله، مثبتًا فرضيته بتجربته الخاصة في سجون النازية.
إلا أن الدين توقف، حسب الكاتب، عن كونه محركا لتقدم الأمم منذ قرون مديدة، وهي بذلك تكون قد أدّت واجبها بإنقاذها الفضائل القديمة التي جعلت من الجماعات مجتمعات كبرى، لكنها لم تجاهد ساعيةً لتجعل من حيوات الجماعات "دولة الله" أو مدينته. إن هذا الوجه الاجتماعي للدين، يجعلنا ننظر إليه بوصفه مُنشئًا لمنظومة أخلاقية اجتماعية، وهو بذلك يتقاطع مع مفهوم العادات والتقاليد أو العرف في الثقافة العربية، إلا أن الفارق بين المنظومتين الأخلاقيتين هاتين أن الدين يقدَّم بوصفه ذا طابع مقدَّس، الأمر الذي يعطيه قيمة بقاء أطول من غيره؛ فصفة القداسة أشبه بجهاز المناعة وخط الدفاع الأول من زعزعات الحوادث التي قد تمسّ أي منظومة أخلاقية.
ولعل أحد أشكال الوعي بالجماعة الكبرى، السفر. فالمرء عندما يرتحل فإنه يتحرك بحمولة ثقافية ودينية واجتماعية، ليلتقي بأفراد جماعات أخرى يختلفون، بنسب متفاوتة، عنه في طرائق التفكير وتعاملاته مع الأشياء من حوله في العالم. ولا نغفل سمة الخوف من المختلف لدى الإنسان؛ فهو يشعر بتهديد وجوده في ظل تزاحم الأفكار المتنافرة وغير المتسقة، لكن الخوف من إظهار خوفه مع ما قد يستتبع ذلك من مشكلات مع الآخر يطغى على تفكيره ولا يتمكن من غربلة ما لدى الآخر من أفكار ومنظومات، فلا يبقى سوى أن يُظهر نوعا من الدبلوماسية حفاظا على سلامته، وبذلك ينشأ البُعد السياسي للدين، وبعد ذلك، عندما يأمن المرء على وجوده، يستطيع عقد المقارنات والتحليلات فيغربل منظومته مقارنة بمنظومات الآخرين.
يتحدَّث الفيلسوف عن الدين العقلاني، ويصفه بأنه رد الفعل الواعي للإنسان على مجريات الكون والمحيط الذي يجد نفسه فيه، وهو ناتج للوعي الإنساني بالعالم. ومثّل لهذا الجين العقلاني بالدولة الرومانية التي شبّه الدين فيها بالمواد القانونية التي لا تمنع -وحدها- وقوع الجرائم. وبكلمات أخرى يمكن القول إن الدين في الدولة، لاسيما الإمبراطورية، يبحث عن مسوِّغات وجود المختلف عنه في الإطار نفسه، وهو ما يسميه بالدين العقلاني. لكنني أتوقف هنا لأسائل الفيلسوف: كيف يسوغ لنا أن نصف دينا بوصفٍ إلا إذا كان هذا الوصف نابعا من طبيعته ويكون داعيا إليه، فهل يدّعي أي دين أنه يدعو إلى العقلانية في تقبّل الآخر كما هو؟
يصف الكاتب طبيعة التجربة الدينية بأنها "قوة الإيمان التي تنظّف داخل الإنسان"، وأن الحياة الدينية "هي الفن والنظرية للحياة الإنسانية الداخلية". وعند التدقيق في التعبير الأول نجده غارقا في العمومية، مموِّها أكثر منه موضِّحا، ولعله يحاول وصف مشاعر إنسانية تصاحب التجارب الدينية؛ مثل: التأمل والصلوات...وغيرها، مشاعر السموّ عن كل ما هو أرضي، والنزوع نحو السماوي المتكامل حسب التوصيفات الدينية التي تقابل بين السماويّ والأرضيّ. بَيْد أنَّ وصفه للحياة الدينية بالفن فبما هو سلوك وعبادات، وهي نظرية للحياة بما هي عقائد ومعارف.
يطرح الكاتب فرضيته في تأسس الدين من كونه يدور حول ثلاثة مفاهيم رئيسة؛ هي: القيمة الذاتية للفرد الإنساني، والقيمة التي تظهر للأفراد فيما بينهم في هذا العالم، وقيمة العالم الموضوعي باعتباره جماعة والعلاقات المتبدلة والخصبة الصافعة للعالم وأفراده، والتي تبدو ضرورية لوجود كل فرد.
ومن خلال الجدلية التي تنشأ عن تفاعل هذه المفاهيم فيما بينها، يظهر لنا الدين ويتشكّل في أطوار تختلف تبعًا لنظرة الفرد لذاته أولا، والمقدار الذي يعطيه لها من حقوق وما يملي عليها من واجبات، وتبعًا لنظرة الأفراد (المجتمع) لعلاقاتهم فيما بينهم، والحدود التي يضعونها للتعامل مع بعضهم بعضا، وأخيرا يتشكل الدين في جدلية تابعة لنظرة الأفراد للعالم الموضوعي من حولهم.
وينهي الفيلسوف مقالَه بالحديث عن آلية "الحدس" في التعرف على وجود الله، ودورها الفاعل في الوصول إلى الحقائق، مستندا إلى تراث الإغريق في تحليل المقصود بالحدس. فالحدس، عنده، هو الشعور الطبيعي ناحية الأشياء؛ مثل شعور الأم بحقيقة ما بخصوص أبنائها دون أن تتمكن من القدرة التعبيرية عن هذه الحقيقة التي تشعر بها. لكن المفارقة الحاصلة أن الكاتب يستمر في تأكيده على الجمع بين الحدس كآلية ميتافيزيقية والعقلانية التي تنطلق من أرض فيزيقية بالضرورة، وهذا الخلط بين ما هو فيزيقي وما هو ميتافيزيقي يجعل المقال مخلخلا وغير مُتكئ على أرضية صلبة متسقة من التحليل.
وختامًا، كانت مقاربة الفيلسوف الإنجليزي لسؤال "كيف يتكون الدين؟" مقاربة غير واضحة المعالم من حيث المنهج؛ فهو تارة يستعمل مفاهيم من علم النفس، وتارة من علم الاجتماع، وتارة من الفلسفة، وليس هذا خطأ محضًا، إلا أنه لم يوضح في مقاله السبيل التي يسلكها والأسئلة التي توجّه بحثه في سبيل الإجابة عن السؤال الكبير الذي عَنْوَن به مقاله.
